من الكتابة الشعرية إلى اللوحة التشكيلية، كانت المسافة حالة عبور إنساني مفعم بالمشاعر الحاملة للوعي، وبالحاجة والضرورة للفعل المثابرلاستعادة الأرض والمكان ، الذي هو فلسطين ، وصيانة التاريخ من المحو والوشاية الكاذبة، والانتساب العضوي للمقاومة، وهي القادمة من سلالة إبداعية متناسلة ،الأب والجد والمحيط العائلي والمجال السكاني ووعاؤه النقدي وهو «المخيم» وسره مفتاح العودة والمسار والطريق والمسير والدرب، وكل الخطو الذي ينشد التحرير بما فيها التحرر من قيود أشكال الإبداع البالية.
هي تغريد عبد العال الشاعرة والفنانة التشكيلية الفلسطينية، وهذه سرديات الحوار التي جمعتني بها نضعها بين يدي المتلقي والقارئ والفنان…
– من الشعر إلى اللوحة.. ما الذي استرعى دهشة انتباهك إلى قلق الألوان وأفقها الرحب ، والقصد كيف كانت بداية الشغف..؟
– هي ليست محاولة للهروب من الشعر أو الكلمات، لكنها ذهاب إليه بطريقة أكثر تلقائية وعفوية، ولأني أؤمن أن طريق الشعر محفوفة بشغف الفنون جميعها، قررت أن أتأمل كثيرا الألوان من حولي واكتشفت أني قارئة للوحات داخلي وخارجي، كنت قلقة أنني ربما في عالم يختلف عن الكلمات أو أني أبتعد عن الشعر ، لكني في ما بعد شعرت بطمأنينة أن الشعر ليس فقط كتابة، وأن اللوحات تحفزني على رؤية العالم شعريا بطريقة مختلفة. وطبعا لا أخفي ذهولي من لوحات الفنانين التي تأثرت بهم شعريا، قبل تأثري بهم فنيا.
طبعا كانت الولادة في بيت فنان تشكيلي، والجدران مليئة باللوحات وقد كتبت ذلك في نص شعري أنني بدأت كلماتي في وصف لوحة.
– بهذا المعنى نلمس أن الجدل قائم بين الشعري والتشكيلي عندك منذ النشأة ربما لهذا الاعتبار لوحاتك تنحو منحى الطفولة الحالمة..؟
– هناك جدل نعم، لكنه ربما لم يعد خلافا، وخصوصا أن الحالة التشكيلية أتت من الاهتمام بالشعر وانفتاحه على الفنون، لقد رسمت وأنا في العشرينات، لكني بدأت الكتابة في الرابعة عشر. ما أشعر به هو أنني أنتمي لفضاء الكتابة، لكن الفن يساعدني وربما أنتمي إليه أيضا لأنه لم يعد دخيلا أو مختلفا. أعرف أن في داخلي الكلمة هي الأصل، وحتى في الرسومات أقوم بكتابة بعض الجمل من شعراء أعرفهم أو من دفاتري القديمة أو جملا تمر فجأة في خاطري، لذلك أنا أشعر أحيانا أن اللون والكلمة داخلي منسجمان. والطفولة نعم هي حالمة جدا لأني لم أتخل عنها حتى في الكتابة، هي التي تعرف كل شيء داخلي والطفولة هي قاموس تعرفت به على معان كثيرة في هذا العالم، لذلك لا أتخيل أن رسوماتي سيكون داخلها يوما كبار، وحتى لو رسمت كبار السن فهم أطفال داخل اللون، ربما لأن الحياة كذلك والحقيقة أيضا لكن ألاعباء والأثقال تضع لنا مرايا غريبة لنرى أنفسنا كبارا…
– هذه الكلمات والرموز ودهشة الطفولة في لوحاتك هي فلسطين أيضا..؟
n- نعم، لأني أنتمي لحياة فلسطينية في أدق تفاصيلها، وأنتمي أيضا لرموز قادمة من تفاعلي مع الحياة بشكل واسع، وهو أمر لا مجال لفصله عن هويتي كلاجئة وكإنسانة وكقارئة وامرأة وفلسطينية. لكني في الرسومات أحاول أن أجعل اللون مكانا كما أن اللغة هي أيضا مكاني، لذلك أتفاعل مع الجمال وكأنه وطن، لأن أعداءنا يقتلون الجمال ويغتالون الطفولة والفرح والطبيعة، وهذه كلها رموز للأصل والأرض والطبيعة…الأشجار تسكنني والأحصنة والغيوم والزهور والأطفال والكلمات…
وهذا كله آت من مكان هو ثقافتي وعلاقتي بمحيطي وكينونتي وأيضا بتاريخي وذاكرتي وتراثي، وأيضا جغرافيا هذه التفاصيل الصغيرة.
.
– بين اللغة واللون ما هي المسافة التي تقطعها الروح وهي تعبر فلسطين الجرح والأمل والمقاومة..؟
– الروح تسكن الجرح ولا تعبره، في السابق كانت هناك مسافة بين اللغة واللون..الآن هما جناحان للروح، ولغتان يستطيع المكان داخلي أن يسرده كي يحتضن المعنى. وكل معاني وجودنا قد أصبحت ذات معنى بعيد ستظل الروح تستمع إليه.
– من الذي يوشوش لندِّه اللون أم الكلمات استنادا إلى تجربتك..؟
– أحيانا صوت ما في الطبيعة أو بين البيوت، وأحيانا صراخ بعيد، أو كلمات في الحلم، وأحيانا لوحة لغيري، أو رسم من رسوماتي وأحيانا رواية جميلة تلهمني. ليس هناك شيء محدد، وأحيانا لا أعرف من يهمس لمن، لكني متأكدة أن في بعض الأحيان، يهمس اللون بأشياء كثيرة في العمق، أحتاج أن أكتبها، وأحيانا أؤجل كثيرا الكتابة حتى ينضج ما أريد قوله فتأتي الرسومات وكأنها صور من ذلك النص الذي ما زلت أكتبه في الداخل.
ويحدث أيضا العكس، حيث أقول أن ما كتبته يعلق في ذهني وقلبي على شكل لوحة فأرسمها. الحقيقة أن هذا يعود لكون الفن بالنسبة لي ليس فضاء مختلفا، إنما لغته هي المختلفة، والترجمة هنا متبادلة ومتفاهمة.
– قوة الفن التشكيلي الفلسطيني في قدرته الخلاقة في رصد السردية الفلسطينية، مَنْ مِنْ هؤلاء وهم كثر ولكل تجربته وأفق انتظاره يلهمك ويحرضك على ممارسة فعل الإبداع..؟
– الكثيرون حقيقة، لكن كان أولهم جدي الذي ولد في فلسطين ويتقن الرسم جيدا والخط العربي، وأبي الذي لديه مدرسته الانطباعية والوجوه التي يرسمها بملامح مختلفة بلا أعين، والفنان الفلسطيني نبيل عناني الذي ركز رؤيته الفنية على طبيعة فلسطين وجغرافيتها وسهولها وأزهارها وأشجارها، فربما تفتحت عيني على مناطق مختلفة من معنى الهوية التاريخية والفنية على حد سواء، وهناك طبعا بول غوراغوسيان الأرمني الفلسطيني الذي شهد المجازر والابادة فرسم تلك القامات الطويلة المتلاصقة ليشير الى أن هناك كينونة واحدة للموت، وهو أيضا إلى معنى الهويات الشخصية التي لا يمكن أن تنفصل عن الجماعة. وهناك أيضا جمانة الحسيني التي رسمت بيوت القدس بطريقة ملهمة ومختلفة، فشعرت أن البيت رمز جميل في لوحتي وخصوصا أني ولدت في المخيم، والبيت جزء مكون أساسي من بيت كبير هو المخيم…وهناك الكثير من الأساتذة الفلسطينيين واللبنانيين والعرب..
– من الجد إلى الأب – الذي هو صديقي وأخي – التشكيلي والروائي مروان عبد العال إلى تغريد وكأننا نتحدث عن السلالة والامتداد في هذه العائلة الفنية كواحدة من أوتاد هذه التجربة. ماهو الشعور والاحساس والأثر الذي يخالجك وأنت تواصلين مشعل الفن ليظل البيت الفلسطيني مضيئا ينير طريق العودة والتحرير عبر سيرورة الكفاح والنضال والمثابرة..
– الفن هو تأمل في هذه السلالة واحتضان رموزها وفهمها. هو التعرف أكثرعلى نقاط مهمة وربما مهملة في الامتداد الفني، ولا أدعي أني حاملة مشعل الفن ، هذا توصيف كبير جدا علي، أنا مجرد قارئة للشعر والفن وكل ما يحدث حولي في العائلة والمجتمع والوطن والعالم.
لذلك فعلا أعتبرها رحلة، لكن ليس مهما إلى أين، مجرد الخوض في فكرة الفن يعني أنك تجرب، وفي التجربة، أجد طريقتي الخاصة في التعبير، فعندما وجدت تلك الرقعة، شعرت أنني أريد أن أستمر..واللغة داخل الرسومات تجذبني للحوار معها.
– في لوحاتك وكأنك تنزاحين نحو التجريد والتجريب معا، لكن الفضاء الذي يشغل هذه اللوحات تنبعث منه روح كائنات مرحة وفرحة في آن، تشخص الحالة إلى حد دهشتها بالحياة. في اعتقادك ما مرد ذلك..؟
– هي مندهشة بالحياة نعم، لكن لا أعتقد أنها مرحة، ربما الألوان تعطيها هذا الأمل، لكنها أحيانا تبتسم رغم الأطفال، وما دامت شخصيات طفولية فهي ما زالت تعيش الحلم والواقع معا ولا تريد الأفلات من الحلم، وأحيانا لأنها مندهشة بالواقع، فهي تتأمله ليصبح حلما يشبهها. هذه الكائنات لم تصل إلى حد القهر، ما زالت بريئة وخجولة وحالمة ومبتسمة.
– فعلا منسوب الطفولة فيها دال، لكن هل الإبداع يستطيع أن يحرر أو يجرد الإنسان من شراسة الواقع كما هي الحالة الفلسطينية أو على الأقل يسعى إلى تجاوز المرارات..؟
– يستطيع أن يحافظ على إنسانيتك، وطفولتك، والفن فلسفة لتجاوز مرارات الواقع عبر خلق لغة خاصة داخله، والإبداع الحقيقي هو أن تحول الواقع إلى فن اذا استطعت، إنه ليس تجريدا ولا هروبا فأنا أومن كما قال ماركيز :
«الخيال مجرد أداة لإبراز الواقع ووضع اليد على الجرح، ونحن نحتاج لا أن نستسلم للواقع ولا أن نهرب منه، بل أن نفهمه والخيال سيساعدنا على ذلك» .
– هل تمة أفق انتظار تتوقعينه من لوحاتك..؟
n لا، لا أتوقع أي شيء، عندما أرسم أقرأ ما حولي وما بداخلي وما في ذاكرتي، وكنت وما زلت مهتمة بالفنون ومهتمة بارتباطها الوثيق بالشعر. هي جاءت حصيلة الشغف والاهتمام بقراءة الأشياء واللوحات، أنا حاليا مهتمة بفناني المخيمات من خلال عملي في الأكاديمية وأيضا مهتمة بمتابعة فناني غزة وقراءة الكثير الفن الفلسطيني والعربي. الأفق مفتوح حين نفتح قلوبنا على الآخرين..ولوحتي ما زالت طفلة تدربني على الكتابة…