حلم موؤود

نقر بأصبعه على لوحة البحث بشاشة هاتفه. صوت أم كلثوم ينبعث ساحرا. الليلة مقمرة والنجوم يتراقص ضوؤها على النغمات المنبعثة…

كان يرقب بشوق لقاءها ولو عبر شاشة الهاتف…
وكزه واحد من صحبه متهكما:
– إيييه. أين وصلت؟ إنه دورك.
أحس بضيق. أخذ ورقة ورمى بأخرى من يده كأنه يريد التخلص من ورق اللعب مرة واحدة، ليعيش لحظاته مع الموسيقى وما تهيج به نفسه من أحاسيس.
– مابك؟ ليست عادتك أن تدخن بنهم كل تلك السجائر؟ كيف لا تستغل يا صاح فرصة الحجر للإقلاع عن التدخين؟!
أحس بغربة شديدة عن نفسه. حاول أن يطرد طيفها. ترنح في جلسته وكأنه يستيقظ من حلم لا حق له في أن يعيش لحظاته ولو عبر الموسيقى..
منذ سنين لم يحس بمشاعره تنفلت من بين ثنايا قلبه كما يحس الآن. ما ينفك طيفها يزوره عابرا..لكن بشغف لذيذ.
تذكر كم كان مهووسا بدراسته، مداوما على مقهى أصحابه نهاية كل اسبوع، دون أن يفكر في الأيام الرتيبة التي كرسها حبا وعلانية بتراتبية بين الأكاديمية والمقهى وبيت عمه، حيث الحب والملاذ، حيث ابنة عمه…
لم يستطع أن يكمل مع أصحابه لعب الورق الذي اعتاده في ظل الحجر والوباء اللعين الذي يزداد انتشارا. ود لو يهاتفها، فقط يسمع صوتها تحت أية ذريعة. سيخبرها لا محالة أنه لم يكن قدر المسؤولية التي ألقيت على عاتقه يوم تقدم لخطبتها.. سيخبرها أنه مرة أخرى فشل في أن يخبر والده «سيدي الحاج» بالخطب الجلل الذي غير مجرى اختياراته ووَأدَ أحلام أسرته، سيخبرها….
وضع كمامته على وجهه ونزل الدرج بسرعة، ومرارة الحسرة غصة في حلقه. حاول أن يصم أذنيه عن هاتف داخلي يطارده منذ ثلاثة أشهر. مر من أمام سي علي، المرابض ككل يوم تحت شرفة البيت. حاول أن يسرع الخطى آملا أن تخفي الكمامة ملامح وجهه عن هذا الأخير، لعله يفلت من إلحاحه على تأدية ما عليه من دين مقابل اكتراء غرفته بالسطوح.. رمقه الشيخ بلمح البصر. كيف يفلت من دائرة بصره ومورده الوحيد قد كسد، كما باقي المرافق، في ظل هاته الظروف التي تمر بها البلاد والعباد؟!
– ها العار أولدي.. راه مع هاد كورونا الحالة عيانة والوقت مزير.. شحال من شهر هذا أولدي ما بقيتي عطيتيني ولو جزء من هذا الدين؟! شحال هادي كنت صابر عليك، لكن أولدي مع هاد الجايحة…!!
توقف لوهلة، كبح انزعاجه، أومأ برأسه ثم تابع سيره لا يدري إلى أين، دون أن يجيب سي علي الذي تابعه بنظراته، وهو يرتشف ما تبقى من خيبته المرة..
قرر أن يركب صهوة التحدي. توجه نحو البيت الذي شهد ذات وهج، أغلى أحلامه…
لن ينسى فرحته يوم خطب ابنة عمه، يوم تخرج ضابطا، بيت عمه كان بيته الثاني الذي ترعرع بين أحضانه وأحس بأولى شتائل الحب تزدهر بين جدرانه. ابنة عمه التي اشتاق إليها بشغف، وبجنون. لم يمنعه من مد حبل الوصال إليها غير الخجل من نفسه أنه لم يستطع أن ينقلها إلى عش طال انتظارها لكي يبنياه معا. حيث تم طرده بعد وشاية كاذبة، عن عدم التزامه بمواقيت عمله وعدم احترامه لرؤسائه..
طرق طرقة خفيفة وهو يُمَني النفس لو أن البيت يكون خاليا، ليعود أدراجه من حيث أتى، ليعود إلى غرفته فوق السطوح.
طرق طرقتين وخفقان قلبه تتسارع وتيرته. فُتِح الباب.. نفس الابتسامة التي يتذكرها بها، علاها بعض من توتر واضح على وجنتيها اللتين توردتا من فرط الخجل والدهشة. دلف إلى البيت وكأنه يريد أن يتحاشى نظراتها المعاتبة…
يا للصدفة! وجد أباه» سيدي الحاج» يتوسطهم في غرفة الجلوس. جميعهم كانوا هناك، زوجة أبيه، عمه وزوجته. تسمرت قدماه…
أحس في عروقه نارا حَمَى وطيسها. تصاعدت من أخمص قدميه إلى شعر رأسه.
ساد الصمت طويلا… هل يكون سببا في أن ينكس»سي الحاج» رأسه أمام أهل القرية بعد أن لبث، لسنين عديدة، ذا عزوة وكبرياء!؟ ينتظر المولود الذكر، بعد أربع بنات، ليرسله عند عمه لإتمام دراسته، بالمدينة التي تليق به، وليتزوج من ابنة عمه، صونا له من الرذيلة التي كان يخاف أن يسقط في براثينها هناك، كما يسقط غالبية من قدِموا من الضواحي. تمرد على عرف القبيلة، فأرسله ليضيف العزوة على علياء العلم الذي لا يتاح للعديد من أبنائها…
أخبره والده وهو مطأطأ الرأس، أنه سأل عنه في مقر عمله حين انقطعت أخباره، ففوجئ بطرد ابنه لعدم انضباطه، وعدم احترامه لمرؤوسيه.
تأبط بعضا من جرأة وارتمى على أقرب أريكة. حاول ان يستجمع شتات الحروف. لأول مرة يسمع صوتا غير صوته، ينبعث من داخله، لكنه لم يكن يعرفه من قبل، تبدد الخوف الذي ظل يشل صوته لسنوات عديدة، كلما حاول التحدث إلى والده:
– كيف لي أن أقبل بشيء يعتصرني في الصحو، كلما نزلت بمقبضي على بائع يقتات مما يعرضه من بقايا أو فتات، يعيل به أفواها وبطونا جائعة!؟ لَكأن السيل حطني من عل، يوم نزلتُ بهراوتي على من كاد يكون لي رسولا. لن تكون أحلامك أبي مقصلة أقطع بها بنات أفكار ترعرعتْ في أحشاء فصول يحاولون شرخ بنيانها…
لم ينبس سيدي الحاج ببنت شفة. نهض في تثاقل وكأن قدميه لا تستطيعان حمله. اتجه نحو ابنه. رفع وجهه ووضعه بين يديه. جره إليه في زهو.. وافتخار، ثم قبل رأسه.


الكاتب : أمينة غلاض

  

بتاريخ : 19/06/2020