حياة

 

-أبوكم نائم .. لا تزعجوه!
كانت هذه الجملة الصارمة حدا فاصلا يعيد كل نزقنا وفوضانا وزعيقنا -ونحن الصغار- إلى النظام ويضبطها على موجة الصمت «اللمط».
في الغرفة المجاورة كان يتمدد في هدوء خلال فترة الظهيرة بعد وجبة الغذاء وكنا نحن نحشر في الغرفة الأخرى ونؤمر بالتزام الصمت والتقليل من الحركة طواعية أو تحت التهديد والوعيد .
لم يكن الوالد ديكتاتورا ، لم يكن ينهرنا بالمرة ولم نره يوما ينظر إلينا شزرا إلا في ما قل وندر . قسمات وجهه المتعبة دائما والمتألمة -أو هكذا كان يخيل إلي وأنا صغير-هي كل مازال عالقا في ذهني بوضوح بعد كل هذه السنين. لكن في تلك الظهيرة الحزينة التي لن أنساها ما حييت ، كان الجميع يتحركون في المنزل ولم يكن هذا من عادة ساكنيه في هذه الفترة من اليوم .
كانت الحركة لا تفتر، وتعم أرجاء البيت جميعه وكان بعض الغرباء عني يحتلون البيت متوزعين هنا وهناك وأعدادهم تتزايد ببطء . أما هو فقد كان ممددا في الغرفة المجاورة التي أسدلت على بابها ستارة.
كنت قد عدت من الخارج لتوي وكنت قد تأخرت كثيرا في العودة . لكنني لم أجد من يستقبلني بالتوبيخ والتقريع المعتادين عقب كل تأخر .
كانت أمي تجلس في البهو تبكي وتولول و حولها نسوة أعرف بعضهن و لا أعرف البقية . أصابوني بالدوار، ضجيجهن لايطاق والتفافهن حول أمي أصابني بالحنق … في البداية تجنبتها ، فقد كانت ستوبخني بشدة و قد تقرص أذني مستفسرة أين غبت «هاد النهار كااامل؟؟» لكنها بالكاد لاحظت وجودي وانصرفت عني إلى من هم حولها.
ازداد حنقي وسخطي وتلوت أمعائي من الجوع ،حاولت لفت انتباههم و لكن بلا جدوى . كان الكل منشغلا عني ، تجمع الغضب في بطني وصعد جارفا نحو الأعلى . لم أدر متى صرخت بكل حنقي بالجملة الشهيرة : أبوكم نائم ..راه نائم .. لا تزعجوه ! عندها فقط امتدت بعض الأيادي ورفعتني إلى حيث وضعوني قربها ، حاولت التملص و لكنني عجزت ظلت الأيادي والهمهات تحاصرني ، وزاد ارتباكي وحنقي واحتبست الدموع في حلق الطفل الذي كنته حينها . أحسست بطعمها مالحة كثيفة قبل أن تنزل من عيني وارتعدت شفتي قبل أن أنفجر بالعويل مقلدا من هم حولي ، بل مساهما في ارتفاع أصوات النشيج و البكاء التي رافقتني متضامنة ومتفاعلة . وكأنني أعطيتها مبررا لترتفع .. كنت الوحيد الذي يبكي خارج السياق بل كنت الوحيد الذي لا يعي ساعتها أن الممدد في الغرفة المجاورة لم يعد يهمه إن صرخنا أو ارتفع ضجيجنا لأنه وجد الطريق – بدوننا جميعا – نحو الهدوء الأبدي الخاص.


الكاتب : رشيد بلفقيه

  

بتاريخ : 22/02/2019