حوارات مع الكاتب الياباني هاروكي موراكامي 7 : هاروكي موراكامي‮: ‬تفاعل مع الكتابة كما لو أنك تُراقب حيواناً‮ ‬في الغابة

عداء الماراثون الياباني، الذي أخضع نفسه لنظام يشبه قطعة موسيقية، أصدر رواية جديدة، كرسها لشخصية تعاني من تفاهتها المزمنة. في زيارة لهاواي، حيث يستقر الكاتب غالبا: «إننا نضجر كثيرا هنا»المثال الأعلى بالنسبية إليه، كما يقول.
كي تلتقي موراكامي، لا تفكر أبدا في الوجهة نحو طوكيو؟ بل الذهاب إلى «هونولولو». لقد اختار أن يعيش هناك: وسط فضاء غير قابل للتشكل دائما مثل حكاياته أيضا، الضياء الجبال ثم شاطئ وايكيكي الأسطوري: المسافر الذي يصل هناك ينغمس بين طيات حلم مناخ تقارب حرارته ثمان وعشرين درجة يغمره أريج الورورد الاستوائية. هو الفردوس على الأرض.لا يوجد أي شخص على الشاطئ: فمنذ صدور قرار صارم يمنع التدخين هناك واحتساء الخمر أو تناول الطعام، اكتفى السياح بطلب أصناف الشراب داخل حانة الفندق المكيفة.

 

p أتكتب الأساطير،‮ ‬سيد موراكامي؟
n كان هذا سؤال من بين عديد من الأسئلة طرحها القراء علي الروائي الياباني هاروكي موراكامي عبر موقعه الالكتروني‮. ‬وردًا علي هذا السؤال يقول موراكامي إن جميع الأساطير المعروفة في العالم تتضمن العديد من العناصر المشتركة،‮ ‬وإذا تأملنا فيما هو أبعد وأعمق من اللغة والثقافة والزمن،‮ ‬في جذور وعينا،‮ ‬سنكتشف أننا جميعًا مترابطين‮.‬
‮ «‬حين تشرع في كتابة رواية،‮ ‬يجب ألا تبدأ وفقًا لخطة موضوعة‮. ‬لكن تفاعل،‮ ‬كما لو أنك تراقب حيوانًا في الغابة،‮ ‬تثبت عينيك عليه،‮ ‬وتتابعه،‮ ‬وتتحرك وفقًا لتحركاته‮. ‬لو اعتمدت تلك الطريقة فإن الرواية ستصبح حتمًا عملا عفويًا‮». ‬يستكمل موراكامي،‮ ‬الذي أضاف أن‮ «‬الحركة في مثل تلك الروايات،‮ ‬مثل التحديق في حركة مخلوق في البرية،‮ ‬مشابهة للغاية للحركة‮ ‬داخل الأساطير‮. ‬فالأساطير هي العقل الجمعي للبشر مصاغًا في هيكل درامي‮. ‬والروايات التي أكتبها تمثل لا وعيي الخاص،‮ ‬الذي لو تتبعته نحو مستويات عميقة جدًا،‮ ‬سينتهي الأمر بالتداخل مع اللاوعي الجمعي‮. ‬ليست الأساطير والروايات الشيء نفسه،‮ ‬لكن هناك الكثير من الأجزاء التي تتداخل فيها الحركة‮». ‬
وردًا علي سؤالٍ‮ ‬حول أسلوبه في الكتابة،‮ ‬ذكر موراكامي أنه كتب مقالا بعنوان‮ (‬عندما أصبحت روائيا‮) ‬قام بتحريره موتويوكي شيباتا‮. ‬وصف موراكامي المقال بأنه‮ «‬محاضرة‮». ‬وفي المقال كتب موراكامي بالتفصيل عن واقعة شهيرة،‮ ‬حين حاول البدء في كتابة روايته الأولي‮ (‬اسمع صوت أغنية الريح‮) ‬بالإنجليزية‮. ‬يقول‮: «‬حين نكتب بلغة أخري،‮ ‬يحتم علينا استخدام الكلمات البسيطة،‮ ‬والجمل البسيطة والحفاظ علي الجمل قصيرة،‮ ‬كي يسهل فهمها‮. ‬اكتشفت هذا أثناء بنائي للكلمات والجمل،‮ ‬وهكذا تمكنت من كتابة أعمالي بالإنجليزية مع الحفاظ علي الأبعاد الأدبية والعمق للنسخة الأصلية‮». ‬يوضح أكثر‮: «‬عندما تكتب جملا قصيرة بكلمات بسيطة،‮ ‬تبحر داخل عالم فولكلوري‮ – ‬عالم أسطوري‮.. ‬وما أردت القيام به هو إزاحة لغة الأدب الحالية بعيدًا،‮ ‬وتشكيل لغة أدبية جديدة‮».‬
خلال العالم الماضي نُشرت في اليابان مجموعة موراكامي القصصية بعنوان‮ (‬رجال بلا نسا‮). ‬ونُشرت قصتان من المجموعة وهما‮ (‬الأمس‮) ‬و(شهرزاد‮) ‬بالإنجليزية في مجلة النيويوركر،‮ ‬وفي فبراير ظهرت قصة‮ (‬كينو‮) ‬أيضًا‮. ‬وفي مقدمة تلك المجموعة،‮ ‬يقول موراكامي إنه استغرق وقتًا طويلاً‮ ‬قبل أن يتمكن من إنهاء قصة كينو،‮ ‬كما أنه وجد صعوبة شديدة في صياغة خاتمتها أيضًا‮.‬
وكينو هو اسم بطل القصة،‮ ‬الذي يعود قبل الموعد المقرر لعودته من رحلة عمل بيوم،‮ ‬ليجد زوجته وأحد زملائه في وضع فاضح‮. ‬وهكذا يغادر كينو شقته إلي‮ ‬غير رجعة،‮ ‬كما يستقيل من عمله أيضًا‮. ‬يذهب كينو ليعيش في حي أوياما في طوكيو حيث يتولي إدارة مقهي بدلاً‮ ‬من عمته،‮ ‬ثم يحوله إلي حانة باسم كينو،‮ ‬ونظرًا لطبيعة الحي الهادئة،‮ ‬يحيا كينو هناك حياة هادئة‮.‬
‮»‬علي الرغم من خيانة زوجته،‮ ‬لم يشعر كينو بالجرح‮. ‬بالطبع،‮ ‬كان مصدومًا،‮ ‬لكنه من النوع الذي لا يستطيع أن يعبر عن مدي ألمه‮. ‬إنه الشخص الذي يكمل بقية حياته وهو يشعر بالشلل‮». ‬وضع كينو الغطاء علي جرحه دون أن ينظر إلي عمق جرحه وغضبه من زوجته‮. ‬يقول موراكامي‮: «‬لكن،‮ ‬شيئًا فشيء يفتح ذلك الغطاء‮. ‬وهو الأمر المخيف حول هذه القصة‮».‬
إنها قصة عن كيفية إحياء علاقاتنا من جديد مع الناس،‮ ‬عندما نواجه الأمور التي سبق وأن وضعنا عليها الغطاء وواريناها بعيدًا عن الأنظار‮. “‬من تلك الوحدة،‮ ‬وذلك الشعور بالانفصال‮.. ‬من الخوف،‮ ‬ولد كينو من جديد‮. ‬واعتقد أنه دون تلك الولادة،‮ ‬لأصبحت كينو بلا أي معني كرواية‮”. ‬هناك العديد من العبارات التي لا تنسي في هذا العمل،‮ «‬نمر أحيانًا في حياتنا بمواقف لا يكفي فيها مجرد الامتناع عن فعل ما هو خطأ‮»‬،‮ ‬هذه واحدة منهم‮ .‬
يقول موراكامي‮: «في البداية،‮ ‬كانت طريقة كينو في الحياة دون أن يُظهر آلامه للناس،‮ ‬ودون أن يدركها هو نفسه،‮ ‬تبدو لطيفة‮. ‬لكن الناس لا يعيشون هكذا فحسب‮». ‬ويضيف‮: «‬حين تجرّب شيئًا جديدًا،‮ ‬حتي وإن كان أمرًا ايجابيًا،‮ ‬لابد أن تصاحبه بعض الأمور السلبية‮. ‬لو أردت أن تحافظ علي الايجابيات،‮ ‬عليك أن تتقبل السلبيات كثمن لابد من دفعه‮. ‬اعتقد أنه لا معني لحياة البشر لو لم يفعلوا ذلك‮».‬
في‮ ‬غضون أسبوع،‮ ‬رأي كينو ثلاثة أفاعي تحوم حول حانته‮. ‬حين هاتف عمته ليخبرها بأمر الأفاعي،‮ ‬قالت إنها لا تتذكر أبدًا أنها رأت إحداها بالقرب من المكان علي الرغم من أنها عاشت هناك لفترة طويلة‮. ‬ثم أخبرت العمة كينو أمرًا‮ «‬في الأساطير القديمة،‮ ‬كثيرًا ما تساعد الأفاعي الناس وترشدهم‮. ‬ستجد هذا موجودًا في أساطير الثقافات المختلفة في جميع أنحاء العالم‮. ‬لكن حين ترشدك أفعي،‮ ‬لن تعرف إذا ما كانت تأخذك لطريق الخير أم الشر،‮ ‬وفي معظم الحالات يكون مزيجًا بينهما‮. «‬إنه أمر‮ ‬غامض‮» ‬قالها كينو ردًا علي العمة‮.‬
يقول موراكامي إن حوارهما هذا من الأمور التي لا تُنسي،‮ ‬كان كينو بحاجة إلي الشعور بالغضب تجاه زوجته‮.. ‬شعور حقيقي بالغضب والحزن‮. ‬ومن خلالهما،‮ ‬ولد كينو من جديد‮. “‬أنت بحاجة لخلق الايجابيات بنفسك لمقاومة السلبيات،‮ ‬ولتتمكن من هذا،‮ ‬عليك أن تري السلبيات بكل وضوح‮”. ‬ويبدو أن الأفاعي قد ظهرت كي تحث كينو علي إلقاء نظرة متمعنة في المواقف السلبية التي مر بها‮. ‬وهذا الأسلوب تحديدًا هو ما يربط بين أدب موراكامي والأساطير‮.‬
نشرت الترجمة الإنجليزية لرواية موراكامي‮ (‬تسكورو تازاكي عديم اللون والسنوات التي قضاها في الحج‮) ‬العام الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬وقفزت إلي أعلي قائمة أفضل المبيعات لمجلة النيويورك تايمز‮. ‬وحين نشرت للمرة الأولي،‮ ‬في اليابان عام‮ ‬2013،‮ ‬كانت العمل الأدبي الأسرع في بيع مليون نسخة‮. ‬
قرب نهاية الرواية،‮ ‬يسافر تسكورو تازاكي إلي فنلندا لزيارة صديقته من المدرسة الثانوية،‮ ‬كورو‮ (‬الأسود‮). ‬يقول موراكامي إنه صور الرحلة إلي فنلندا كالذهاب إلي الآخرة‮. «لهذا اخترت أن تكون فنلندا‮. ‬فالولايات المتحدة لا تبدو كعالم آخر‮. ‬لكن،‮ ‬حتي في فنلندا،‮ ‬كان من المهم أن يذهب تازاكي نحو الشمال».‬
تحكي الرواية قصة مجموعة من الأصدقاء في المدرسة الثانوية‮ -‬فتاتين وثلاثة صبية‮- ‬في مدينة ناجويا‮. ‬يلتحق تازاكي وحده بالجامعة في طوكيو،‮ ‬إلا أنه وقبيل بلوغه العشرين من عمره،‮ ‬كان الأربعة قد أنهوا صداقتهم معه دون أن يخبروه عن السبب‮. ‬لكن،‮ ‬ورغم تأذيه الشديد،‮ ‬لم يحاول تازاكي معرفة سبب تخليهم عنه‮.‬
لكنه،‮ ‬حين يبلغ‮ ‬السادسة والثلاثين،‮ ‬وفي سبيل إعادة ترتيب حياته،‮ ‬يحاول معرفة السبب في انتهاء الصداقة،‮ ‬ويحج بحثًا عن أصدقائه القدامي‮. ‬يجد المرأة الأخري في المجموعة،‮ ‬شيرو‮ (‬الأبيض‮) ‬قد ماتت بالفعل‮. ‬أما الرجال،‮ ‬آكا‮ (‬الأحمر‮) ‬وآو‮ (‬الأزرق‮) ‬فيجدهما في ناجويا‮. ‬في أحد المشاهد الحركيّة،‮ ‬يلتقي تازاكي كورو ويعانقها في فنلندا بعد مرور ستة عشر عامًا علي الانفصال‮. ‬لم تكن تبدو كشخص ميت بعد‮. «‬بالطبع كانت مورو علي قيد الحياة،‮ ‬لكنها صورت علي هيئة شخص ميت،‮ ‬شخص انتقل إلي الجانب الآخر‮. ‬ماتت شيرو،‮ ‬أما كورو فكانت تنسحب نحو الموت بشكل ما‮». ‬
إذن هو عالم لم يبق علي قيد الحياة فيه سوي الرجال‮. ‬هناك مشهد تقترح فيه كورو علي تازاكي مقابلة آكا وآو‮: «‬يجدر بك أن تلقاهم من حين لآخر‮. ‬أو ابقوا معًا،‮ ‬ثلاثتكم‮. ‬من أجلك‮.. ‬ومن أجلهم‮». ‬مستكملة‮: «‬سيكون هذا أفضل لي أنا أيضًا،‮ ‬علي الرغم من أنني لا يمكن أن أكون معكم‮».‬
فنلندا بلد تكثر فيه الغابات،‮ ‬وكورو تحيا في واحدة منها‮. ‬في رواية‮ «الغابة النرويجية‮» ‬هناك إمرأة تدعي ريكو تعيش مع ناوكو،‮ ‬التي تموت في‮ ‬غابة‮. ‬ريكو أيضًا تبدو منتمية لعالم الموتي علي الرغم من أنها لا تزال علي قيد الحياة‮. ‬تتداخل قصتي شيرو وكورو،‮ ‬وناوكو وريكو،‮ ‬ويستقبلهما القاريء علي نحو مماثل‮. ‬ربما تكون‮ (‬تسكورو تازاكي عديم اللون والسنوات التي قضاها في الحج‮) ‬مثل‮ (‬الغابة النرويجية‮) ‬فهي قصة البطل الذي يزور النساء في‮ ‬غابة الموت،‮ ‬ثم يعود رجلًا مختلفًا‮ ‬إلي العالم الحقيقي‮. ‬
إن الاستماع إلي موراوكامي وهو يتحدث عن هذا العمل يدفعك لقراءة قصة تازاكي ثانية‮. ‬وفي الواقع،‮ ‬جميع أعمال موراكامي تمنح القرّاء الشعور بأن البشر لديهم القدرة علي‮ ‬إعادة تشكيل العالم مرة أخري‮.‬


الكاتب : ترجمة‮:‬‮ ‬رضوى رحمى

  

بتاريخ : 09/08/2019