حين تريد مصر

كما لو أن السماء بنجومها قد نزلت على ماء النيل،
كما لو أن ملايين العيون تنظر إليها من هناك، من بعيد البعيد في مجرات الأزل.
وحدها مصر التي تعرف كيف تنتصر على جراحها وأفراحها، ضعفها وقوتها، فقرها وغناها، كي تنسج معنى فريدا لها في مجرى بحر النيل.
كما لو أنه عزيز مصر قد خرج ليرج كتف العالم، منبها أن ها أنا هنا لا أزال. ذات مصر العريقة بملوكها، بحروفها، برسومها، بورق بردها، بذهبها اللألاء، ليس فقط من بريق شمس أو ضياء قمر، بل من معنى حياة.
السبت 3 أبريل 2021، لم يكن مجرد موكب موميات، بل كانت مصر تنزل لتستحم في نهر التاريخ، وتخرج منه أشد نصاعة، أشد يقينا أنها واثقة من نبع دمها، وأنها سلسبيل معنى خاص لا نظائر له في تاريخ البشر.
السبت 3 أبريل 2021، لم تكن مصر وحدها التي خرجت لتتزين بنياشين حضارتها، بل البشرية التي وقفت لتقرأ الكتاب من جديد، أن هنا بشر غير البشر، سادر في معنى لممارسة الحياة خاص وفريد، إسمه المصري.
حتى الأطفال الحفاة، الراقصون في ترعة ما منسية على ضفاف النيل، كانوا كبارا لحظتها، لأنهم من طين السلالة ذاتها التي خرجت لتحتفي بالجميل فيها.
أكاد أراهم جميعهم مصطفين هناك، يلوحون إلى الأهرامات، مثلما يلوح العاشق لمعنى وجوده، من رمسيس الثاني حتى عبود الواقف على الحدود، مرورا بيوسف النبي بن يعقوب وبوتيفار والزوجة التي صرعها بهاء النبوة، بالمقوقس القبطي العظيم، بصلاح الدين الأيوبي العادل الذي حرر القدس، بمحمد علي باعث مصر الجديدة، برفاعة الطهطاوي و»الوقائع المصرية»، بقاسم أمين صوت الحداثة، بطه حسين المبصر بالعلم الحصيف، بالسيد درويش والحلوة التي قامت تعجن في البدرية، بسعد زغلول الوطني، بجمال عبد الناصر الرجل في بر مصر، بأحمد زويل كيمياء العلم، بجمال حمدان شخصية مصر، بشادي عبد السلام و»مومياء مصر»،، والصف طويل في معنى القيم.
عادوا جميعهم، ليس ليجددوا النداء «أن ادخلوا مصر آمنين»، بل ليذكروا العالمين أن «مصر هبة النيل»، وأن بها تم تجريب معنى للحضارة من ماء وتراب. أليس معنى الحضارة، في العمق، سوى خلط ماء بتراب؟. وواهم من يعتقد، اليوم، أن المصري سيكون مصريا بدون بحر النيل.
السبت 3 أبريل 2021، نزل ابن البلد ليغني مواله التليد، بصوت شاعره عبد الرحمن الأبنودي: «أنا كل ما قول التوبة»، وليتذكر حكمة الطيور في قصيدة شاعره الآخر أمل دنقل: «الطيور التي لا تطير، طوت الريش واستسلمت/ هل ترى علمت، أن عمر الجناح قصير؟». نعم، نزل المصري، كما يليق بالملوك أن تنزل إلى شاطئ الحياة، كي يفرد جناحه ويحلق عاليا في سماء المعنى، كي يذكر نفسه (قبل الآخرين) أن النسر يحلق دوما في الأعالي.
كل مصر توحدت ليلتها في انتماء لها منقوش على حجر الوجود، كامن عنوانه في:
أن مصر كل خاص،
أن مصر معنى مكثف بذاته،
أن مصر قوية ليس فقط بالزائل من الثروات، بل هي غنية بسلسال الدم الممتد منذ 7 آلاف عام، والذي خرج ليلة السبت 3 أبريل 2021، ليرقص في نهر التاريخ ويوقف زمن العالم قليلا، حتى تنبض الحياة بزمن نبض حضارتها.
في تلك الليلة، في ذلك الممشى الملوكي، لم تكن مصر وحدها التي تخطو، كان فرح العالم الذي يمشي بخطو مصر.

(*) عن «المصري
اليوم» القاهرية


الكاتب : لحسن العسبي (*)

  

بتاريخ : 08/04/2021