أول ما يخطر في البال لدى التفكير في فيلم «حياة خفية» هو: لماذا اختار ماليك تصوير هذه القصة التي تدور أحداثها في الحرب العالمية الثانية وقت صعود الفاشية الأوربية ممثلة بـ «هتلر»؟..
تيرانس ماليك الأمريكي ذو الأصول الشرق أوسطية اللبنانية، والذي يقدم في معظم أعماله أمثولة إنسانية شاملة، ربما أراد إرسال رسالة مشفرة إلى العالم «المتمدن!» أمريكا وأوروبا، إذ لم يكن سهلا على الوعي الغربي وصول شخصية شعبوية متهتكة مثل ترامب الى سدة الحكم في أمريكا وتصاعد نفوذ اليمين المتطرف في أوروبا مرة أخرى في أكثر من دولة بعد انحساره إثر نهاية الحرب العالمية الثانية. وأعتقد أن أحد أسباب صناعة هذا الفيلم هو القلق واستشعار الخطر الكبير على ما أنجز على يد جزء من البشرية من تقدم على صعيد حقوق الإنسان واحترام الفردية الإنسانية السليمة وليس الفردية المريضة الأنانية السلطوية والشوفينية بعد مسيرة طويلة مضنية وشاقة قام بها الغرب نحو الديمقراطية على الأقل في بلدانه ومع شعوبه بغض النظر عن الطريقة التي يتعامل بها مع حكومات وشعوب العالم الثالث.
«فرانز» و»هتلر»
أول صوت نسمعه في الفيلم هو صوت البطل «فرانز» ممثلا لصوت الإنسانية البريئة: «اعتقدت أننا نستطيع أن نبني عشاً عالياً،… في الأشجار،… ونحلق كالطيور،… صوب الجبال» لكن أول صورة نراها في الفيلم كانت لقطة لطائرة ألمانية حربية تستعمر الجو ثم نسمع صوتها تحلق عالياً تسيطر على المشهد كله وتعطي المشاهد انطباعاً أنها تسيطرعلى الطبيعة وأيضاً على الطبيعة الإنسانية، لأنه ينتقل بعدها لمشهد وثائقي لعرض عسكري لجيوش هتلر ونسمع صوت هتلر يخطب في الناس بينما يمر بموكبه أمام الحشود. تقوم الجماهير من رجال، ونساء، وأطفال، بتقديم تحية الولاء له. تبدو الحشود وكأنها مصابة بهوس ما (الهوس القومي والعرقي) تجاه هذا القائد الذي سيقودها ويقود أوروبا إلى جحيم االحرب العالمية الثانية. يقدم ماليك هنا مشاهد وثائقية على وقع موسيقا كلاسيكية تعطي بعداً تأملياً للحدث، وربما يتساءل الإنسان المفكر، ما الذي تفعله الجماهير هنا؟ وما الذي يفعله الفن لمجابهة ما تفعله هذه الجماهير المسلوبة التفكيروالإرادة، وما الذي يريد أن يصوره لنا ماليك؟
يقول هنري ميلر مستهجناً حزيناً في كتابه (رامبو وزمن القتلة): «الفن أمر يثير عواطف الإنسان، ويمنحه الرؤية، والتألق، والشجاعة، والإيمان، هل أثار فنان بكلماته، في السنوات الأخيرة، العالم، كما فعل هتلر؟
هل صدمت قصيدة العالم، مثلما فعلت القنبلة الذرية، مؤخرا؟»
«إننا لم نرَ منذ ظهور المسيح، أمثال هذه الظواهر التي تزداد امتداداً، وتتضاعف باستمرار، أية أسلحة يمتلكها الشاعر، مقارنة بهذه؟ أو أية أحلام؟
تضليل أيضاً أن تدعي بأن الإنسان قد بدأ يفكر، في نقطة ما بعيدة، من الماضي، الإنسان حتى لم يبدأ بالتفيكر، وهو ـ عقلياًـ لا يزال على أربع، يتخبط في الضباب: عيناه مغلقتان، وقلبه يخفق خوفاً، والذي يخافه أكثر ـ فليرحمه الله!ـ صورته هو نفسه»
ثم يفتتح ماليك فيلمه بهذا (القصة التالية مبنية على أحداث حقيقية) ليخبرنا أن هناك دائماً أفراداً يمتلكون وعياً إنسانياً سليماً في أشد الظروف التاريخية حلكةً.
ثم يتابع صوت راوي آخر «خلال الحرب العالمية الثانية، كل جندي نمساوي استدعي للحرب كان مطلوباً منه أن يقسم بالولاء لـ(هتلر)».
يبدأ الفيلم بعد المشاهد الافتتاحية لهتلر وعرضه بصوت اجتثاث العشب مع انتقال المشهد إلى البطل «فرانز» في قريته «رايغوند، النسما 1939».
بينما الجماهير كلها ترفع التحية للطاغية هتلر ينطلق صوت الفرد المشكك (من خلف الكاميرا) «فرانز» الذي سيواجه ببساطته ليس فقط كل جبروت نظام هتلر الشمولي « فقط برفضه أداء تحية الولاء لهتلر ورفضه الحرب التي يشنها في أوروبا على الآخرين» وإنما أيضاً سيواجه مجتمع قريته الصغيرة المسلوب الإرادة والتفكير، وحيداً أعزل تدعمه زوجته المحبة والمخلصة «فاني». الفيلم يعالج نوعين من الفردية النوع الأول الذي لم يستطرد فيه طويلا ماليك هو فردية هتلر المستبدة المسيطرة والمهووسة بإخضاع الجماهير لأفكار نفسية مريضة تستخدم عقدة الفوقية العرقية لتخضع الآخرين وتجندهم لميولها العدوانية تجاه العالم بحيث يصبح الجميع مسلوبي الإرادة والتفكير عاجزين عن تمييز الصواب، ويسيطر على الرأي العام عن طريق آلة دعائية جبارة تقولب وعي الجماهير كما يريد القائد النازي ونخبته، بينما يذهب ماليك ليصور النوع الآخر من الفردية الممثلة بالفلاح البسيط «فرانز» الإنسان ذي الفطرة السليمة الذي يكره الحرب ويكره أن يكون تابعاً أعمى للقائد النازي خاصة بعد أن نعرف أن والد فرانز قد قضى نحبه في الحرب العالمية الأولى وحتى فرانز كان قد رأى في فترة تجنيده الأولى ويلات الحرب العالمية التي قدمها ماليك من خلال الصور الأرشيفية أثناء عرض للسينما بالهواء الطلق يقدم للجنود الألمان الأمر الذي أصاب فرانز بالغثيان والذي استهجنه كثيرا بينما كان يهتف باقي الجنود لهتلر، سيدفع فرانز ثمن اختلافه ورفضه كثيرا هو وعائلته الصغيرة وسيخسر حياته في النهاية فقط لأنه يريد من الآخرين تركه وشأنه الخاص ليفعل ما يؤمن به دون فرضه على الآخرين الذين لن يتركوه وشأنه أبداً بل سيحاولون إقناعه بالامتثال لوجهة نظر النظام النازي من رجال الدين إلى العمدة إلى الفلاحين البسطاء إلى القضاة … الجميع ما عدا قلة قليلة مدركة لهول ما يحصل لكن رأيها لا يشكل فرقاً كبيرا بالنسبة للمجموع العام كمرمم الكنيسة «نحن نخلق المعجبين ولا نخلق الأتباع».
إذاً الفيلم يصور الجانب الآخر من الضحايا، الفلاحين والمدنيين الذين جندوا في الجيش النازي، الجنود المغلوب على أمرهم والذين من المفترض أنهم سيكونون المقاتلين القتلة وليس الأبرياء المقتولين فقط ،يركز عليهم ماليك هنا كما شاهدنا في مشاهد فرانز وزميله في الجيش والدلاند. ربما من المفيد هنا ان نعقد مقارنة أو مقاربة بسيطة مع فيلم « محاكمة الإله « أو «الإله في المحكمة»الذي أنتج عام 2008 من إخراج Andy De Emmony وسيناريو فرانك كوتريل بويس والذييتحدث عن الفريق الآخر في الحرب العالمية الثانية وهم اليهود والأطراف الأخرى المناهضة للنازية، الطرف الذي تعرض للقتل والتنكيل والإبادة حيث تدور أحداث هذا الفيلم داخل أحد معتقلات الإبادة النازية التي كانت تقوم بقتل اليهود وغيرهم، تدور أحداث الفيلم جميعها تقريبا داخل عنبر يتم فيه تجميع المعتقلين ليصار إلى تصفيتهم بعد وقت قريب في غرف الغاز، لكن الحدث الوحيد والمثير للجدل هنا هو الحوار بين المعتقلين اليهود ومحاولتهم عقد محاكمة لمحاسبة الرب الذي تخلى عن شعبه في هذه الفترة التاريخية الحرجة، حوار غني وجدل ومحاججة بين المؤمنين والملحدين وبين المثقفين والبسطاء محامين وقضاة باحثين وعلماء كل يدلي بدلوه ويتساءل «لِمَ يحدث معنا هذا، ما العبرة مما يحدث، ولماذا يقف الرب متفرجاً علينا، هل نقض الرب العهد مع موسى، هل الرب معفى من المسؤولية الأخلاقية هنا، هل ما يمرون به اختبار لإيمانهم، لِمَ هم معرضون للاختبار أصلاً، ماداموا شعب الله المختار، وما هي الفظائع التي أمر بها الرب شعبه المختار في الماضي حسب التوراة، من قتل وتدميرللشعوب الأخرى المجاورة لهم ،وهل يدفعون ثمنها الآن؟ وهل هو مع الطرف الآخر الآن ؟وهل عليهم الخضوع لإرادة الرب الذي يساند هتلر هنا؟! ولِمَ هم مسلوبو الإرادة هنا.
أما في فيلم ماليك ننتقل للمساءلات الكبرى التي تُجهد فرانز لماذا عليه أن يطيع القاتل وعليه أن يقتل ولماذا عليه أن يستجيب لرغبة القائد ورجال الدين والقضاة والبسطاء من الفلاحين ولماذا يضعه الله في هذا الاختبار، إنه رجل مسيحي مسالم فلماذا عليه خوض كل هذا؟ في مشهد مقابلة فرانز للأسقف يدور بينهما الحديث التالي:
أولا يخطب الأسقف في رعيته طالباً منها الخضوع والامتثال قائلا « يجب أن نكون أقوياء، تعلموا العبرة من قصة الحداد مهما كانت ضربة المطرقة قوية (مشهد يصور فخامة الكنيسة التي يخطب بها الأسقف)السندان لا يستطيع ولا يجب أن يرد الضربة، السندان يعيش أكثر من المطرقة».
يقول فرانز مخاطباً الأسقف: «إذا الرب أعطانا الإرادة الحرة إذاً نحن مسؤولون عن أفعالنا وما نفشل في فعله صحيح؟ إذا كان قادتنا هم غير جيدين إذا هم أشرار. ماذا يفعل المرء؟ أريد إنقاذ حياتي لكن ليس عن طريق الكذب.
– يجيبه الأسقف طالباً منه الخضوع « تعرف كلمات الرسول؟ «ليكن كل رجل خاضعاً للسلطة التي فرضت عليه» هل تسمع الأجراس! إنهم يصهرونها من أجل الرصاص».لكن فرانز عندما يخرج يقول لزوجته ربما هو أيضاً خائف مني ويعتقد أنني جاسوس.
لايتوقف فرانز عن مناجاة إلهه طوال النصف الثاني من الفيلم هو وزوجته فاني إنهما شخصان مؤمنان لكن لِمَ يحدث معهما هذا.؟
«فرانز» و»فاني»
يؤدي الممثلان المتميزان أوغست ديل وفاليري باخنر دور الزوجين فرانز وفاني حيث يصورهما ماليك في معظم المشاهد كروح واحدة في جسدين لكنه ما يلبث أن يعود إلى ما يؤمن به عادة أي إلى فردية المصير الإنساني ووحدته في مجابهة القدر في المشهد المؤلم بين الزوجين عندما يقرر فرانز انفصال مصيره عن مصير عائلته المحبة ويذهب في خياره للنهاية، تدعمه زوجته رغم كل ذلك الألم العظيم الذي تشعر به، وكأنه يدفع بنفسه فداءً لكل ما يعتقد أنه صواب باستخدامه لإرادته الحرة كإنسان وكرجل مسيحي مؤمن. أحد رسائل الفيلم هي قبول الاختلاف والأشخاص المختلفين عن البقية واحترام قرارتهم.
المحاكمة
في مشهد المحاكمة في محكمة الرايخ الجميع يؤدي التحية لهتلر ماعدا فرانز، القاضي والمحلفون والحضور. يأخذ القاضي استراحة قصيرة يختلي فيها بفرانز محاولاً التأثير عليه وإقناعه، ويقول له «هل تعتقد أن أي شيء تفعله سيغير مسار الحرب؟ أي شخص خارج هذه المحكمة سيسمع بشأنك لا أحد سيتغير؟ العالم سيستمر كما كان من قبل، قد يكون للأفعال تأثير عكسي عما أنت تنويه، شخص آخر سيأخذ مكانك. القاضي يسأل فرانز هل تحكم علي؟يجيب فرانز لا أفعل أنا لا أقول هو شرير وأنا على حق، أنا لا أعرف شيئاً، الرجل قد يخطئ ولا يمكنه الخلاص من خطئه لجعل حياته واضحة ربما … يريد العودة لكنه لا يستطيع لكن لدي شعور بداخلي بأنه يمكنني أن أفعل ما أعتقد أنه خطأ. القاضي يسأل فرانز هل لديك الحق بذلك؟ يجيب فرانز هل لدي الحق بعدم فعله؟ يحاول فرانز الحفاظ على كلمته واعتقاده ثم يحكم عليه القاضي بالموت، تنتهي المحاكمة لكن المحامي يخبره أنه مازالت أمامه فرصة للتَراجع إذا وقع على الورقة في زنزانته لكن فرانز يذهب في قراره للنهاية، يموت فرانز ويقرع الجرس في القرية وتستمر الحياة والزوجة المحبة فاني التي تقتلع الأعشاب من الأرض بأظافرها متألمة تقول: «سيأتي وقت نعرف فيه لماذا حدث كل هذا؟ ولن يكون هناك أسرار غامضة سنعرف لماذا نعيش؟ سوف نجتمع معا سنزرع البساتين والحقول، سنبني الأرض مرة أخرى يافرانز سألتقي بك هناك في الجبال».
ماليك والحرب
في فيلمه الأخير هذا وكما في معظم أفلامه التي تحدث فيها بطريقة أو بأخرى عن الحرب ينتزع ماليك كل مبررات الحرب منذ فيلمه «أرض النعيم» و»خط أحمر رفيع» وحتى «حياة خفية» يجرد ماليك الحرب ورجال الحرب من كل الدوافع الاخلاقية وينتصر للسلام الإنساني، أبطاله دائماً خارجون عن السياق العام للتاريخ يلتفتون ويحاكمون المجتمع والسلطة الموكلة بقيادته، والأهم من كل ذلك هم في حوار دائم مع الله و مع أنفسهم.
الإضاءة: يعتمد ماليك على الإضاءة الطبيعية في معظم أفلامه، نرى هنا كيف يستخدم الظل والنور الطبيعيين، الألوان الطبيعية والتكوينات داخل اللقطة، كل لقطة تبدو كأنها مأخوذة من لوحة عالمية. ويتعامل مع الطبيعة كشريك حقيقي كامل في الفيلم، كل عناصر الطبيعية تتفاعل مع الشخصيات بطريقة هائلة، إنها شريك الإنسان الأول والأوحد هنا: السماء، الجبال، النهر الذي استخدمه كرمز طبيعي لجريان الزمن، الحقول المزروعة، السحب.
الصوت: يمكننا ملاحظة تعدد الاصوات لدى ماليك وتعدد الرواة وتداخل الأصوات بين الروي والحديث العادي البسيط بحيث يظهر أكثر من مستوى للصوت، يتداخل تعليق الراوي من خلف الكاميرا مع صوت الحوار القائم أمام الكاميرا، الشخصيات تتحدث وتقوم بالأفعال بينما يأتي صوت الراوي فرانز أو زوجته أو راوي آخر عن بعد ليعطي مستوى آخر للحدث، يتوازى الصوت مع اللقطات و المشاهد بحيث يتكاملان لينتجا نصاً بصرياً مكتملا صورياً وفكرياً.
المونتاج :من المعروف عن ماليك أنه يأخذ وقتاً طويلا في المونتاج أكثر من التصوير فهو يقطع ويركب المشاهد واللقطات بما يتناسب مع منظومته الفكرية والفنية التي يريد توصيلها في الفيلم، مثلا من إحدى الأمور التي يمكننا أن ننتبه لها، تدخل شخصية الرجل الزوج وهو الشخصية المركزية هنا أولا إلى الكادر ثم تتبعها شخصية الزوجة ثم تتوسع اللقطة والتصوير لتشمل المشهد الطبيعي كاملاً. في بعض لقطاته يبدو كتصوير بكاميرا فيديو منزلية يشعر بالحميمية بين الاشخاص، خاصة مشاهد العائلة الصغيرة ومشاهد الزوجين معاً. و في المشهد الذي يوحي بالتحول في الجو العام للفيلم من الهدوء والسعادة الى التوتر والقلق، تنظر الزوجة للسماء ويبدو على محياها القلق، يبدأ نذير شؤم استشراف الخطر، السماء الملبدة بالغيوم والتي تتحول الى اللون الرمادي ثم تنظر الى منزلها الذي سيهدده الخطر، لا يفوتنا هنا ذكاء ماليك في النقلات والتعبير، تظلم اللقطة بعدها يفتح على زاوية قسم من البيت عربة القش في المنظور بناء الكنيسة والطقس غائم ثم يمر البطل الزوج ورأسه يميل نحو الأسفل. كل لقطة مدروسة بعناية ورغم أن اللقطات تبدو أحياناً غير مترابطة وحرة إلا أنها تنتظم بخيط خفي يشده ماليك الى أقصاه في اللحظة المناسبة.
يقول تاركوفسكي: «إن هدف الفن هو تهيئة الفرد للموت، حرث روحه وتمهيدها، وجعلها قادرة على التوجه الى الخير». وربما هذا مافعله «فرانز» ماليك في «حياة خفية». نجح ماليك في تقديم قصة وأمثولة متكاملة من خلال تقديم بيئة زمانية ومكانية مقنعة تماماً وشخصية تكابد صراعاتها الداخلية والخارجية و تقاوم لتحتفظ بما تعتقد أنه صواب للأجيال القادمة حتى في أشد لحظات التاريخ حلكة.