للبدايات سحرها الخاص ،تبقى دائما عالقة في الذاكرة والوجدان، مثل ظلنا القرين،لصيق بنا في الحل والترحال، مهما كانت الإخفاقات أو النجاحات فلن يستطيع الزمن طيها.
البدايات كانت دائما صرخة اكتشف معها المرء لغز الحياة،
وككل بداية أو أول خطوة تحضر الدهشة بكل ثقلها، نعيش تفاصيلها بإحساس مغاير تماما ،وهو الإحساس الذي يكتب له الخلود ،نسترجعه بكل تفاصيله وجزيئاته، كلما ضاقت بنا السبل أو ابتسم لنا الحظ وأهدانا لحظة فرح عابرة.
البدايات في كل شيء، دائما هناك سحر غامض يشكل برزخا بين الواقع وماتتمناه النفس الأمارة بالحياة والمستقبل الأفضل.
في هذه الزاوية نسترجع بدايات فنانين مغاربة عاشوا الدهشة في أول عمل فني لهم، واستطاعوا تخطي كل الصعوبات كل حسب ظروفه المحيطة به، ليبدع لنا عملا فنيا ويهدينا أغنية تشكل اليوم له مرجعا أساسيا في مسيرته الفنية ،وتشكل لنا لحظة بوح من خلال استرجاع عقارب الزمن إلى نقطة البدء، وتسليط الضوء على ماجرى.
الفنان سعيد المفتاحي، الملقب بسفير الملحون، سبق أن تولى رئاسة جوقة الملحون في مدينة مكناس. وهو الآن رئيس فرقة الملحون بفرنسا حيث يقطن، عضو في مؤسسة حقوق التأليف العالمية، عضو بمؤسسة «لدامي» الفرنسية لحماية حقوق الفنان وعضو بالمكتب الشرفي لجمعية «ربيك «الإفريقي.
عن مساره الفني يتذكر الفنان سعيد المفتاحي لحظة ولعه بهذا المجال بالقول، «كلنا ندرك أهمية المكان في تكوين مسار الفنان والعبد لله الضعيف، وكان تأثير الأمكنة التي كنت أتردد عليها مع جدي وأبي رحمهما الله بالعاصمة الإسماعلية مكناس واضحا في مساري المتواضع، هذه الأمكنة التي كانت عبارة عن متحف لبعض فنون قولنا الوطنية، ومنها شعر الملحون والفن العيساوي، حمادشة، أهل التوات، كناوة، هذه الفنون وأخرى كانت مدرسة أولية أتعـلم منها أصول الفنون، لقد كنا ننتقل بين أحياء ( برّاكة وباب البرادعيين والسّرايْرية، ورحبة الزرع القديمة، وقبة السوق، وساحة باب المنصور، وساحة لالة عودة )».
ويبقى حيّ جناح الآمان، يضيف الفنان سعيد المفتاحي، «هو المكان القابع في كياني لأنه حيّ الألفة والصّبا والأسرة، حيث شاءت الأقدار أن يحتضن مجموعة من أهل الفن والقول الجميل، كالمقدّم الجيلالي الهواري الذي كان يُلقـّب بـ: ( سلطان الطبّالة ) كما كانت توجد بالحي مجموعات فنية تراثية كأهل لتواتْ والفرقة النسوية ( المعلمة ) وبعض أفراد مجموعة عمراوة الشهيرة، وعلى رأس الجميع عميد المنشدين المجددين الحاج الحسين التولالي الذي كان يقطن وقتها في درب لعبابسة…
أمّا حي البرادعيين الذي له مكانة خاصة في ذاكرتي، والذي كنت أذهب إليه بعد الخروج من المدرسة لأتعلم حرفة النقش على الخشب في معمل الفنان بنسالم اليازغي رحمه الله، الذي كان قبلة لخيرة المهرة في مجال النقش على الخشب على المستوى الوطني، إضافة إلى أنهم قد ملكوا الحسنيين، إذ جمعوا الدراية في الصناعة التقليدية، والولع بأنواع الموسيقى المغربية بكل أشكالها، ومن الأعلام الذين أتذكرهم، حبيبي قدّور، والمعلم السرغيني، والمعلم العلمي حميش رحمهم الله جميعا، وبهذا المعمل تعرفت على شاب يمتهن الموسيقى ومن المتميزين في صناعة الزخرفة المغربية على الخشب، اسمه العلمي العود، الذي تعلمت منه الشيء الكثير على مستوى الإيقاعات جزاه الله خير الجزاء، وكذا مولاي علي الذي كان يُشرف على مجموعة موسيقية متمرسة. كل هذا وأشياء أخرى من أيام الطفولة كان من الطبيعي أنني أتأثر بفن من الفنون التي تربيت في أحضانها.هذه التراكمات، يضيف الفنان سعيد المفتاحي، اعتملتْ وخلقت بداخلي حبا كبيرا لفنوننا
المغربية، وخصوصا فن الملحون، فقد كنت أتعقب مسار شيخ وقور يتجول بالمدينة القديمة، وهو يردد أشهر قصائد شعراء الملحون بمكناس، مثل سيدي عبد القادر العلمي، والشيخ لفقي
لعميري بصوته السجيّ، بالإضافة لفنّ الحلقة التي تعرفت من خلاله على أشكال من فنون القول والحكي والغناء، وحببت إلي إيقاعات الوطن المتناغمة، هذه الحلقات التي كانت تستقبلها مجموعة من الساحات والأمكنة، كساحة لهديم المقابلة لباب منصور العلج، وساحة للاعودة التي كانت قديما عبارة عن محطة طرقية لجميع اتجاهات المملكة، وساحة البردعيين التي كانت تستقبل بمناسبة عاشوراء أجواء احتفالية كبرى من أهمها الأورجوحات الخشبية الكبيرة، التي يطلقون عليها (النـّواعر)».
باختصار، يقول الفنان سعيد المفتاحي، «يمكن أن نستنتج مما سبق، أن طفولتي كانت استثنائية، أي لم تكن عادية مشبعة باللعب والشغب الطفولي المعتادين، ولكنها طفولة تجمع بين التلقين المدرسي والتلقين الحرفي، سواء تعلق الأمر بصناعة النقش على الخشب، أو مساعدة الأم والجدة في صناعة الحرير التقليدي ،التكرير ، وسط هذه الأجواء وما كانت تلتقطه أذني من أنغام موسيقية، سواء تعلق الأمر بالمذياع المرافق لدقات مهرة النقش على الخشب، أو الأحياء التي أمر منها، أو بداخل منزلنا…».
عن أول أغنية دشن بها مشواره الفني، يجيب المفتاحي، أنه شريط يضم مجموعة من قصائد الملحون منها «ناكر لحسان» ،» مزين وصولك « يامنة «الغفار «, وقد كان هذا المشروع الفني لفائدة إحدى دور الإنتاج المعروفة بمدينة فاس آنذاك.
ويشرح الفنان سعيد المفتاحي، «لقد حاولت في هذا الإنتاج الفني الأول في مساري الملحوني أن أتعامل مع مجموعة من المواضيع, والكل يعلم أن هذا الفن غني بالأغراض الإنسانية، وقد اخترت منها لهذا الشريط، التوسلات، المدح النبوي، الغزل أو ما يسمى في شعر الملحون بـ «العشاقي «.
وقد تعاملت مع مجموعة من المتخصصين في العزف الملحوني من مدينة فاس ومن العاصمة الإسماعيلية مكناس، وبخصوص الشعراء فقد تم الاتفاق بيني و بين المنتج على شعراء من حقب تاريخية مختلفة منها الشعر القديم والمعاصر ويتعلق الأمر بالشاعر أنجار، الشيخ سيدي عبد القادر العلمي، الشاعر المصمودي، والفقيه الحاج أحمد الطرابلسي…».
طبعا، يوضح الفنان المفتاحي، «لا يخلو أي عمل فني من الصعوبات وخصوصا في بداية الطريق، إما من بعض المنافسين لك في المجال، أو من بعض من يحاربون النجاح بكل أشكاله، لكن لله الحمد أن هناك شرفاء في وطننا الغالي يدعمون الفن المغربي الأصيل في مجموعة من المجالات الإبداعية، فعندما يؤمنون بك وبفنك، يدعمونك ويعبدون لك الطريق، ومنهم منتجون وغيورون على الفن المغربي الراقي، وإعلاميون جزاهم الله عنا خير الجزاء…».
وبخصوص رد فعل الجمهور والوسط الفني، يقول «لله الحمد والشكر أن ردة فعل الجمهور كانت مفاجئة بالنسبة لي وحتى للشركة التي أنتجت هذا العمل، وهنا أضيف أن هذا الشريط هو الذي من بعد الله سبحانه وتعالى جعل الناس تبحث عن العبد لله الضعيف، وتتابع مساري الفني.
بما أن هذا العمل قامت بإنتاجه شركة خاصة بالإنتاج الموسيقي، لم أعرف كم هي الميزانية التي تطلبها هذا العمل، إذ هي من تكلفت بتعويضات الموسيقيين والإقامة وتكاليف الأستوديو وبتعويضي شخصيا عن الأتعاب الخاصة بي…».
ويتذكر الفنان سعيد المفتاحي أنه قبل هذا الشريط كانت العائلة «رافضة لممارستي أو احترافي الميدان الفني، لكن بعد إصدار ألبومي الأول تلقيت كل الدعم والتشجيع من كل أفراد عائلتي» .
وفي ما يتعلق بتقييمه لهذا العمل الفني اليوم، يرد الفنان سعيد المفتاحي بالتأكيد أن الفنان لا يرضى عن أعماله التي سبق وأن أنتجها مع تطورالأزمنة بتقنياتها والغزو لبعض الأنماط الموسيقية للساحة الفنية، والتقييم الحقيقي يبقى للجمهور والباحثين والمهتمين بهذا الفن، «لكن سعادتي تكبر عندما تمر السنون ويبقى العمل الأول والثاني يتداول إعلاميا وعند عشاق الفنون الأصيلة».
ولايخفي المفتاحي افتخاره بعمله الفني الأول لأنه «شكل الانطلاقة الحقيقية وكان أساس بناء مساري المتواضع، صحيح فنيا تبقى لي ملاحظات على هذه التجربة، لكني أحبها لأنها المولود الأول في مسيرتي الفنية…».