حول «تخوين» المثقف الواقع يعمق اليأس ويرسخ اللاجدوى

قد نكون بصدد إشكال تقليدي يفرض نفسه وبشروط متعددة ومختلفة بين الفينة والأخرى حين يطفو على سطح الواقع ومستجدات تناقضاته. يتعلق الأمر بالنقاش الدائر حول المثقف في المغرب وعلاقته بالسياسة، وتحديدا في هذا الراهن الموسوم بضبابية الأفق والبعد عن استراتيجية واضحة لتفعيل المستقبل، نتيجة اعتماد السياسة الارتجالية في تدبير شؤون القطاعات والمؤسسات والدولة. رغم أن الموضوع برمته طرح في مرات عديدة ومناسبات عدة ولو أن أسئلته تتجدد هي الأخرى والأجوبة أيضا، بتجدد الظروف والشروط والسياق وهذا هو الوضع الطبيعي والاعتيادي لهذا الإشكال منذ طرحه للنقاش.
وقد لا يكون المجال هنا لتحديد ما هو المثقف وما هي ماهيته ووظيفته في المجتمع؟ وهي أيضا من الاشكالات التي طرحت في العديد من المنابر والمحافل تولدت عنها العديد من الأفكار والآراء والمفاهيم والتصورات عن هذا الأخير، ولعل من أهم ما طرح مع مطلع السبعينيات وهو العقد الأكثر سطوعا لنجم الايديولوجيا وزخمها الفكري والنظري في المغرب إبان سنوات الرصاص ،هي الأدبيات التي أنتجها المنظر الماركسي الايطالي أنطونيو غرامشي عن المثقف بشكل عام والمثقف العضوي بشكل دقيق.
والذي حدده في ما يلي وفق تعبيره النظري والوظيفي:
«إن وظيفة المثقف العضوي هي تحقيق تصور للعالم أو أيديولوجيا خاصة بالفئة أو الطبقة التي يرتبط بها عضويا، وأن يجعل هذا التصور يطابق الوظيفة الموضوعية لتلك الطبقة في وضع تاريخي معين. كما تكمن وظيفته أيضا في الجانب النقدي من نشاطه الفكري الذي يحرر تلك الأيديولوجيات من الأفكار السابقة لظهورها».
وأيضا حينما يقول:
«للمثقفين استقلالهم النسبي عن الطبقة التي يرتبطون بها ، فالمثقف العضوي ليس انعكاسا للطبقة الاجتماعية، بل يعود استقلاله الذاتي إلى وظائفه كمنظم ومربي ومحقق تجانس للوعي الحقيقي».
والآن وفي سياق التحولات- بما فيها التحولات السريعة التي شاهدها ويشهدها العالم – لم يعد المثقف هو المرتبط بالعملية الانتاجية في الفن وصناعته، أو الأدب وأجناسه و الإبداع والتشكيل والموسيقى وإنتاج الكتب والمعاجم والمعارف بل أصبح المثقف هو كل من له القدرة الخلاقة على الاصغاء إلى دبيب المجتمع وفهم وتفسير وشرح تناقضاته والانتباه لتجلياته وتمظهراته، وتحولاته، وانزياحاته، وإشراقاته، وحراكه، وتقدمه ،ونكوصه وتراجعه، والانصهار في جوهره الحي والجدلي الذي هو كل هذه القضايا المتجانسة أو المتناقضة معاً.
لكن يبقى أخطر أنواع المثقفين هو ما تحدث عنه إرنيستو تشي غيفارا في قوله هذا :
«المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خرابا من النظام الديكتاتوري والقمعي الذي يمارس القتل ضد أبناء شعبه».
بهذا المعنى لا أهمية لأي مثقف، مهما كانت مرتبته الفكرية والمعرفية والنظرية، وقوته ستظل دوما هي انخراطه في الصيرورة النضالية والكفاحية لعموم الطبقات الشعبية التي توجد دوما في الطرف النقيض للطبقة المالكة لوحشية رأس المال.
لكن ما يهمنا في هذه الورقة الآن هو الرابط الذي يجمع المثقف المغربي بالسياسة إجرائيا وعمليا وتطبيقيا، والذي يستمد مشروعيته من الحركة الوطنية وتاريخياتها ورموزها في حركة النضال ضد المعمر والمستعمر وحلفائه ،والذي يعد الشهيد الحي المهدي بن بركة أحد أهم هذه الرموز من موقعه كمؤسس للفكر النقدي والجذري اليساري في المغرب .
أمام هذا الوضع المرتبك الذي هو وضع المغرب الآن، ليس في السياسة والثقافة والمجتمع لكن في الاقتصاد بالأساس، وهذا مربض الفرس كما يقال في مثل هذه النازلة يجد المثقف نفسه على حافة مربعات لا تستقيم لاتخاذ الموقف المنسجم والثابت تجاه المحطات التي يمر منها المغرب،وهي محطات قلقة خصوصا في ما يتعلق بمردودية هذا الاقتصاد الذي لم يتحرر، ولم يستقل من «ريعيته» كأساس والمستقبل كأفق وأفق انتظار أحيانا باعتبار هذا الأخير – الاقتصاد-هو عضد السياسة والمجتمع. وما يزيد الوضع في الحالة المغربية ارتباكا هو أن المنخرطين في الشأن السياسي العام لا يتفاعلون إيجابيا مع جوهر القضية السياسية، لأنهم منشغلون في جانب كبير بترميم ذواتهم على حساب اختيارات المستقبل ومصير الناس، وتوغلهم في فخاخ الانهزامية الفردية المعجبة حد الذهول والدهشة بثقافة الاستهلاك المتعولمة وثقافة المصالح الشخصية ومنطق بعدي الطوفان، لأنهم كانوا يتوقعون وجبات سريعة في مراحل تقتضي الصبر والتأمل ،تقتضي النضال المشترك جنبا إلى جنب مع عموم الشعب المغربي ضدا على انزياحات الرأسمال المتوحش. وهذا كان سببا رئيسيا في عدم التفاف عموم الجماهير والناس حول المثقف كما كان الشأن في السابق، إذ كان يعتبر هذا الأخير دليلا مترجما وواقعيا للتعبير عن آمال وآلام عموم الجماهير العريضة وكان يحظى باحترامها وثقتها، خصوصا عندما أكد بالملموس وهو يؤدي ضريبة زجه في السجون وعلى مدار عقود من الزمن المغربي لأنه اختار الاصطفاف إلى جانب قيم العدل والديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان ، مستندا في ذلك على مرجعية دقيقة وواضحة المعالم وهي مرجعية الفكر العلمي الاشتراكي التقدمي.
لهذا الاعتبار بشكل خاص انسحب جَمعٌ من المثقفين الذين كانوا ممارسين لهذا الفعل ومنخرطين في صميم قنواته الحزبية والنقابية والجمعوية ومنظماته الموازية ، وتركوا الفضاء فارغا وفسيحا لمن يشغله من وجهات نظر أخرى كانت متربصة بأخطاء وأعطاب قوى اليسار ومكوناته المتعدة وروافده المتجددة، بل مساهمة وبفعالية في هدمه وضربه من الداخل حتى يتراجع ويحتل «آل هؤلاء» -قوى دخيلة وبديلة، رجعية وظلامية -مواقعه التي استأثر بها لسنوات من النضال المجيد على خطى تحديث المجتمع وتثويره في آن، وبنائه نقديا ومعرفيا وحضاريا.
فيما ظل جانب آخر من النخب والمثقفين المنخرطين في صميم معارك المجتمع النضالية وحراكه السياسي من أجل التغير والكرامة وحقوق الانسان والمواطنة ، وبمعنى آخر على التماس المباشر لفعل السياسة وما يترتب عنه من قضايا ومسؤوليات والتزامات وواجبات أيضا ، وجزء من هذه النخب منخرط في الشأن العام وتدبير شؤونه استنادا واعتمادا على التجارب الانتخابية ولو أنها تحلق خارج سرب «المنهجية الديمقراطية « على حد تعبير الاستاذ عبد الرحمان اليوسفي.
برغم كل هذه التناقضات، يحدث الآن ما يمكن أن نطلق عليه بعملية الهجوم الواسع والكاسح والمدبر لـ « تخوين المثقف» وكسر شوكته وخاطره وتحميله المسؤولية أو الجانب الكبير منها في ما يحدث لمغرب اليوم والآن والهنا .رغم أن المسؤولية في عمقها –إذا أردنا أن نسمي الأشياء والأمور والقضايا بأسمائها – هي مسؤولية كل الأطراف والمكونات المجتمعية التي ساهمت بشكل أو بآخر في إنتاج هذا الوضع المأزوم والذي أصبح بلا معنى وغير مقبول في واقع متغير باستمرار وفي الاتجاه السلبي –للأسف- الذي يعمق اليأس ويرسخ اللاجدوى ويمحي أثر تربية الأمل.
يبقى البديل هو أن تحدد جميع الأطراف ،أطراف الدولة وأطراف المجتمع – السياسي والمدني- حدود مسؤوليها في تعطيل إمكانية ركوب قاطرة المستقل والولوج إلى الغد ،غد مغرب لكل المغاربة. وإلا سيعرف المغرب لا قدر الله انزلاقا سيصعب معه تدارك نقطة الانطلاق ونقطة الانجراف في حافة المجهول.
بقي أن أشير الى أن معركة المثقف في المغرب هي التوعية النقدية للمجتمع وطبقاته في لفت الانتباه لأهمية إعادة تأهيل الاقتصاد الوطني وبنائه على أسس المواطنة وهذا لن يتأتى إلا بتضافر الجهود لإيقاف مد المافيات المستفيدة من الريع الذي ينخر كنه الاقتصاد الوطني.


الكاتب : إدريس علوش

  

بتاريخ : 12/10/2018