حوارات في الدين والحداثة والعلمانية -12- محاورة بين عالِيَّ الاجتماع الأميركِيّين مارك جورجنسماير وروبرت ن. بيلا (6/1)

العلمانية والدين في عصر العولمة

تحت عنوان «العلمانية والدين في عصر العولمة» جرت محاورة بين عالمين أميركيين في علم الاجتماع هما مارك جورجنسماير وهو محاضر في جامعة كاليفورنيا ومدير مركز أورفاليا للدراسات الدولية والعالمية، وروبرت بيلاّ، المحاضر أيضاً في قسم علم الاجتماع في الجامعة نفسها، وأحد أبرز علماء الاجتماع المعاصرين في الولايات المتحدة الأميركية. تركّز النقاس بين هاتين الشخصيتين العلميّتين حول ضرورة إنتاج رؤية جديدة لمفهومَيّ الدين والعلمانية في ضوء التحولات الهائلة التي أحدثتها العولمة على القيم الدينية في الغرب. كما تطرّق النقاش إلى السؤال الكبير الذي يشغل علماء الاجتماع والمفكرين اليوم، ويتعلّق بمستقبل الأديان في العالم وفي أوروبا وأميركا بصفة خاصة.

 

مارك جورجنسماير: أتحدث اليوم مع الأستاذ روبرت بيلاّ، أحد أبرز علماء الاجتماع في البلاد، والذي يتمتع بتاريخ مهني لامع وله مؤلفات مهمة أذكر منها كتاب Tokugawa Religion (ديانة توكوغاوا)، والمقالة المؤثرة Civil Religion in America (الدين المدني في أميركا)، والكتاب الشهير Habits of the Heart (خصال القلب).
سنناقش معاً موضوع «العلمانية في عصر العولمة برؤية جديدة». أما الفكرة المحورية فهي الإحاطة بالوضع المعاصر، ونشوء الإسلام السياسي، وبروز ظاهرات سياسية دينية من نوع جديد، وبالتالي كل ما يتعلّق بما هو ديني وعلماني في العالم المعاصر، وظهور مجتمع مدني معولم، ودور الدين فيه.
تلك هي الوجهة التي نقصدها في حوارنا، لكنني ارتأيت أن نستهله بالعودة إلى الوراء إلى الزمن الذي تعمل عليه حاليّاً، أي التاريخ القديم، مع تطور الدين، وبالتحديد إلى «العصر المحوري» الذي كتبت مقالة عنه في الآونة الأخيرة والتي ستشكل جزءاً من كتابك الجديد، الذي سيصدر قريباً جدّاً على ما أعتقد، حول الانتقال من التأمّل theoria كممارسة دينية وتبصّ ديني في رؤية مختلفة لدى أفلاطون والفلاسفة الإغريق، اكتشاف من نوع مختلف كان فكريّاً أكثر منه روحيّاً.
هل يتعلّق الأمر بالدين؟ أم بنشوء العلمانية في هذا الزمن الخاص؟ أم أنك تريد فقط تفادي استخدام كلا هذين المصطلحين؟
روبرت بيلاّ: أعتقد حتماً، في هذه المرحلة، بأن كلِمَتيْ «دين» و«علمانية» تستخدمان بهذه الطرق المختلفة على نحو عشوائي إلى حد أصبحتا عديمَتِي النفع.
مع ذلك، أعتقد أن ما تشير إليه مهم. حينما تغوص في عمق تطوّر الجنس البشري وتبحث عن مكان الدين، تجد شيئاً مختلفاً جدّاً عن كثير مما يجري اليوم. يعتقد كثيرون اليوم، بمن فيهم أكثر نقّاد الدين ضراوةً، مثل داوكنز، وهيتشنز، وغيرهما، بأن الدين هو نظرية أو مجموعة من النظريات الخاطئة بكل بساطة، وبما أن العلم فنّد تلك النظريات، فلا حاجة لنا بها.
إن مغزى المقالة التي تتحدث عنها هي أن تلك النظرية ظهرت في مرحلة معيّنة من التاريخ البشري، ولم يكن لها أي وجود قبلها. يمكن القول أنها ظهرت منذ زمن طويل، في منتصف الألفية الأولى قبل المسيح، أي منذ نحو 2500 عام. لكن بالنظر إلى التطوّر البشري فهو حديث العهد، وقد استجد في غمضة عين. فعلى الأرجح تواصل البشر منذ مليون إلى مليوني سنة بشكل تام بواسطة أجسادهم، وهو ما يسمّى ثقافة المحاكاة. ولا نزال نتواصل بهذه الطريقة. الأمر ضروري، وبالنسبة إلى الدين، أساسي جدّاً.
مارك جورجنسماير: لكن عندما تطوّر التأمّل theoria، أقلّه بالطريقة التي شرحتها، جاء استخدام المصطلح في الأساس ليشير إلى ما يسمّى بالدين.
روبرت بيلاّ: أجل، لأن كل شيء، ومجدداً في إطار الاستخدام المعقّد للكلمة هذا، ينطلق من الدين. الشعائر هي المفتاح لفهم ثقافة المحاكاة. برأيي، الشعائر هي الأساس الظواهري للأديان كافة. تشكل الشعائر حتماً جزءاً من حياتنا. فإن كنت تعيش في الجامعة، أنت إذن مقيّد بمجموعة تفصيلية من الشعائر. لا نسمّي الأمور بأسمائها، ولا نتذكر ذلك، لكن هذا هو الواقع.
من ثم، مع ظهور اللغة منذ حوالى 50 ألف إلى 120 ألف سنة تقريباً، بات لدينا السرد الذي أضاف كميات هائلة من المعلومات إلى ما كان يتم تناقله بواسطة لغة الجسد، أو المحاكاة. ظل الأمر على تلك الحال. فمعظم حياتنا كان يتحكم بها السرد، وليس التفكير المنطقي أو العلم، إلا أن التفكير العقلاني والمنطقي برز في مرحلة من المراحل، أي ما يسمّى بالعصر المحوري، منذ 2500 عاماً تقريباً.
نشأ ذلك أيضاً عن تجربة دينية. لقد أعطيت مثالين في تلك الدراسة المقتضبة وهما أفلاطون وبوذا، أحد أعظم العقلانيين. فمن يعتقد بأن البوذية عبارة عن نوع من التصوّف الجنوني ليس على اطلاع واسع. فبوذا قد يعطيك أسباباً محددة جدّاً لكل ما صدر عنه قولاً ويستطيع إقناعك عن طريق العقل. فهو قد مرّ حتماً بتجربة تحوّليّة عميقة يمكن تسميتها بالدينية.
مارك جورجنسماير: وكل ما سبق بوذا في العرف الهندوسي كان شعائرياً بالتأكيد، وهو ما كان عليه دور البراهمة.
روبرت بيلاّ: حسناً، ليس كلّه، لأن بدايات كتابات الأوبانيشاد كانت أقرب إلى التأمّل.
مارك جورجنسماير: قبل ذلك، كان هناك البراهمة والتلاعب بالآلهة ودور….
روبرت بيلاّ: أجل، بالطبع، قبل الأوبانيشاد، كان الأمر برمته شعائريّاً. ولا تزال الهندوسية قائمة على الشعائر حتى يومنا هذا. وجميع الديانات هي كذلك بالطبع. لذلك ليس القصد دحض الدين باعتباره مجموعة من النظريات، لأنه يجب فهم ما هو المقصود بالدين.
مارك جورجنسماير: لكن الشعائر موجودة ولو غاب الدين، كالطريقة التي تنظف بها أسنانك، أو الطريقة التي تمشّط بها شعرك، ….
روبرت بيلاّ: أجل.
مارك جورجنسماير: جميعنا يعيش من خلال نشاط نمطي.
روبرت بيلاّ: الطريقة التي تعطي بها محاضرة. فالمحاضرة الجامعية من أكثر ما جرى اعتماده كشعيرة في العالم، فهي من الشعائر المنهجية.
مارك جورجنسماير: لكن ما هي رؤيتك للشعائر في إطار الدين؟ هل أنها ذات طابع جماعي أو أنها ذات طابع يشير إلى ما هو متسامٍ؟ لقد قلت في مرحلة من المراحل مقولة شهيرة حول تعريف الدين تحدثت فيها عن أن التسامي هو الطابع الجوهري لما نعتبره ديناً.
روبرت بيلاّ: التسامي، مرةً أخرى ما الذي يعنيه ذلك؟
مارك جورجنسماير: ما الذي يعنيه. أنت من استخدمت هذه الكلمة.
روبرت بيلا:ّ أجل. بالفعل. يتمثل الجانب الديني لثقافة المحاكاة، أو، لنقل بعبارة أسهل من «محاكاة»، «الثقافة الشعائرية»، في أنه من أهم الأمور. إنه وسيلة للتعبير عن تلك الأمور المهمّة تستخدمها مجموعة معاً. لكن ثمّة انطباع بأن كل شكل من أشكال الشعيرة له طابع شبه ديني. فالجامعة مؤسسة نؤمن بها. وبعضنا مستعد للتضحية بحياته من أجلها إذا ما تعرّضت للهجوم. من جهة أخرى، الشعائر الأسرية ضرورية، وهي في خطر. فالوجبة العائلية تعبير جوهري عن حياة الأسرة المشتركة، ولها بعد ديني. إن العائلة تجسيد لمجموعة مرتبطة ومقترنة، من خلال روابطها القوية، بمعانٍ عميقة.
إذن أنت بذلك تنزلق من النواحي كافة في ما هو ديني وكل ما هو مقصود بعبارة «علماني».
مارك جورجنسماير: مع ذلك، بالرغم من أن إقامة علاقة جنسية من دون زواج أمر مباح، إلا أن الناس يقدمون على الزواج.
روبرت بيلاّ: أجل. واليوم، يرغب المثليون في الزواج لأنهم يريدون التمتع أيضاً بهذا الحق.
مارك جورجنسماير: أجل، يريدون المشاركة.
روبرت بيلاّ: أجل، يريدون ذلك باعتباره أمراً من الممكن القيام به. ففي أوروبا، يجب أن يكون المرء متزوجاً بطريقة علمانية أولاً، من ثم بوسعه الزواج كنسيّاً إن رغب في ذلك. لكن في الولايات المتحدة، ننظر إلى الزواج في سياق ديني قبل كل شيء.
مارك جورجنسماير: وفقاً للتعبير الذي استخدمته للتو لتعريف الدين، أي ذلك النشاط النمطي أو من خلال ارتباطه بأعمق الأمور وأهمها في إطار المجموعة، يعتبر الزواج أمراً دينيّاً بغض النظر عما إذا كنت تعتبره كذلك أم لا.
روبرت بيلاّ: أجل، هو كذلك. على ما أعتقد. وقد يصبح أيضاً أمراً سلبيّاً، لأنه قوة عظيمة تستطيع التنافس مع متطلّبات أخرى للبشر.
مارك جورجنسماير: صحيح. لنعد الآن إلى الإغريق. إن كان الفلاسفة الإغريق يتبنون اليوم التأمّل theoria كنشاط نمطي في ما يخص الفكر أو الأفكار، أكثر منه كنشاط مرتبط بالمحاكاة، فهل هذا نوع جديد من التديّن؟ يعتقد عادةً بأن أصول العلمانية تعود إلى الفلاسفة الإغريق، إلا أن ويلفريد كانتويل سميث زعم ولسنوات عدّة بأن الفلسفة، philosophia وقد نسبها مباشرةً إلى الإغريق كما تفعل أنت، بدأت في الأساس كعرف ديني، لكنه لم يدعها بهذا الاسم.
روبرت بيلاّ: كان من المناسب جدّاً للمسيحيين الذين أرادوا تبني مظاهر كثيرة من الثقافة الإغريقية، القول: «آه! إنها فلسفة، وليست ديناً».
مارك جورجنسماير: صحيح.


الكاتب : حاوره: فيليب نيمو

  

بتاريخ : 05/04/2023