وُلِدَت الشخصيةُ الأساسيةُ في روايةِ علي بدر (الزعيم) في العامِ الذي بدأت فيه الحملة البريطانية على العراق، وبعد أكثر من أربعينَ عامًا بقليل، يُقَوِّضُ الطفلُ المولودُ في العام 1914 حكمَ الأسرةِ المالكةِ التي رعتها بريطانيا بأشكالٍ مختلفةٍ حتى النهايةِ المروعة، والتي كانت صورةُ المذبحةِ التعبيرَ الأكثرَ حضورًا في الجدالِ القائمِ لحدِ الآن بين مستنكرٍ ومُتَرافِعٍ. أما هذه الروايةُ فلن تنجو في كل الأحوالِ من المساءلة، رغم أنها تدخل الحلبة، ليس من أجل تقديمِ دفاعٍ أو اتهامٍ، بل لرصدَ وجهاتِ نظرِ وعرض شهاداتِ وطرح أسئلة ليست جديدةً لكنها لم تزل عالقةً في منطقةِ صراعِ بين الملاكِ والشيطان، ولن تنجو الرواية من هذه المسائلة فشخصياتها مهما بدت متخيلة إلا أن علاقتها متجذرة بالواقع بصورة صريحة وواضحة.
وفي روايته (الزعيم) الصادرة هذا العام عن دار المدى، يقدم علي بدر نصًّا ذا طبيعةٍ ملحمية، نسيجًا سرديًّا شديدَ التكثيف على مستوى الإحاطة بالحدث من جميع جوانبه، رشيقًا على مستوى المعمار يجعل اللقطات تمر خَطفًا، أخبارًا وحكاياتٍ مثل خيوط تمتد إلى نقطة هي مركز الأحداث (إعلان بيان الجمهورية وانقلاب شباط). يظهر أيضاً العناية الفائقة التي تتعلق باللغة. حيث كل وحدةٍ هي ملاذ مريح، أو مساحة تعبر فيه الشخصيات عن هويتها.
يقدم الراوي شهاداتٍ لسياسيين ومثقفين وصحفيين من مناطق عديدة من العالم، ويستخدم مدوناتٍ شخصيةً وتقاريرَ صحافيةً في جرائد محليةٍ وعربيةٍ وعالمية، ويدير بذكاء ورشاقة حركة الشخصيات الأساسية، ممسكًا بتوزيع الأدوار مثل صيدلاني يزن المقادير بلا زيادة أو نقصان، مخلصًا لمعادلةٍ هو يعرف أن نصه لن ينجو من آثارها القاسية لو تعامل معه بغفلةٍ أو لامبالاة.
الزعيم هو يوليوس قيصر
من مدخل هذا العمل، الفصل الذي يسرد فيه أحداث الأيام الأولى من انقلاب شباط، ومقتل الرئيس عبد الكريم قاسم بوصفه يوليوس قيصر المطعون من رفاقه الخونة، وأصداء هذا الحدث في العالم.
يكون القارئ في موضع الثأر لتصوراته الشخصية، تلك المرتبطة أساسًا بالسيرة السياسية للبلاد. فالشخصيات التي اكتسبت الرمزية أو (الأيقونية) سواء بصورة شيطانٍ أو ملاك، لن تمنحنا فرصة أن نكون أسرى الراحة واللامبالاة، لن يتركنا تناقض الحدث أن نتكئ على جدار الحياد. أو نغفو بطمأنينة قبل أن نقول شيئًا بخصوصه.
يفتح علي بدر في روايته هذه ينابيع الإغراء للجدال، مقدماً نصًّا لا يمكنه أن ينجو من طابعه الأخلاقي والعاطفي، غير مفتقر للقدر الكبير من الحساسية، ولا متنازل عن الفخامة المندمجة في سيرة الشخصية الإشكالية. الزعيم الذي يثير مقتله، أو مقتل العائلة المالكة، في كل عام جدالًا عنيفًا في كل مكان، في المقاهي والمنازل وعلى المنصات الإعلامية، فريقان يقدمان مرافعات عن الانسجام مع الشعور بالفخر، أو الغضب الذي يرافق ابتذال السياسي بوصفه خبيثًا مهما قدم من أعطيات، بين الأيديولوجيا المشحونة بالعاطفة يسندها استحضار الطبائع الملائكية، وبين الشعور بالضجر من التلفيق المستمر لتنقية وجه السلطة، ومنحها صك البراءة من خلق الصراعات والحروب والعراك، بين الدم بوصفه مأساة أو علامة درامية، وبين ضرورة سقوط الضحايا من أجل التغيير.
سؤال الأدب والحقيقة
تواجهنا عند قراءة (الزعيم) إشكاليتان أساسيتان، الأولى تتعلق بسؤال الأدب فيما إذا كان مسؤولًا عن تقديم الحقائق أم تفكيكها وحسب، أن يعرضها ويطرح أسئلةً ويشير إلى المواضع المثيرة للشبهة أم يصنع مدونة موازية لدحض التلفيق. والشبهة هي أول الإشارات التي تحدد طبيعة العلاقة المضطربة بين الروائي باعتباره منتجًا لنص متخيل، وبين المؤرخ مدونًا للوثيقة التاريخية.
وهنا لا بد من استحضار بعض الأفكار، لا سيما أن ثيمة هذه الرواية تنتمي لمنطقة التخييل التاريخي، التاريخ القريب الذي ما زال الحديث عنه ساخنًا، ويزداد ضراوة كل عام. لكننا نفترض أن (المؤرخ) هو شاهدٌ ترافق شهادته الشبهة على الأغلب، والقارئ يقف أمام مدونته مستجيبًا في تلقيه لثنائية الصدق والكذب. أما الروائي فيشتغل في منطقة أخرى، وهو غير ملزم بأي استجواب، فتظهير الحقيقة التاريخية ليس من قصديات الأدب، الروائي معنيّ بتقديم رؤية للواقعة تاريخية بتوقيع كائنات من ورق، متخيلة وليس من غاياته قيادة القارئ لتبني متن النص باعتباره وثيقة تحتمل الحقيقة أو البهتان. رواية علي بدر هي مزيج من المتخيل والواقعي، الواقعي الذي عماده الوثيقة الرسمية الهامشية، المدونات الشخصية، تقارير الصحافة، الشهادات الحقيقية، والخ. ولكن ما علاقة علي بدر المؤلف بتصورات الراوي في هذا النص؟
الراوي شخص لا اسم له، كاتب أو مثقف، صديق لطالب تاريخ اسمه سمير يعمل على رسالة دكتوراه ليقدمها إلى جامعة أمريكية. يظهران معًا في حوارات حول السياسة والانقلابات والتاريخ. ثم يظهر ثانية مشاركاً في مؤتمر أدبي في إسبانيا، يلتقي فيه بالكاتب البريطاني بيتر صلاغليت الذي كتب مع زوجته ماريون فاروق صلاغليت كتاب «العراق ١٩٥٨» وكانت ماريون وهي ألمانية جاءت شابة إلى بغداد في الخمسينيات هاربة من العنف النازي، وتزوجت من ضابط عراقي من اليسار هو «عمر فاروق الأوقاتي»، مات تحت التعذيب فعادت مع طفليها إلى ألمانيا، فتزوجت من بيتر صلاغليت وأهديا كتبهما المشتركة عن العراق جميعها إلى عمر فاروق الأوقاتي. في الحوار مع بيتر صلاغليت الذي يطلب من الراوي أن يكتب رواية عن عبد الكريم قاسم وذلك بعد وفاة ماريون بسنوات وحين يسأله الرواي لماذا يجيبه صلاغليت: من يكشف عن هذه المرحلة سيعرف جيدًا كنه هذه البلاد، سيعرف ماذا جرى في ماضيها وكل ما حدث فيما بعد. أليس من اللافت أن تلك الدعوة قد تحققت فعلًا فظهرت رواية عنوانها (الزعيم) بتوقيع كاتب اسمه علي بدر!
نضطر في رواية الزعيم إلى القول إن المؤلف يبقى حاضرًا بدرجة ما في نصوصه. فالنص في النهاية ليس ذاتًا مستقلة لها إرادة. والمؤلف كذلك ليس مفهومًا تقنيًا، وهو حاضر بوصفه ذاتًا أمام موضوعية النص. لهذا السبب لم أستطع وأنا أقرأ العمل أن أطرد علي بدر من النسيج النصي، لقد كان حاضرًا فعلًا حتى لو كان هذا الحضور يتسم بالمراوغة، لقد تقاسم مع الراوي بروح أخوية على ما يبدو الآراء على الرغم من المكانة المهيبة، والشخصية المستقلة التي ظهرت لراوي هذا العمل.
تبدو رواية «الزعيم» منطوية تحت نسيجٍ مفرطٍ في حساسيتِه، يتعلق الأمر بتصديها لحدثين مركزيين، أو انقلابين في كلاهما ميزات تراجيدية. وبسبب هذين الحدثين يتحول الأدب إلى إفراز غير إرادي، أقصد أن التخييل لن يمنح الكاتب فرصة أن يهرب إلى مناطق يظهر فيها متفرجًا، إذ لا يمكن بشكل قاطع الاعتماد هنا على أن الراوي والشخصيات هي كائنات من ورق مهما كانت حقيقية في الخارج. والطلاق غير ممكن -في رأيي- بين موضوعية العالم في هذه الرواية وذاتية المؤلف. والراوي في «الزعيم» لم يكن في منطقة الحياد، فهو عراقي، ولابد أن يشمله الاضطراب أمام الحدث المفصلي، له انحيازاته أمام الأحداث، لكنه قدم عرضًا ذكيًا في الإشارة إلى المفارقات العاطفية والسياسية، قدم أسئلة تشارك في جزء منها مع اضطراب القارئ، وحدد تصوره عن الحادثتين الأساسيتين -الانقلابين- في مواضع عديدة من النص، أحدها جاء في توطئة الفصل الأول، إذ استدعى وصف الشاعر الإنكليزي (ولفرد أوين) للأسلحة: «إنها زرقاء خبيثة؛ مرسومة تومض مثل رجل مجنون». فهل يشكل هذا الاستدعاء أو الوصف موقفًا عاطفيًا، أو سياسيًا لما حصل في يوم 8 شباط؟ هل كانت الأسلحة التي قتلت الزعيم خبيثة بما يكفي لتشكل موقف الراوي، وهل كانت بيد مجانين؟ التصور الآخر جاء في حوار مع صديقه طالب التاريخ سمير، وهو حوار مهم على مستوى الحكاية:
-»هل تعتقد أن هذا الأمر «القتل تحت التعذيب» قد حدث بشكل منهجي ومنظم؟
نعم.
كيف؟
لقد صورت الدعاية القومية اليساريين ذلك الوقت على أنهم حشرات، وكائنات غير بشرية، واستبدلت أسماء المعسكرات بالأرقام، وهكذا تم لهم سحق وإبادة آلاف اليساريين بلا رحمة.
لكن اليساريين فعلوا ذات الشيء إزاء خصومهم، صوروهم أيضًا، ووصفوهم بأبشع النعوت.
نعم ولكنهم لم يبيدوا خصومهم بشكل ممنهج.
ربما لم تسنح لهم الفرصة لفعل ذلك.
على العموم، هذا لم يحدث، لأي سبب كان».
التصور الثالث هو استدعاء الراوي لأسطورة تتحدث عن جثة إله بكامل لباسه العسكري الملطخ بالدم، وُضعت في كيس به أثقال من حديد ورُميت في نهر دجلة، أكلتها الأسماك، والشعب أكل الأسماك التي أكلت الجثة، وما زال طعم الدم بين شفتي كل فرد من أفراد الشعب. وفي رأيي أن هذا الاستدعاء هو نوع من الرثاء الممزوج بالنقمة، تتجلى هذه النقمة من خلال اختياره الصحف العالمية والعربية في نقلها لحادثة الانقلاب، يركز الراوي في اختياراته على طبيعة الخبر في الصحف البريطانية والمصرية بشكل خاص، حيث يظهر الزعيم بوصفه ديكتاتورًا دمويًا، ثم يتوج نقمته بالإشارة إلى لقاء بين ضابطين في المخابرات الأمريكية، يتبادلان الأنخاب احتفالًا بالانقلاب.
تقنيات الرواية
لقد قدم علي بدر روايته للقارئ، مستخدمًا تقنية تنطوي على المقتطفات والاستراحات، شهادات ووثائق وأخبار جعلت العراق في ذهن القارئ أثناء القراءة مركزًا، وكأن هذا البلد الصغير هو محط أنظار الجميع من أمريكا إلى روسيا وبريطانيا وفرنسا. ولقد واجه الكاتب الكم الهائل من المعلومات حول تاريخ العراق بصبر شديد، ولم يكن في كل الأحوال قادرًا على توظيف كل شيء في مساحة صغيرة لكنه استطاع أن يمنح النص شمولية، ويعطي للحدث أهمية كبرى من خلال المدونات الشخصية والرسيمة، وأخبار الفنون والموسيقى والأدب والحراك الثقافي بشكل عام.
الفصل الثاني، يخصص الراوي لأوراق الزعيم بشكل مكثف، ولادته، طفولته وشبابه، عمله معلماً، ثم التحاقه بالكلية العسكرية، أحلامه بالتغيير، اختياراته الموسيقية وقراءاته، أحاديث والده قاسم النجار ووالدته كيفية. رافقت عرض هذه السيرة وثائق عن الحرب الأولى، وثائق أخرى عن ظروف العراق السياسية والاجتماعية والثقافية، الاحتلال البريطاني، الأحلام الكبيرة في بناء دولة ذات مقومات قابلة للنمو، أوراق جورج الياس صديق الأب قاسم النجار، الرجل المتحمس للبريطانيين، ومصدر الأخبار التي يستقيها من الصحف، الممثل عن آلية تفكير الأقليات، أوراق لورنس العرب، وثائق حزب الاتحاديين، حصار الكوت، وأيضًا أوراق سمير طالب التاريخ صديق الراوي، أوراق الحاكم العسكري البريطاني، أوراق الزهاوي والرصافي، الشيخ معروف البغدادي، وأوراق شخصيات عديدة، نمساوية وألمانية وإنجليزية وتركية وبريطانية، أوراق الملك فيصل الأول، العقيد عبد الجبار جواد ابن عم عبد الكريم، أخبار وحكايات عن السينما والسياسة، الكتب والأفكار، وثائق عن انقلاب عام 1941، أوراق الملك غازي ونوري سعيد، والأمير عبد الإله، خيوط تصف حالة العراق في تلك السنوات التي كان فيها الزعيم طفلاً. منها أوراق حسين الرحال الذي أسّس أول خلية ماركسية في العراق مع محمود أحمد السيد، محمد فاضل البياتي، عوني بكر صدقي، مصطفى علي، سليم فتّاح، وعبد الله جدّوع. الوثائق والحكايات رغم تنوع مصادرها كانت خيوطًا تؤدي كلها إلى نقطة هي سيرة الزعيم، وتحولاته الفكرية وطموحاته في أن يكون بطل التغيير.
الفصل الثالث، وهو الأكثر إثارة على مستوى السرد، خصصه الراوي لما قبل إعلان الجمهورية والتخطيط لها. خصص مقتطفات عن حياة الملك الشاب، وشهادات حاول من خلالها التحضير لتصوراته عن العائلة المقتولة، أخبار التحركات، وثائق المخابرات الأمريكية والبريطانية والمصرية، أوراق ضباط القصر الملكي وجنرالات الجيش. لقد هيأ السرد لاستقبال الواقع المدوي لخبر المذبحة دون أن ينسى المرور بالتفاصيل الدقيقة لذلك اليوم، مستخدمًا أصوات شخصيات ووثائق هامشية ورسمية، ولم يتنازل عن اللغة المشحونة بالعاطفة المتوترة، فأخرج لنا صور التوتر التي سبقت المذبحة، وعرض لنا تفسيرًا كيف تكون الأسلحة باردة وخبيثة عندما تكون بيد مجنون، كما وصفها الشاعر الإنجليزي في بداية الفصل الأول.
الجزء الرابع، هو الفصل الغني بالسرد التراجيدي، وهو تمثيل بنجاح الضربة التي سددها الملاكم لخصمه، الملاكم الكاتب مقابل النص العنيد. فصل المذبحة، الانقلاب، القتل المروع، الدم. وهو فصل يتعلق ببذرة حيوية سوف تفتح المشهد على تيجان تهتز قبل أن تسقط. يشير الراوي في الاستهلال إلى الطبيعة الاقصائية التي ينطوي عليها الحدث (الانقلابان) بقول شكسبير: «لا يستقر ذلك الرأس الذي يحمل تاجًا». ثم يتحدث في بعض المقاطع عن الرغبة العنيفة بمسح الماضي لكنه يتحدث كذلك عن الشؤم الذي يرافق الشعوب بسبب قتل الملوك، اليونانيون مثلا، البابليون الذين يقتلون ملوكهم. ويعود الراوي إلى التاريخ البعيد والحديث عن حكايات إعدام الأسر المالكة في مناطق عديدة من العالم، كأنه يقول أن الأمر يحدث دائمًا، أقرب إلى القانون الذي يستمد مصادره من الطبيعة البشرية المغوية بالسلطة والقوة والهيمنة. لقد استدعى الراوي شكسبير مرة أخرى فيما يتعلق بالتيجان التي تهتز دائمًا… والحقيقة أن الراوي في «الزعيم» راو غامض ولعوب، ذكي بدرجة معقولة لا يمنح القارئ فرصة أن يضعه على إحدى الضفتين، متقلب المزاج في المواقف والتوظيفات والاستدعاءات، موضوعيًا أحيانًا، محايدًا في أماكن ومنحازًا في مواضع أخرى.