حين طالب الاتحاد الحكومة الفرنسية بتقديم كل الإيضاحات اللازمة حول اختطاف الشهيد المهدي بنبركة

يوم 2 نونبر 1965، كتب في أعلى الصفحة الأولى من جريدة «المحرر» عنوان بالبنط العريض: «اختطاف الأخ المهدي بنبركة: هل لاختطاف عضو الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية علاقة برآسته للجنة التحضيرية لمؤتمر شعوب القارات الثلاث بهافانا؟»
وجاء في كلمة العدد نفسه من المحرر التي حملت عنوان: «المسؤولية بين دولتي فرنسا والمغرب:
«خلافا للخبر الذي نشرناه في عدد يوم الأحد الأخير، فإن السلطة الفرنسية لم تلق القبض على الأخ المناضل المهدي بنبركة كما جاء في الأخبار الأولى التي توصلنا بها. فالحكومة الفرنسية، على لسان وزارة الخارجية ووزارة الداخلية الفرنسيين، تؤكد أنها لم تعط أية تعليمات في شأن إلقاء القبض على الأخ المهدي أو مضايقته بشكل من الأشكال، حيث إن الحكومة الفرنسية تسمح له بالإقامة في فرنسا في إطار القوانين الجاري بها العمل.
تأكد، إذن، أن الأخ المهدي بن بركة، كان ضحية اختطاف من طرف منظمة إجرامية تقول الحكومة الفرنسية إنها أجنبية دون أن تبين إلى أي جنسية أو دولة تنتمي، وخطورة هذا الحادث لا تخفى على الرأي العام الفرنسي أو الرأي العام الدولي، نظرا للسمعة العالمية التي يتمتع بها الأخ المهدي بن بركة، ونظرا للشكل الإجرامي الذي كان عليه الاختطاف في أحد الشوارع الكبرى بباريس وفي التراب الفرنسي.
أما الحكومة المغربية، فهي إلى حدود صدور هذا العدد ما زالت متمسكة بالصمت كأن الحادث لا يعنيها. ولا يمكن أن لا يتبادر إلى الذهن أن في هذا الصمت ريبة وشكوكا.
لذلك، فإن جماهير الشعب المغربي وكل المواطنين بصفة عامة إذ يعبرون عن اشمئزازهم وغضبهم العميق على التصرفات الوحشية والتي لا تخضع لأي قانون، ولا لأي مبدأ أخلاقي، لا يمكنها أن تنتظر التطمينات على حياة الأخ المناضل، ولا الإيضاحات الضرورية، إلا من حكومة المغرب ومن حكومة فرنسا. فالحكومة الفرنسية عندما سمحت له بالدخول إلى ترابها فهي قانونيا ومبدئيا وأخلاقيا مسؤولة عن حياته وأمنه. نعم، نقول الحكومة الفرنسية ليست لها يد في هذه العملية الشنعاء. ونحن نريد أن لا نشك، مبدئيا، في صحة تصريحاتها، لكن الشيء الذي نطالب به ويطالب به الرأي العام في الداخل والخارج هو أن تعطي الحكومة الفرنسية كل الإيضاحات اللازمة حول المنظمة الأثيمة التي عملت في ترابها وبالرغم من سيادتها. فمصالح الشرطة الفرنسية، ووزارة الداخلية بفرنسا، هي أدرى بوجود هذه المنظمات الإجرامية والعناصر المنتمية إليها حيث أن لها وسائل الاستخبار ووسائل الضغط التي تمكنها من معرفة الأشياء على حقيقتها.
أما حكومة المغرب، فلا يمكنها أن تلزم الصمت كذلك، ولو أنها اعتبرت المجاهد المهدي بن بركة كخصم لها، لأنه مواطن مغربي، زيادة عن كونه من أفذاذ رجال هذه البلاد الذين بني الاستقلال وتحرير المغرب على أكتافهم، فأقل الإيمان أن تطالب حكومة المغرب الحكومة الفرنسية بالإيضاحات اللازمة حول هذه العملية الشنعاء التي تمت على التراب الفرنسي، لأن كل حكومة تحترم نفسها وتحترم القوانين التي تعمل بمقتضاها هي المسؤولة عن أمن وحياة كل مواطنيها كيفما كانت وضعيتهم الاجتماعية أو السياسية».
بعد هذا الموقف الذي عبرت عنه قيادة الحزب، كان الرأي الراجح أن يتم طرح القضية على أنظار القضاء لاستجلاء الأمر، والوقوف على حقيقة ما جرى أمام مقهى «ليب» في واضحة النهار.
وجاء في كتاب «مولاي المهدي العلوي: أحداث ومواقف»: لهذا الغرض، طلب مني «عبد الرحيم» الاستعداد للسفر إلى فرنسا لتتبع مجريات القضية عن كثب، بحكم علاقتي مع الأوساط السياسية والصحافية بباريس.
وصلت إلى باريس يوم 3 نونبر 1965، فوجدت نفسي في دوامة جديدة عشت خلالها ترحالا دائما جعل مقامي في العاصمة الفرنسية يستمر زهاء 13 سنة.
في اليوم التالي لوصولي، اتصلت بكل من «عبد القادر بن بركة» و»الطاهري»، لأعرف ما إذا كانا قد اهتديا إلى أي معلومات عن المختطف المهدي، في ظل الجو السياسي المشحون بهذه القضية سياسيا وإعلاميا، مما جعلني أستعيد ما ذكره لي الصحافي «بيرنيي» من أمر استدراج «المهدي»، فتبين، مع مرور الأيام، أن ذلك لم يكن سوى مجرد تغطية على عمل أكبر كان يُدبر له.
لم أكن أتوفر على رقم هاتف الصحافي «بيرنيي»، ولا أعرف طريقة للاتصال به لاستجلاء الأمر، حتى سمعنا يوما أنه تقدم لقاضي التحقيق للإدلاء بإفادته في الموضوع، قبل أن يتم اعتقاله على ذمة القضية.
في هذه الأثناء، طفا على السطح اسم شخص آخر يدعى»فيغون»Figon ، وهو في رأيي مجرد نكرة، إذ لم يكن اسمه متداولا، وربما كان يشتغل مع المخابرات. وقد ادعى أنه كان رهن الاعتقال بسبب ميولاته اليسارية المتطرفة، فأدلى بتصريحات لمندوب مجلة «ليكسبريس» L’Express قدم فيها عددا من الإشارات لمن يعتقد أنهم كانوا وراء هذه العملية، وقد فصل في الحديث عن الواقعة بالأسماء والوقائع، وكان سببا، مع ذلك، في إخراجها للعلن وتحويلها لقضية دولة بامتياز. ذلك أنه ذكر بكامل الوضوح أن المخابرات المغربية لعبت دورا أساسيا في أمر الاختطاف زيادة على المخابرات الفرنسية والبوليس الفرنسي الذي قام بالتنفيذ، ولا يجب أن نغفل أن فرنسا كانت في هذه الفترة على أبواب الانتخابات الرئاسية.
لم تكن أحزاب المعارضة واليسار الفرنسي يريدان استغلال هذه القضية لاستجلاب المزيد من الأصوات، إلا أن حضور البوليس الفرنسي والمخابرات في قضية الاختطاف سيضر حتما بسمعة الحكومة القائمة آنذاك، وسيطال الأمر كذلك سمعة الرئيس «شارل دوغول» Ch. De Gaulle.
وحدث أن الجنرال «دوغول» حينما توصل بتلغراف من أم المختطف «المهدي» تطالبه بإنقاذ ابنها من مخالب مختطفيه ومعرفة الحقيقة كاملة، أولى القضية أهمية قصوى تجلت في تصريحاته العديدة في المجلس الحكومي وفي تحركاته في هذا الشأن، مما جعلنا أكثر تفاؤلا لمعرفة الحقيقة بحكم تدخل رئيس الدولة. المهم من هذا وذاك أن الرئيس الفرنسي كتب جوابا يتعهد فيه بالبحث عن مصير بن بركة، وعلم فيما بعد أن ذلك الجواب قد مر من القنوات الدبلوماسية، فزمجر وطلب أن تسلم الرسالة مباشرة إلى «ماما فطومة»، والدة بن بركة (نوفيل أوبسرفاتور.2-8 فبراير 1966).
وكانت جريدة «لوموند» ليوم 18 نوفمبر 1965 قد خصصت مقالات حول تطور التحقيق في قضية اختطاف بن بركة، والذي مس في البداية الشرطيين: «سوشون وفواتو»، وأدت أقوالهما أمام قاضي التحقيق إلى استنطاق «لوبيز». فقد صرح الشرطيان أنهما قاما بفعلهما نظرا لدور «لوبيز» داخل مصالح المخابرات، التي كانت تنعت في الصحافة في البداية بـ»هيئة رسمية»، وأنهما كانا يعتقدان القيام بمهمة رسمية. واعترف «لوبيز» أمام قاضي التحقيق أنه حضر إلى موعد الاختطاف متنكرا بنظارات وبشارب مستعار استعاره قبل مدة من الشرطيين «سوشون» و»فواتو»، وأن «فيغون» هو الذي رسم للشرطيين ملامح بن بركة، ليلتحق بعد ذلك بالمقهى، موعد اللقاء، حيث ينتظره كل من «بيرنيي» و»فرانجي». وعندما حضر بن بركة والطالب الأزموري، كان «ديباي» و»باليس» يراقبان العملية في الجانب الآخر من الطريق. واقتفيا بسيارتهما سيارة الأمن التي كانت تقل بن بركة نحو فيلا «بوشسيش». قال «لوبيز» لـ»بوشسيش»: «عليك أن تقول إننا حملناه إلى هنا لحمايته من محاولة اغتيال»، بعد ذلك عاد لوبيز إلى باريس رفقة أحد الشرطيين، وهاتف الجنرال أوفقير الموجود بالمغرب. وسيصرح لوبيز فيما بعد أن «لوروا» رئيس المصلحة التي كان يتعامل معها، أوحى له باتهام أوفقير، كان هذا عندما أحس لوبيز بأن جهاز «السديك» (S.D.E.C.E) لم يمتعه بأي حماية أثناء التحقيق والمحاكمة».


بتاريخ : 29/10/2024