حوارات ولقاءات مع بيير بورديو 30 : بعض عوائق التلقي الدنيوي لسوسيولوجيا نقدية (3/5)

بعد وفاة بيير بورديو، نعتْه الأخبار اللبنانية – من بين منابر أخرى في العالم، أكثرها عددا من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط – في مقالة تحت عنوان « ببير بورديو شاهدا على بؤس العالم» واصفة إياه ب «العالم المناضل الذي هجر الفلسفة وفخامتها الخادعة»، كما يقول هو نفسه. واعتبرته « لوموند» من زعماء حركة مناهضة العولمة ومن أشد منتقدي الرأسمالية. فعلا، ففي نص بعنوان «لأجل معرفة ملتزمة»، نشرته «لوموند ديبلوماتيك» عدد فبراير 2002، أياما قليلة بعد وفاته، يقول الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، إنه «ضروري في أيامنا هذه أن يلتزم الباحثون المستقلون بالحراك الاجتماعي وخصوصا في مواجهة سياسة العولمة»؛ وقد كان، بالفعل، حاضرا وبقوة في الأنشطةالسياسية شملت مؤلفات بورديو موضوعات الثقافة والأدب، و الفنون و السياسة والتعليم و الإعلام وموضوعات دعم كفاح الطبقة العاملة و المعطلين، ما جعله نقطة ارتكاز فكري لليساريين.
إلا أنه تميز أكثر باشتغاله في مجال السوسيولوجيا (من بين مؤلفاته في المجال ” أسئلة في السوسيولوجيا “، 1981)، حيث يرى البعض أن أعماله تجديد للنظريات السابقة. نقف، مثلا، على مفهوم ماركس فيبر عن أهمية القيمة الرمزية لشرعية كل سيطرة في الحياة الاجتماعية. كما طور مفهوم رأس المال انطلاقا من نظرية ماركس لتنطبق على النشاطات الاجتماعية و ليس على الاقتصاد فقط. نجد، أيضا، في نظرية بورديو حتمية إميل دوركهايم، وبنيوية ليفي ستراوس، وإلى جانب علماء الاجتماع الذين أثروا فيه، نجد فلاسفة تركوا بصمتهم في أعماله مثل هسزل وفيتغنستاين، كما تأثر بباسكال واعتبر نفسه في كتابه ” تأملات باسكالية “(1972) ” باسكالي الهوى”.
كل ذلك، إلا أن إطلالاته الإعلامية عرّضته لحملات قاسية بسبب انتقاده دور الإعلام وتوجهاته التي لا تتسع للنقد، بل تسهم في قولبة الوعي حسب النمط المهيمن والقيم السائدة.
لتقريب القارئ من عوالم بيير بورديو، الغزيرة و المقلقة، نقترح هنا ترجمة لسلسلة من حواراته ولقاءاته.

إلى روح محمد جسوس

تواصلت التحرشات الممنهَجة.

تدخل سعيد في الربع الأخير من عمر اللقاء. إنه لا يرى أية أهمية لحضور السوسيولوجي، متخذا موقع الخارجانية، كما لو كان يرفض الخوض في اللعبة، متحدثا بصيغة « نحن «، الحي المتين الذي لا يمكن أن يستهل بؤسه بمجيء بورديو: « بوردي هنا، لا جدوى من ذلك !». لينهي تدخله، رفض فكرة اللقاء – النقاش طاعنا في المحاور: « كل ما في الأمر أنني جائع. الآن، إذا كنتم ترغبون في التحدث إلى بورديو، فهو ليس الرب، إنه بورديو. لا ينبغي أن ننخدع ! «. لكنه، بخلاف منير، ألقى كلمة حول بؤس العالم الذي يقتات منه يوميا و الذي أمكنه التفكير فيه متخذا المسافة والوقت اللذين يسمح بهما ميول « فنان «. استهل كلامه بالهجوم على منافسيه، « الفنانين الباريسيين «، تبعا للموضا: إذا حلوا هنا لاحتلال مكان الأهالي، وذهبنا نحن إلى باريس، فإنهم يعاملوننا كما لو كنا نكرات، « نحن مرفوضون دائما «. فيما بعد، سيقول وهو يتحدث إلى بورديو بعد اللقاء: « نحن سوسيولوجيو قنوات الصرف «. رغم اتخاذه مسافة، فإنه يتموقع في السجل نفسه وهو يعبر عن اهتمامه بالرهانات نفسها ( تحليل الحي ). تتموقع « مقاومته « في نفس الميدان: ميدان فهم العالم الاجتماعي الذي يُعدّه على «طريقته «. سيحصل بعد ذلك على شيء من الاعتراف. خصه بورديو، أمام الحضور، بنوع من التكريس، معبرا بكل صراحة عن اتفاقه فيما يخص الإقرار، لكن عن اختلافه حول الخلاصة: « هنا أتوجه إليه هو. لماذا نستخلص بكيفية متشائمة جدا؟ «. تتحول المسافة التي عبر عنها سعيد أمام الجمهور إلى محاولة للتقارب داخل الحلقة الصغيرة الخاصة لما بعد اللقاء: بل إنه طلب من بورديو العنوان حيث يمكن اللقاء به. وحين سينظم سعيد، فيما بعد، معرضا في « لافيليت « حول تاريخ الهجرة إلى « فال فوري «، سيزوره بورديو، وسيعتبر سعيد الزيارة نوعا من التكريس؟
بخلاف منير الذي قابل رأسماله الفيزيقي برأس المال الثقافي لبورديو، مدافعا بذلك عن مبدأ الهيمنة المهيمن ( القوة مقابل المعرفة )، يدخل سعيد لعبة السوسيولوجي: لديه الاستعدادات و الموارد التي تساعد على أن يستخلص منها فوائد رمزية.
تكشف هذه « المقاومة « المزدوجة عن وجود معارضة لها تتكون من حلفاء السوسيولوجي الذين جاء تعبيرهم متنوعا. مجموعتان، مناضلون مثقفون، من جهة، شبان مقاولون، من جهة أخرى، تعارضان الحرونين. وتكفل متدخل آخر، عامل مناضل، بإرجاع النقاش إلى مركزه.
كان المناضلون المثقفون، وهم طلبة ينشطون داخل جمعيات سوسيو – ثقافية، يعرفون بورديو ويقدرونه. أولهم عثمان، طالب في شعبة الكيمياء، مناضل مسلم وقارئ مواظب ل « لوموند ديبلوماتيك «. لقد أخذ حضور بورديو بجدية وشكره « على كل الأعمال التي أنجزوها، وعن جمعية « ريزون داجير « التي تقدم لنا الكثير و الذين، أتمنى، سيقدمون لنا المزيد لكي نفهم العالم الذي نعيش فيه «. أصر عثمان على طرح الهوية، مميزا بين « الاستيعابي «، « الطائفي «، « الانعزالي « و « المُدمِج «، ما جلب عليه استهزاء واحد أو اثنين من الحضور، وكذلك منير الذي قال له: « أ لا يمكنك الحديث ببساطة أكثر إذا سمحت؟ تكلم فرنسا ! «، أو عدم فهم حسن الجالس بجواري: « نحن في « فال فوري «، تكلم في مستوانا، هنا ! «. خلّف تدخله حول الإدماج و الهجرة صدى إيجابيا لدى بورديو، الذي طالب باحترام عثمان حين طُرحت مسألة عدم بساطة خطابه. إلا أن حديث عثمان قوّى مناهضة النزعة الثقافية لدى جانب من الحضور.
تدخل بعد ذلك إيمي لكي يعمل بشكل واضح على إرجاع النقاش إلى سكته التي ما كان له أن يخرج عنها، حسبه.
« أعتقد أن ما يقوله لنا منذ البداية، مساره، هو أن يقوض الترسيمات التي رسخوها فينا منذ طفولتنا لكي نعمل (…) على السير باتجاه المساواة…».
شكره بورديو: « أتوجه إذن إلى إيمي. أشكره كثيرا على ما قاله لأنه قدم صورة مثالية لما يمكن فعله. يسعدني كثيرا أن ذلك تقريبا هو ما أسعى إلى القيام به «.
خصوصا و أن إيمي طرح على بورديو سؤالا حول اللقاء الذي كان جمعه قبل ذلك بأرباب عمل كبار، حيث جعله السؤال يعود إلى مجال عمله: « كنت مندهشا حين طلبوا مني التحدث إلى أولئك الناس (…) قرأت ورقتي، محاولا أن أبدو بمثل كفاءتهم في ميدانهم… كما كنت مندهشا حين ردوا علي. كان ردهم ضعيفا، بل بئيسا. إلا أنهم تعاملوا معي بجدية. أقول هذا لكي أؤكد أن المثقفين، إذا أدوا ما عليهم، بأسلحتهم البسيطة، بسواعدهم، دون حاجة لأية قوة أخرى، فإنهم يستطيعون !»
لكن، حين حاول بورديو إعطاء درس للأساتذة، جاء رد فعل حسن في غير محله:
بورديو: حين قلت فبل قليل بأن السيد إليغر كان، دون علمه بذلك، وكيلا لفرض النيو ليبيرالية، لخوصصة النظام التعليمي تقريبا، إلخ، كنت أعتقد أن كلامي سيفاجئ الكثيرمن الأساتذة الذين لم يعوا ذلك بعد.
حسن ( وهو لا يُدرك ما حوله ): « الأساتذة، لم يفهموا « أليس ذلك ما قاله؟
كذلك جرى الأمر حين قارن بورديو جمهور « شابلان « بنقابة الطب العام:
بورديو: حين التقيت الأطباء وتحدثت إليهم، كانوا أكثر لطفا منكم و أقل إزعاجا. [ ضحك ] أقول لكم ذلك بكل صراحة!
حسن (يحدث بورديو من عمق القاعة ): لكن، لغتكم هي التي أغضبتنا. لقد تجاوزتنا لغتكم، اسمحوا لنا، فليس لنا نفس مستوى الأطباء !… إنه لا يتقبل الحقيقة !
جويل: إنه لا يسمعك.
حسن: بل يسمعني ! إنه يتصرف كالأساتذة الذين لم يفهموا بعد !
جويل: إصعد إلى المنصة وخذ الميكروفون !
حسن: لن يسمح لي بذلك منشطو « إذاعة الحق في المواطنة « ! أينهم؟ إنه يقارننا بأطباء، باكلوريا + 7، باكلوريا + 8. إننا في « فال فوري «. لم نأت إلى هنا من أجل لاشيء ! ليس جديرا بسوسيولوجي أن يقارننا بأطباء ! «.
ديناميكيون، متأثرون جدا وقتها بمسار جان – ماري ميسيي، قذوتهم، شكل الشبان المقاولون مجموعة صغيرة من شبان تزيد أعمارهم عن عشرين سنة. إثنان أو ثلاثة من بينهم سيحققون خلال السنوات التالية النجاح في المقاولات التي أسسوها. وسيشاركون في جميع الأحداث الإعلامية و السياسية المحلية الرامية إلى تنمية « شبان الحي « الذين خلقوا مقاولات. كما انخرطوا في حياة الحي حيث أسسوا جمعية تهدف إلى ترسيخ « المواطنة «. في الوقت الراهن، كانوا يحالفون بورديو في معارضته منير وسعيد. كانوا من نفس جيل أديل، منشط « إذاعة الحق في المواطنة « الذي حاور بورديو، كانوا بصدد الارتقاء وكانوا يسعون، مهما كلف ذلك، إلى التميز عن الجيل السابق: « ينبغي أن نتحرك «، كانوا يقولون كما عبر عن ذلك عبد الله. « علينا نحن أن نتحرك، علينا نحن أن ننجز الأعمال، لا ينبغي أن ننتظر أن ينجزها الآخرون لأجلنا «. إنها نزعة تطوعية سيؤيدها بورديو وهو يعبر صراحة عن اختلافه مع « الخلاصة المتشائمة « لسعيد. مع ذلك، فليس بفضلهم سيسترجع بورديو لحظيا نفسه وشيئا من الصفاء، بل بفضل جاك، العامل المناضل.
كاك جاك هو الممثل الوحيد ل « الحركة الاجتماعية « الذي تناول الكلمة، ومما لا شك فيه أنه كان واحدا من آخر الصامدين بعد ماي 68، ولا يزال عاملا رغم مرور ثلاث عشريات على ذلك. إنه يعمل في « فلينس « منذ مطلع السبعينيات، وقد حافظ على كامل إيمانه بضرورة خوض « المعركة الطبقية «. شارك في جميع النضالات، لكنه، بعد انتمائه لمختلف التنظيمات السياسية الثورية، لم يجد مكانه فعلا داخل النقابات. إنه متعلم. مشارك في قرابة عشرة جرائد وهو واحد من المؤسسين المشاركين في مكتبة « لاريزيرف «، التي ساهم مساهمة كبيرة في تمويلها. إنه ليس إذن أي عامل وهو متحالف مع بورديو الذي قرأ له على الأقل « بؤس العالم «. بذلك وجد بورديو نفسه في مواجهة محاوِر طرح سؤالا لا يخرج عن السياق المنتظر: « ما الذي يمكن لمثقف أن يقدمه للنضالات؟ «. سيكون بإمكانه، لفترة محددة، أن يطور خطابا حول الحركة الاجتماعية الأوروبية و أن يعمق تحليله للروابط بين المثقفين و « الشعب «. إلا أن هذا الدعم الذي قدمه الحلفاء، لم يكن كافيا مع ذلك لتخفيف حدة التوتر.
حاول « سينمائي « ورئيسة جمعية، كانا بعيدين عن رهانات النقاش، اتخاذ مظهر « المضحى بهم «. كان « السينمائي « الضحية الأكثر سهولة: حظيت تضحيته بإجماع الحضور على الفور؛ إنه بورجوازي، متحدلق، إنه الراقي المثير للسخرية إلى حد ما. عاش فترة مجده منذ مدة حين عمل، ككاتب سيناريو، مع بينييل. تناول الكلمة لكي يتناول الكلمة لا غير. وحين اشتكى بورديو عدم تضمن مداخلات الجمهور لأسئلة، حاول أن يرد:
بورديو: أريد ان أثير انتباهكم، في البداية، إلى أن هناك أسئلة قليلة جدا. باستثناء التدخل الأخير، سمعت تعبيرا عن الإيمان، انفجارات للأنا. شعرت بالحرج إذن، لسبب تقني، أي وجود أسئلة قليلة. سجلت بعض الملاحظات…
السينمائي:… يتضمن ما قلته سؤالا.
بورديو: لا.
السينمائي: … أو حاولت أن أقول.
بورديو: لا وجود لأسئلة على الإطلاق.
السينمائي: هل تعتقدون فعلا أن هناك عدم تطابق بين البحث و …
بورديو: لا وجود لسؤال…[ ضحك ]
رغم يأسه الواضح، لم يتمكن المسكين من الإفلات من رفض الاعتراف به من طرف المثقف الكبير الذي نظر إليه نظرة ساخرة، من أعلى المنصة، ما حقق متعة كبيرة داخل القاعة، التي أسعدها ذلك.
كانت جميلة آخر المتدخلين، وهي من سكان « فال فوري «، تناضل في جمعية ترأسها، « امرأة 2000 «، الجمعية التي تجد صعوبة في تنظيم أنشطتها لأنها تواجه معاداة البلدية. لقد جازفت بالخوض في حقلي ألغام: السوسيولوجيون و المدرسة. حاولت في البداية رد الاعتبار للسوسيولوجيين بتوجيهها معارضة قوية لخطاب منير النقدي، دون أن تفهم أين تضع قدميها:
« لست متفقة معك السيد بورديو. التقيت عددا كبيرا من الباحثين، السوسيولوجيين، بوجه خاص عادل الجازولي الحاضر هنا، وهو متخصص كبير في شؤون الضواحي، إلخ… حيث كان يشتغل عليها «.
ألقت بعد ذلك خطابا يطبعه شيء من البؤس حول اختلالات المدرسة. رد عليها بورديو بفظاظة:
« … أنا مسرور لأنني سمعت ما قلتِه، إلا أنني لم أتعلم منه شيئا. [ تصفيقات ]. مثلا، مفهوم السجل الدراسي، كنت كتبت هذا قبل عشرين سنة، على شاكلة السجل العدلي. نعرف كل ذلك […]، نعرف أن هذا الإقرار تم تقديمه من قبل، سواء محليا أو وطنيا. ليس من طرف الجازولي، ليس من طرف هؤلاء. في الدول الاشتراكية، يسمون هؤلاء الناس « الذين يأتون لذهن المعمل بالصباغة «. ليسوا سوسيولوجيين، أنا آسف. إنهم ليسوا زملاء بالنسبة لي، هم بلطجية مهن. هذا كل ما في الأمر، وأنا أتأسف، إلا أنني ملزم بفعل هذا، و إلا تعذر علي التضامن مع هؤلاء الناس. لا أبالي بوجودهم، إنهم لا يزعجونني في أي شيء، سوى أن بإمكانهم إضفاء الشرعية على نوع من التمرد الشامل ضد خطاب السوسيولوجيين، وبإمكانهم تبرير معارضة نزعة ثقافية. و أنا آسف لسماع مناهض للنزعة الثقافية. لقد ماتت الحركة العمالية الفرنسية بسبب مناهضة النزعة الثقافية هذه. تأسست الحركة العمالية الفرنسية على نوع من النزعة العمالية التي تسمح للمسيرين بأن يكونوا بلهاء و أن يطلبوا الحماقة باسم الانضباط للحزب. لهذا أنا ملزم بالانفصال عن هؤلاء الناس الذين هم صُفر… هم ما لا أعرفه… يتظاهرون بمزاولة مهنة وهم يزاولون أخرى، تلك الأنواع من رجال الشرطة الرمزيين، هذا كل ما في الأمر. خطير من جهتي أن أقول هذا، و أنا لا أفعله أبدا. لكنني أفعله الآن لكي أُسمعكم أن هذا لا يمس بي، إلا أنني لا أغطي عليه. هذا ما أعتقده بكل صراحة. لذلك أعتقد أن من بين العوامل التفسيرية لكون الحركة الاجتماعية لا تنتظم، هناك مناهضة للنزعة الثقافية هذه.


الكاتب : ترجمة: سعيد رباعي

  

بتاريخ : 21/05/2021