حوارات ولقاءات مع بيير بورديو 25 : ماذا أكون؟ 4/3

بعد وفاة بيير بورديو، نعتْه الأخبار اللبنانية – من بين منابر أخرى في العالم، أكثرها عددا من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط – في مقالة تحت عنوان « ببير بورديو شاهدا على بؤس العالم» واصفة إياه ب «العالم المناضل الذي هجر الفلسفة وفخامتها الخادعة»، كما يقول هو نفسه. واعتبرته « لوموند» من زعماء حركة مناهضة العولمة ومن أشد منتقدي الرأسمالية. فعلا، ففي نص بعنوان «لأجل معرفة ملتزمة»، نشرته «لوموند ديبلوماتيك» عدد فبراير 2002، أياما قليلة بعد وفاته، يقول الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، إنه «ضروري في أيامنا هذه أن يلتزم الباحثون المستقلون بالحراك الاجتماعي وخصوصا في مواجهة سياسة العولمة»؛ وقد كان، بالفعل، حاضرا وبقوة في الأنشطةالسياسية شملت مؤلفات بورديو موضوعات الثقافة والأدب، و الفنون و السياسة والتعليم و الإعلام وموضوعات دعم كفاح الطبقة العاملة و المعطلين، ما جعله نقطة ارتكاز فكري لليساريين.
إلا أنه تميز أكثر باشتغاله في مجال السوسيولوجيا (من بين مؤلفاته في المجال ” أسئلة في السوسيولوجيا “، 1981)، حيث يرى البعض أن أعماله تجديد للنظريات السابقة. نقف، مثلا، على مفهوم ماركس فيبر عن أهمية القيمة الرمزية لشرعية كل سيطرة في الحياة الاجتماعية. كما طور مفهوم رأس المال انطلاقا من نظرية ماركس لتنطبق على النشاطات الاجتماعية و ليس على الاقتصاد فقط. نجد، أيضا، في نظرية بورديو حتمية إميل دوركهايم، وبنيوية ليفي ستراوس، وإلى جانب علماء الاجتماع الذين أثروا فيه، نجد فلاسفة تركوا بصمتهم في أعماله مثل هسزل وفيتغنستاين، كما تأثر بباسكال واعتبر نفسه في كتابه ” تأملات باسكالية “(1972) ” باسكالي الهوى”.
كل ذلك، إلا أن إطلالاته الإعلامية عرّضته لحملات قاسية بسبب انتقاده دور الإعلام وتوجهاته التي لا تتسع للنقد، بل تسهم في قولبة الوعي حسب النمط المهيمن والقيم السائدة.
لتقريب القارئ من عوالم بيير بورديو، الغزيرة و المقلقة، نقترح هنا ترجمة لسلسلة من حواراته ولقاءاته.

 

إلى روح محمد جسوس

 

 إذا قارنا بين عمل التحضير التجريبي الذي يكون عليك القيام به الحوارات، الاستمارات، بعمل ناقد فني، سيُشبه هذا العمل عندها الضرورة، الخاصة بالشيء، ضرورة وصف الفن بطريقة نقدية. بطرحكم لمفهوم «الحقل الفني»، يبدو مع ذلك أنكم تبتعدون ظاهريا عن مفهوم السياق، المعمول به كثيرا في تاريخ الفن وفي النقد الفني، كما يطهر مثلا عند وولفغانغ أو تيموثي جيمس كلارك.

تتطلب هذه النقطة توضيحا طويلا. يوجد مفهومان يبدوان قريبين جدا من مفهومي. «عالم الفن» و«السياق». في الحالتين معا، يتعلق الأمر بمفهومين من غير صرامة وغيرمتسقين سوى بوصف كون الفنانين يحيط بهم هم كذلك عالم اجتماعي له مؤسسات.
أرثير أنتو، الذي استعار هذا المفهوم (سأبعث لكم نسخا من النصوص التي أنتقد فيها هذه الأشياء بالتفصيل)، يجمع في « عالم الفن «: الفنانون، التجار، الجمهور، أصحاب الأروقة، مدراء المتاحف، الأستاذة.
ذلك أفضل، بالتأكيد، من القول بأن الفن هو إنتاج فنانين. إلا أنه أسوأ كذلك، لأنه يفترض أن هناك أشخاصا تربطهم علاقة بالفن. بينما يتعلق الأمر بحقل، بفضاء له علاقات موضوعية متينة هي الأخرى، مثلما هي العلاقات الاقتصادية. ت. ج. كلارك، إنه أمر رهيب. رأيت ما أنجزه حول ماني ويسبب لي ذلك القشعريرة. حتى لو كان ذلك يتخذ مظاهر الصرامة، فإنه مجرد ربط علاقة بين ماهيتين: الفنانون من جهة و العالم الاجتماعي من جهة أخرى.
ما ينقص هؤلاء الناس، هو فكرة وجود فضاء، أسميه «الحقل»، توجد بداخله علاقات قوة، بنيات غير مرئية، مهيمنون ومهيمن عليهم ومونوبولات – فضاءات حيث يتمركز رأس المال الرمزي. فالناشر أو مدير رواق يظل رغم كل شيء له خصوصيته. ويعمل الغلاف الأمامي كما لو كان قرضا بنكيا. إذا اكتشفت براءة اختراع الحاسوب، فإني سأحتاج بنكا لتمويل استثماراتي وسيكون علي إقناع هذا البنك بأنني أسهر على ذلك بطريقة ذكية، أنني اكتشفت شيئا جديدا. الأمر لا يختلف بالنسبة لكاتب شاب يزور ناشرا. بناء على ماذا سيحكم الناشر؟ إنه يحكم بناء على الشخصية. إذا آمن بها، فقد اقتنع. إنه يتخذ قرارا مع الكاتب بشأن عنوان، إنه لا يدفع مالا، بل رأسمال ثقافي ضخم. بذلك، يشرع مَن هو غير موجود في الوجود. ثم يأتي النقد الذي يرى ان عملا نُشر عند «سوركامب» ويستخرج منه خلاصات. هناك كتاب لابن أونسلد حول كافكا ومن نشروا له. إنه كتاب جميل. يقول – إذا فهمت جيدا – إن الناشر رب بالنسبة لكاتب.

 

 مثلما هو صاحب الرواق بالنسبة لفنان.

بالضبط. إنه الرب. إننا في العدم. فالسيد كافكا لا يعرفه أحد، ثم، هيّا! سنقوده إلى الوجود بفضل سلطة ربانية تقريبا. بإمكاننا أن نُطلقه إلى الظلمات ونقول له بأن روايته لم تحقق أي نجاح. أو أن نطمئنه بأننا سنواصل نشره رغم كل شيء.
علينا أن نفهم أن هناك أشياء لا علاقة لها بما يسمى «جودة» ما نفعله.
توجد هنا أوجه اجتماعية واللاوعي. فناشر قديم سينشر ما نشر قبل ثلاثين عاما وسيقتل الكُتاب الشباب الذين لا يراهم حتى. الكتاب القدماء يقتلون الكتاب الشباب ويحمون الكتاب الذين يطابقون تمثلاتهم وهم يكتبون لهم مقدمات – المقدمات نقل رأس مال رمزي. يشبه ذلك البنك إلى حد كبير: علاقات استغلال، علاقات هيمنة وعلاقات ملكية وهي مع ذلك، كما قلت قبل قليل، أكثر عنفا، لأن الأمر يتعلق بعنف رمزي.
بلجوئنا إلى هذا القاموس الحربي، المادي، ننسى أحيانا إذا كان من الممكن فعلا اختزال الإنتاج الفني في صراعات كتاب داخل حقل.
ليس الكتاب وحدهم، الناشر أيضا و النقاد جزء منهم. تجري الصراعات في جميع الحقول. الأمر معقد جدا ويُساء فهمه في غالبية الأحيان لأن هناك دائما مُستويَين. أكدتُ على ذلك بوجه خاص في كتابي الأخير، لأنني وجدت دائما صعوبات لجعل الناس يفهمونه. هناك إذن فضاء حقيقي لرجال يتموقعون بعضهم بالنسبة للبعض الآخر [ يرسم حلقة من خلال نقط ] ويتحاربون. ثم هناك ما أسميه فضاء الممكنات [ يرسم حلقة ثانية ]. ما هو قابل للإنجاز في لحظة معينة، سبق فعله من قبل و سيُفعل من بعد، متخيل يبني نفسه اجتماعيا. هكذا يقال بأن روايات كرويات بالزاك لم يعد من الممكن كتابتها اليوم وأن شيئا ما انتهى منذ ديشامب. لكي نتمكن من الحديث إلى الآخرين و النضال ضدهم، ينبغي التمكن من اللغة الفنية للحظة. إذا وُجدتم بجانب الحقل، ستصبحون بذلك جمركيا روسو، « فنانا – شيئا « كما أسميه: فنانون هم فنانون موضوعيا، لكنهم ليسوا كذلك ذاتيا. فنانون تم تحويلهم إلى فنانين و هم لا يعرفون في الحقيقة ما يفعلون. على الفنان المعاصر أن يكون ما بعد مفاهيمي. حتى لو كان يرسم بطريقة نيو واقعية، عليه أن يعرف لماذا.
عليه أن يعرف تاريخ الفن، مختلف تمثلاته ومختلف أحكام القيمة، وأن يكون أدرج في عمله الإمكانات المزعومة و الاستحالات الفنية.
إن الفنان المبدع يرى فراغا. لكن ليس ذلك هوالسبب الوحيد الذي من أجله سيفعل شيئا، وإلا لكان الفنان الساخر. الفنان المقتنع يفعل شيئا لأن ذلك يعنيه. لكي تكون لديه الرغبة فيه، ينبغي أن يكون أُنتج بطريقة تجعله يشعر بتلك الرغبة.

 يجعلني ذلك أفكر في مفهومكم «أشعر باللعبة»؛ إنتابني الانطباع بأن «أشعر باللعبة» ربما كان إمكانية لإعادة إدراج مفهوم العبقرية من باب مختلس. ربما أن من لديه اليوم «أشعر باللعبة» كان ينعت بالعبقري في السابق. ما يُدهشني مع ذلك، تحمسكم لأولئك الذين يتوفرون على مفهوم «أشعر باللعبة». لديكم تعاطف كبير مع اللاعب الجيد الذي وجد الخلطة المضبوطة بين الخضوع و الحرية في الوقت المناسب. لكن، ما هي الشروط التي تجعل من شخص ما لاعبا جيدا، ومن يقرر ذلك؟

نعم، ذلك مشكل كبير. طيب، مفهوم «أشعر باللعبة « شيء مركب. هناك أشخاص يمتلكون هذه الكفاءة بطريقة ساخرة وهم يتموقعون بطريقة نصف واعية في المكان الجيد. أعتقد أن العالمين الفني و العلمي كونين معقدين جدا يفعل بداخلهما الناس تقريبا من غير احتساب ما هو صائب ضروري. إنه شرط للنجاح تقريبا. هناك قيم كالجدية أو الأصالة اللذين يحتفي بهما المبدعون دائما…

 

 أو بالعكس: على الأقل منذ وارول أو اليوم كذلك عند كونس، عند المصطنع، الأصيل هو ما يُحتفى به…

ذلك صحيح. يحتفى به كما لو كان أحد الأشكال القصوى للعبقرية. إلا أنها، في الوقت نفسه، إمكانية تخدم أصالة أكبر. نعتقد أن الأصل ساذج ونعتز بأصالة أصيلة أكثر يكون بإمكانها إسقاط القناع عن أسطورة الأصيل. لن نخرج من ذلك. أو أنه ينبغي الخروج من اللعبة بالقول بأن المتاحف بُراز. لكن براز الفنانين سبق أن وُضع في قنينة – لُعبت الجولات كلها. صحيح أن هناك قناعة هي شرط للمشاركة في اللعبة والانتماء إليها. السخرية تقتل اللعب. عثرت بخصوص هذه التيمة على نص لملارميه و أنا سعيد به جدا. يُستخدم ملارميه عادة كهولدرلين للدفاع عن فكرة تقول بأن الفن شيء مقدس. هذا النص – محاضرة ألقاها في إنجلترا باللغة الفرنسية و بأسلوب فائق الغموض – واحد من نصوص ملارميه المحكمة الإغلاق إلى حد كبير. يقول فيه بأن علينا تجنب التفكيك القاسي للتخييل، ما يعني في الحقيقة بأن علينا تجنب تفكيك الذات – هي نفسها تخييل. ليس من حقنا تفكيك اللعبة لأننا سنُضيع بذلك المتعة التي نجدها فيها. ثم يقول، وهذا شيء أحاول أيضا إثباته في كتابي، بأن الأمر يتعلق بلعبة اجتماعية. أنا سعيد جدا لكوني وجدت هذا النص. كما لو أنني وجدت عند هايديغر مقطعا يقول فيه بأن العالم الاجتماعي يفسر الواعي.
يقول سلافو زيزك بأن الساخرين هم الذين يعملون أحسن. وألاحظ في مدينة كولون متعارضين بداخل مجموعات فنانين يُعيدون تشكيل أنفسهم كل سنة تقريبا، حتى لو اعترف المشاركون بأنهم لا يقومون سوى بتكرار استقطابات قديمة بين القطب الاستطيقي والقطب السوسيو – نقدي. يعلم الجميع بشكل ملائم أن هذه التعارضات عتيقة واختزالية، لكن اللعبة تستمر. أعتقد أن التحليل الأكثر دقة نفسه للعبة من طرف الذين يلعبونها لا يغير بالضرورة طابع اللعبة.

 أنتم على صواب.

وذلك ما يفسر مفهوم الحقل. كون الأمر لا يتعلق فقط بأفراد. هناك قوى أكبر وهي تسجننا. قوى موجودة في الواقع: أروقة كولون تُسجَّل في أدمغة أناس وهي مستبطَنة. إن مفهوم الحقل يتقدم مفهوم « الوسط « لأنه يتضمن فكرة وجود نوع من الآلة الجهنمية. بمجرد أن نشارك في هذه اللعبة، كما في التراجيديا، نصبح مكرهين على الخضوع للقواعد. و إذا فكر لاعب في الانفلات من القواعد، فإننا ندعه يسقط. في أحيان كثيرة، ودون رغبة لعب دور الأكثر دقة، أجدني أنا نفسي مجبرا، صعب علي، على أن آخذ اللعبة بعين الاعتبار. لنفترض أنك فكرت في استجوابي بخصوص مكانتي في السوسيولوجيا الفرنسية. كنت سأتضايق على الفور. كنت سأقول بسرعة بأنكم لا تعتقدون أنني أعتقد ذلك فعلا. أنكم ستشتبهون في استرتيجيا، كوني استغل السوسيولوجيا لإخفاء لعبتي، كي لا أكشف لعبتي، لكي أدمر الذين يعارضوني.


الكاتب : ترجمة: سعيد رباعي

  

بتاريخ : 13/05/2021

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

: داخل مجتمع اللاتلامس، لم تعد نظرة العشق الأولى موضوع تبادل في الشارع، أو داخل حانة، أو في عربة من

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *