حوارات ولقاءات مع بيير بورديو – 38 – اخلقوا شبكات! 4/3

بعد وفاة بيير بورديو، نعتْه الأخبار اللبنانية – من بين منابر أخرى في العالم، أكثرها عددا من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط – في مقالة تحت عنوان « ببير بورديو شاهدا على بؤس العالم» واصفة إياه ب «العالم المناضل الذي هجر الفلسفة وفخامتها الخادعة»، كما يقول هو نفسه. واعتبرته « لوموند» من زعماء حركة مناهضة العولمة ومن أشد منتقدي الرأسمالية. فعلا، ففي نص بعنوان «لأجل معرفة ملتزمة»، نشرته «لوموند ديبلوماتيك» عدد فبراير 2002، أياما قليلة بعد وفاته، يقول الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، إنه «ضروري في أيامنا هذه أن يلتزم الباحثون المستقلون بالحراك الاجتماعي وخصوصا في مواجهة سياسة العولمة»؛ وقد كان، بالفعل، حاضرا وبقوة في الأنشطةالسياسية شملت مؤلفات بورديو موضوعات الثقافة والأدب، و الفنون و السياسة والتعليم و الإعلام وموضوعات دعم كفاح الطبقة العاملة و المعطلين، ما جعله نقطة ارتكاز فكري لليساريين.
إلا أنه تميز أكثر باشتغاله في مجال السوسيولوجيا (من بين مؤلفاته في المجال ” أسئلة في السوسيولوجيا “، 1981)، حيث يرى البعض أن أعماله تجديد للنظريات السابقة. نقف، مثلا، على مفهوم ماركس فيبر عن أهمية القيمة الرمزية لشرعية كل سيطرة في الحياة الاجتماعية. كما طور مفهوم رأس المال انطلاقا من نظرية ماركس لتنطبق على النشاطات الاجتماعية و ليس على الاقتصاد فقط. نجد، أيضا، في نظرية بورديو حتمية إميل دوركهايم، وبنيوية ليفي ستراوس، وإلى جانب علماء الاجتماع الذين أثروا فيه، نجد فلاسفة تركوا بصمتهم في أعماله مثل هسزل وفيتغنستاين، كما تأثر بباسكال واعتبر نفسه في كتابه ” تأملات باسكالية “(1972) ” باسكالي الهوى”.
كل ذلك، إلا أن إطلالاته الإعلامية عرّضته لحملات قاسية بسبب انتقاده دور الإعلام وتوجهاته التي لا تتسع للنقد، بل تسهم في قولبة الوعي حسب النمط المهيمن والقيم السائدة.
لتقريب القارئ من عوالم بيير بورديو، الغزيرة و المقلقة، نقترح هنا ترجمة لسلسلة من حواراته ولقاءاته.

 

n هل توجد اليوم بنيات أساسية، المخططات الأولى لبناء هذه الدولة الجديدة؟

pp الأمر صعب جدا، كما أسلفت القول. من جهة أخرى: إذا سمحنا بالقيام بكل شيء، فلن توجد أبدا سلطة مضادة، أبدا ! إن المعنى من ندائنا تحديدا هو خلق منتدى يستطيع الناس بداخله تقديم مشاريع والتعبير عن أنفسهم. سنحاول عقد مؤتمر في أثينا؛ الإغريقيون مستعدون لتمويله، شهر مارس 2001. إننا نشتغل عليه؛ إضافة إلى ذلك، نشتغل على مشروع ميثاق الدولة الأوروبية. كل ذلك ليس بعد دقيقا جدا، إلا أنه ليس سيئا أيضا. على جميع المستويات، نعمل على تطوير مطالب، وبدل استعارة الخطاب المهيمن دائما بإمكان وسائل الإعلام استعادة ذلك.

n لنعد إلى قاعدة هذه الحركة. من هم هؤلاء الناس؟ هل يوجد بينهم عاطلون، أناس لهم مناصب شغل هشة؟ من هي القاعدة؟

pp نعم، من هم هؤلاء الناس؟ لا أستطيع تحديد ذلك بدقة. أعتقد أن حوالي 15 ٪ من السكان الأوروبيين سيتخرطون في حركتا. ليست أقلية صغيرة تتشكل من مجموعات صغيرة جدا، بل أكثر من ذلك. بذلك، حين أزور أحد الأقاليم للتدخل أمام العموم، نادرا ما أفعل ذلك، أرى أنه حيث كان يتوجه ألف شخص، قبل سنوات، أصبحوا اليوم خمسة آلاف يحضرون. مؤخرا، كنت في نيوكاستل، وهي ليست عاصمة كبيرة، هناك أيضا ملأ الناس قاعة واسعة؛ كان الوضع مؤثرا جدا، لم أتمكن من الكلام تقريبا. أو، خذ مثال سيرج حليمي الذي كتب كتابه الصغير حول التلفزة في فرنسا: جاء ثلاثة آلاف لمشاهدته، ولم يتجاوز عمره الثلاثين سنة بعد. أو نجاح «لوموند ديبلومتيك» أو «أطاك» … لا أعرف من هم هؤلاء الناس، ربما شكل جديد للأنتلجنسيا؟ لقد أصبح مستوى التعليم مرتفعا أكثر، يوجد اليوم كثير من الناس اصيبوا بالخيبة وهم مثقفون – اركب القطار مثلا وستلتقي مراقبا يتكلم ثلاث لغات. بكل بساطة. هناك، إذن، أناس كثيرون اقتُلعوا اجتماعيا من طبقتهم، وهم حاصلون على شهادة إنهاء الدروس ويزاولون عمل ساعي البريد. ترجع شريحة من السكان في أوروبا كلها، من … ربما يقول ماكس فيبر: من الانتلجنسيا المبلترة.

n بروليتاريا حاصلة على شهادة؟

pp نعم. إنها مجموعة اجتماعية يمكنها هي أيضا أن تصبح خطيرة تبعا للظروف. ليس البقالون من خلق الاشتراكية الوطنية في ألمانيا، لا، هي الانتلجنسيا، كانوا ما يُسمى «privatdozenten»
في الظرفية الراهنة، هؤلاء الناس أعصابهم ثائرة، لا يجدون أي تسكين في الجرائد التي يقرأونها أو في ما توفره لهم السياسة، و… تحديدا! هؤلاء الناس عامل تغيير.

n لكن، الضحايا الحقيقيين للنيو ليبيرالية لم تصلهم هذه الحركة بعد؟

pp ليس بشكل مباشر، لا. أعتقد أن هؤلاء الناس تمت تعبئتهم بطريقة غير مباشرة، مرورا بغيرهم. تاريخيا، الأمر شبيه جدا بالحركات الدينية الكبيرة. من المؤكد أن القرويين المعوزين هم الذين كانوا وراء تلك الحركات، إلا أن القروييين كانوا تحت قيادة كهنة هجروا حلقة رجال الدين. قد يكون الأمر كذلك بالنسبة للبنية الاجتماعية للحركة الجديدة: تركيب انتلجنسيا مبلترة، متعلمة، نقدية، مصابة بالخيبة. مثقفة سياسيا. ومن ضحايا التاريخ. نلاحظ اليوم بشكل جيد أن حركة للعاطلين لا تتشكل من العاطلين فقط: يتعذر عليها التحرك إذا تشكلت من العاطلين فقط. لا بد من أناس آخرين يتقاسمون مصالح العاطلين، يتبنونها، لكن قادة هذا النوع من الحركات، زعماؤها بطريقة مميزة مثقفون كما وصفت ذلك قبل قليل: إنهم مثقفون جدا، أذكياء جدا. أناس نستطيع اعتبارهم كبروليتاريا حاصلة على شواهد. إن مفهوم «انتلجنسيا مبلترة» يليق جدا هنا. في فترة أخرى، كان أمثال هؤلاء الناس في حركات أخرى، في الحزب الشيوعي مثلا. لقد حرر إفلاس الحركة الشيوعية هنا أيضا طاقات سياسية كانت مسمرة في السابق كما لو أنها كانت مرعوبة.

n في نفس السياق، إن تعبير «الدولة العامة» في ندائكم يتوجه – بغض النظر على إحالته على الثورة الفرنسية – على أناس مثقفين بالأحرى. علاوة على أن هذا التعبير أجمل من لفظ
« tagung»
(مؤتمر) الذي تم الاحتفاظ به في الترجمة الألمانية.

pp بالطبع، يتضمن هذا التعبيرشيئا متزهدا، شيئا مستمدا من التزهد الثوري. فكرنا أيضا في ألفاظ أخرى – «مُكوِّن» أو «اتفاقية» – وهي أيضا استعارات ثورية لإيقاظ ثقة الناس. – تستخدم القوى المهيمنة باستمرار رموزا كهذه، وذلك بطريقة بارعة جدا. كما أنها تتوفر على المال كذلك، بخلافنا نحن. في الوقت الراهن، ليست لدينا أموال. لدي هنا شابان يشتغلان معي كثيرا على الميثاق – إضافة إلى أبحاثهما. ليلة أمس، اشتغلت حتى الواحدة صباحا، بعثت رسائل ألكترونية إلى كل مكان. كل واحد يقدم جزء من وقته ومن طاقته. لو كان لدينا واحد من المائة من الميزانية التي تتوفر عليها بعض المؤسسات، لكان كل شيء بسيطا جدا. يقوم فرانز سثولهيس، أستاذ بنيو ساتل، بتنسيق كل شيء حول ألمانيا، وهو يقوم بعمل رائع. علينا أن نبذل الكثير من الطاقة لاكتساب المصداقية – لدى أولئك الذين يعملون معنا، وكذلك لدى أولئك الذين نرغب في الوصول إليهم. في اليونان، جمع شاب لوحده ثلاثمائة توقيع لفائدة النداء ونظم الوسائل الضرورية لاستقبال ما بين ثلاثمائة وأربعمائة شخص خلال المؤتمر المرتقب تنظيمه في أثينا. «الدول العامة»، علينا أن نبتكرها أولا، اتمنى ان تتم مناقشة نصوص، أن تولد أعمال جماعية. و بعد ذلك، علينا ان نخلق حول هذا الحدث نوعا من الميثولوجيا. ينبغي أن يعلم الجميع أن حدثا ما جرى في أثينا. سيلعب الصحافيون دورا مركزيا هنا. إذا كتب الصحافيون فقط بأنها نزوة جديدة لبورديو، سيضرذلك بنا.

n في كتابكم «بؤس العالم»، أبنتم أن ضحايا النيو لييرالية أشخاص مختلفون جدا وأنهم يتبعون مصالح مختلفة جدا. الآن، تريدون إنشاء حركة تعود إلى قيم كونية: في معارضة النيو لييرالية، كيف تخلقون الصلح بين كل هذا؟

pp إنه تناقض كبير. إلا أننا مجبرون على حل هذا التناقض. إذا لم نقم بأي شيء، سينخرط عدد كبير من الناس في أفكار أقصى اليمين. كتبت هذا في نص له علاقة بهيدر في النمسا: عدم وجود حركة تُعطي معنى للحياة، يشجع صعود الحركات الفاشية. في اعتقادي، محاربة لوبن ومريديه جزء من وظائف هذه الحركة الاجتماعية – ليس وظيفتها الرئيسية، لكنها واحدة من وظائفها الثانوية المهمة جدا. سنة 1995، حين كانت هناك حركات إضراب كبيرة في فرنسا، فجأة لم يعد الأمر يتعلق بلوبين. لكن الناس الذين كانوا قابلين لتأثر برهنتهم العنصرية التحقوا بحركة الإضراب تلك. صحيح أن عواقب النيو ليبيرالية مأساوية: إنها تشتت الناس، تبعد بعضهم عن البعض الآخر، تدمر المجموعات، الجمعيات، بنيات الدفاع الجماعية وتتركهم معزولين، بمصالح متضادة، بآمال متعارضة.
كل هذا يشجع تطور الحركات الفاشية. أناس محرومون، تستقطبهم الشعبوية. أصبحت واحدة من وظائف الحركة الجديدة أن تقول للناس إن كل هذا ليس مصادفة، إنه ليس كذلك خطأ الأجانب،
بل هو نتاج سياسة اقتصادية – سياسة بإمكانها أن تكون مغايرة أيضا. نتفق تحديدا على نفاق الاشتراكيين الفرنسيين في مثال الموقف السياسي حول الهجرة: سياستهم اتجاه المهاجرين الذين دخلوا إلى فرنسا بطريقة غير شرعية كانت قاسية استثنائيا، وقد ردوا على المظاهرات في الضواحي بقمع مدو إلى حد كبير.
اليوم، تقوم شرطة الهجرة في كل مكان داخل المدارس بمراقبات صارمة لكن لإدماج الناس، لم يفعلوا اي شيء على الإطلاق. قبل عشر سنوات، انتقدت نفاق ميتيران حين قال للمهاجرين: «أنتم هنا في بلدكم!» في بلدكم؟ من غير بطاقة هوية، دون أية وثيقة؟


الكاتب : ترجمة: سعيد رباعي إلى روح محمد جسوس

  

بتاريخ : 10/06/2021