حياة ألبرتو مانغويل المتخيلة.. العالم أجمل بين دفتي كتاب! 2/2

ماذا تقرأ؟

لعل من أكثر الأسئلة التي تثير الفضول والتي يمكن توجيهها إلى «قارئ شره» مثل مانغويل، هو: ماذا تقرأ؟ وهو ما تفعله المحاورة غايزل، فيجيب صاحب رواية «أخبار من بلاد أجنبية»: «أنا قارئ لكل شيء». معززًا إجابته بعبارة يقولها سرفانتس في بداية «دون كيشوت»: «إنه يقرأ حتى الأوراق الممزقة المرمية في الشارع». ويواصل مانغويل: «أنا لا أتوقف عن القراءة سواء كنت في السرير أو القطار أو في الحمام أو أثناء تناولي الغداء. أحمل دومًا كتابًا في يدي إلا إذا كنت أتحدث إلى أحد، وإن لم يكن لدي كتاب، فإنني أقرأ ما هو مكتوب على علبة الدواء».
وليس هناك من كتاب معين استأثر باهتمامه طوال الوقت، فحسب رأي مانغويل، هناك كتب مختلفة لأوقات مختلفة في حياتي قد تكون مرة «دون كيشوت»، وتارة «الجبل السحري» لتوماس مان، أو «أليس في بلاد العجائب»… وهكذا، وفي المدة الأخيرة «اهتمامي منصبّ على دانتي»، وخصوصًا عمله الكلاسيكي المعروف «الكوميديا الإلهية»، معترفًا بأنه حاول قراءة دانتي في سنوات سابقة لكنه أخفق، ليقع في غرام مؤلفاته، في سن متأخرة.
وردًّا على سؤال يحمل قدرًا من الإحراج: هل تخلصت من بعض الكتب؟ يجيب مانغويل بأن هناك كتابًا واحدًا رماه في سلة المهملات، وهو كتاب «مختل أميركي» لبريت إيستون إيليس، الذي تحول إلى فِلْم أيضًا، معللًا: «وجدت الكتاب شريرًا جدًّا… فهو نص مكتوب بهدف توصيف المتعة المستمدة من إلحاق الأذى بالآخرين».
واللافت في هذا الكتاب الحافل بمئات العناوين التي استرعت انتباهه، أن مانغويل لا يتوانى عن إبداء النفور حيال النظريات النقدية الحديثة، معترفًا: «لم أدرس النظريات الأدبية قط، ولم أقرأ أي دراسات أكاديمية. لا أقرأ دريدا، وليفيناس، وبورديو، وعندما حاولت قراءتهم لم أشعر بأي اهتمام كان». فهو ليس من أنصار أولئك المنظرين الذين يستخدمون المصطلحات والمفاهيم المعقدة، ويعدونها قواعد ثابتة يحاكمون الأدباء على أساسها.
ولمن يملك مكتبة تضم أربعين ألف كتاب، لا بد من سؤال حول عدد الكتب التي قرأها من بين هذا القدر الهائل؟ يردُّ مانغويل: فتحتها كلها، ولكن هناك كتب قرأتها مئتي مرة، مثل «أليس في بلاد العجائب»، وبعض الكتب التي قرأت منها كلمة أو أكثر أو فتحتها ثم أغلقتها ثانية. علاقتي مع الكتب أشبه بعلاقتي مع العالم، وعلاقتي مع العالم هي نسخة عن علاقتي بالكتب. فأنا لا أنظر إلى كل شجرة أو كل غيمة ولا أتحدث مع كل شخص، لكنني أعرف أنها كلها هناك وهي ضرورية لإكمال هذا العالم الذي أعيش فيه.

الورقي والإلكتروني

على الرغم من أن الكتاب الإلكتروني، في ظل الثورة الرقمية، بات حقيقة واقعة، فإن مانغويل، وكما هو متوقع، ما زال يعاند الزمن، ولا يتعاطى مع الكتب الإلكترونية والنصوص الافتراضية، قائلًا: «أفضّل الكتب الورقية. أحب أن أحمل الكتاب بين يدي، أن أتحسس حجمه. أحب أن أقلب الصفحات، وتدوين الملاحظات على الكتب التي أقرؤها، وأعرف اسم الناشر أيضًا…، ولا أحب هذا النوع من غياب الهرمية. فعلى الشاشة تبدو الكتب متشابهة، سواء كان الكتاب رواية لدان براون أو نصًّا لأفلاطون… أتفهم أريحية التعاطي مع الكتب غير الملموسة، والأهمية التي تحظى بها في مجتمع القرن الحادي والعشرين، ولكنها بالنسبة إليّ كالحب الأفلاطوني. أنا مثل توما الرسول، أريد اللمس لكي أُومِن».
بهذه الرؤية الممجدة لقيمة الكتاب الورقي، يشرح مانغويل، الذي يتقن الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، تصوراته حول علاقة المرء بالكتاب الورقي والمخطوطات النفيسة والموسوعات القيمة، ويقارن ذلك بتلك الكتب الإلكترونية التي استحالت، الآن، حروفًا خرساء على شاشة مضيئة، ويبحث في المعنى العميق لاقتناء الكتب وبناء مكتبة، ويحاول فهم تلك الروابط الخفية التي تنشأ بين القارئ والكتاب، مستعينًا بتجربته الشخصية من دون أن ينسى الغوص في آلاف الصفحات التي سطرها أسلافه بحثًا عن حكمة دالة أو تأمل عميق أو مقولة لماحة أو عبارة فذة، مجسدًا على نحو حاسم مقولة منسوبة للشاعر الفرنسي مالارميه: العالم أجمل بين دفتي كتاب.

الأدب والمعاناة

ثمة رؤية نمطية شائعة تقول: إن الأدب، والفنون عامة، لا تولد إلا من رحم المعاناة والهموم، لكن مانغويل يعارض هذه الرؤية المبسطة، فيرد على سؤال المحاورة: إنه مجاز قديم، تصوير كاريكاتيري للمبدع الذي يتسم بالقلق والكآبة، الكاتب الفقير الجائع الذي لا يملك شيئًا سوى الكتابة. لكن هذا ليس صحيحًا، فقد كان الروائي والمسرحي البريطاني سومرست موم مليونيرا، وتتمتع ج. ك. راولينغ، مؤلفة سلسلة هاري بوتر، بحياة مريحة وهناك أمثلة أخرى كثيرة.
ويوضح مانغويل، أن الكتابة ليست مشروطة بالفقر، محذرًا من «أنه مفهوم خطر يسمح للمجتمع بالقول: لسنا بحاجة إلى تمويل الآداب والفنون؛ لأن الإبداع سيأتي في جميع الأحوال، وهذا صحيح بمعنى ما، ولكنه لا يعني أن الشاعر لا يحتاج إلى طعام».
كتاب «حياة متخيلة» زاخر بمثل هذه الأفكار اللماحة والرؤى العميقة، وفي كل صفحة، بل في كل فقرة لا بد أن يستعين مانغويل باستشهاد واقتباس من المفكرين والكتاب الكبار؛ كي يعزز رأيًا هنا، وطرحًا هناك، وحين تسأله سيغلنده غايزل، عمن يكون مانغويل؟ يجيب بعد شروحات واقتباسات، وبمنتهى التواضع: «إن كان عليّ الإجابة بجملة واحدة على سؤالك «من أنا؟» فسوف أقول: أنا قارئ.


الكاتب : إبراهيم عبدي

  

بتاريخ : 25/07/2024