خطاب العتبات في مسرحية «شبيهي» لبديعة الراضي

تتسم النصوص الأدبية الهادفة بعمق رؤاها، وانفتاحها-مكاشفة ومساءلة-على هوية القارئ، وواقعه، ما يجعلها صالحة لتعدد المقاربات على مدار الأزمنة؛ تجذبنا إليها، فنلبي فعل النداء، نتلمس من خلالها ذلك البحث المضني عن اليقين الذي نفترضه في مكان ما خارج ذواتنا، لنقع عليه أخيرا داخل هذه الذوات، لقد صار هنا والآن أن تنفتح الدراسات الإبداعية على كل ما من شأنه خلخلة اليقينيات، ودفع القارئ صوب التفكير والنقد، لحاله أولا؛ في إطار علاقة جدلية لا تستبعد الآخر، ذلك بعض مما تمنحنا عتبات مسرحية “شبيهي” لبديعة الراضي.
تتبلور أهمية دراسة نص “شبيهي” من واقع إنساني أثقلت كاهله المستجدات والتحديات، فأصبح القلق والخوف سمتين ملازمتين للفرد، في غير قدرة على التحرر منهما، وهي علاقة إشكالية تقرابها بديعة الراضي بدءا من غلاف المسرحية، ما أنتج خطابا بصريا تجاوز حدود التسويق إلى سياق نفسي واجتماعي مشحون بالأسئلة، فكان لزاما أن نقارب العمل ونحاول الحفر من جديد في هذا المنجز الأدبي، بالتركيز على عتباته، متسائلين:
– إلى أي حد يمكن اعتبار عتبات مسرحية “شبيهي” مدخلا نصيا للمتن؟ وهل تجاوزت هذه العتبات حدود النص لتشكل خطابا مستقلا؟
– كيف يمكن دراسة النصوص الموازية عموما ونص “شبيهي” خصوصا؟ هل من منظور اللغة باعتبارها أداة تواصل؟ أم من منظور الخطاب باعتباره محركا للبحث والمعرفة في حد ذاتها؟

1 – الغلاف الأمامي:

في عتبة التقسيم:

جاء غلاف المسرحية وفق تقسيم عمودي في ثلاثة أجزاء؛ توسطت الأول والثاني منها لوحة تشكيلية لرجلين، شغل أحدهما فضاء الجزء الأول بملامحه القلقة والمتوترة، وقتامة زرقة ثيابه، بينما شغل الجزء الثاني/الوسط شبيها للرجل الأول، لكن باختلاف درجة اللون على مستوى الملابس وملامح الوجه، واستثمر الجزء الثالث لمشهد رمال الصحراء التي تجاذبت الأجزاء الثلاثة وفق لون بني ذي درجات متفاوتة، والملاحظ أن الجزء الأوسط استأثر بمساحة أقل، وكأنه جسر عبور لبلوغ الضفة الأخيرة، التي حظيت بمساحة أقرب إلى مساحة الجزء الأول، وبذلك ينحو التوزيع منحى الصراع الذي سرعان ما انتهى بانتصار أضاء شعاع جنبات الجزء الثالث.

في عتبة المؤَلِّف:

هي الإعلامية والكاتبة بديعة الراضي، متعددة المشارب والاهتمامات بين العمل السياسي والاجتماعي والأدبي… خبرت دهاليز الكتابة السردية، في إطار وعي بوظيفة القلم التعبيرية والتطهيرية، فكان إنتاجها الأدبي شاهدا حيا على إبداعها، وحسها الإنساني قبل كل شيء. نذكر في هذا الإطار: رواية “غرباء المحيط”، و”حوار بيني وبين إيستير” و”يوميات زمن الحرب”، إلى جانب الكتابة المسرحية، التي نسوق لها مثالا بمسرحية “شبيهي” -موضوع الدراسة- والتي ترجمت إلى الإنجليزية وحصلت على أحسن كتابة بالمتوسط على مستوى النص المسرحي بملتقى الإسكندرية للفرق المسرحية المتوسطية الشابة، واقع ينتظر معه القارئ إبداعا متميزا وتفردا على صعيد الرؤيا والتشكيل، ويلاحظ أن مصمم الغلاف جانبه التوفيق في توزيع العتبة أعلى الغلاف معلنا البدء، بدء الكتابة وما يحمله الفعل من تدوين ونقل… لكن الأكيد ما يضمره من مواقف ورسائل.

في عتبة الصورة والألوان:

اختار المصمم لوحة فنية تعد الأكثر حضورا ومواجهة للمتلقي، حيث يظهر رجلان ملثمان، يعكس زيهما صورة العربي الأصيل، ينظران إلى الأمام وفق تشكيل جعلهما مبتوري اليدين والرجلين، وهو ما يطرح التساؤل حول أسباب هذا البتر، ودواعيه، في ظل معرفتنا بدلالة الجسد ودلالة أعضائه -اليدين والرجلين تحديدا- على الجمال، الحركة، التغيير…
وبتجاوزنا الجانب الفيزيولوجي، فإننا نسجل رؤية فنية تخص درجة التلوين، وخاصة ما تعلق باللون الأزرق، الذي جاء قاتما حد السواد على إحدى الشخصيتين، وفاتحا يقارب البياض على الأخرى.ويجدر بنا أن نشير إلى أن اللون الأزرق له وقع خاص في النفس، فقد يدل على الأمل والثبات والإخلاص والوفاء، ويساعد على التركيز خاصة الفاتح منه، وقد يحيل اللون ذاته -خاصة الداكن منه- على الحزن والألم والخوف من المجهول، وهو ما يجيز لنا القول-بتضافر مؤشر القراءة البصرية- بأن أحاسيس الرجل الأول يغلب عليها الخوف والاستسلام، بمقابل هيأة الصمود التي وسمت الرجل الثاني، في إطار نظرة مشرقة تبعث على التفاؤل.
وتشكل الإضاءة عنصرا فاعلا من عناصر الأداء في العرض، ما يجعلها أهم عنصر في تقنيات المسرح الحديث، ولعل إهمال اعتمادها في الجزء الأول أفرغ الشخصية من شحنتها وطاقتها، وكأننا أمام ظل أو تشييء لحالة جسدية، بمقابل الشخصية الثانية التي تمت إضاءتها بشكل جعلها تشع نورا وحيوية، بما من شأنه أن يمد الجسد بالقدرة والوجود الفاعل قبل كل شيء، فالجسد لسان؛ والمعنى “نسق يحتوي على سلسلة لا متناهية من الوضعيات المحتملة (أفراح مآسي…)، إنه الكلام في حالة الكمون: إن وجود الجسد مرتبط بما سيصدر عنه. إن حالة السكون هي بؤرة التوقعية: منها سينبثق الفعل ومنها ستنبثق الأشكال. بعبارة أخرى، لا وجود للجسد الإنساني إلا في ما يلتقطه وعي الرائي ويدركه”، تسكن الروح الجسد، وتهيمن على فضاءاته وملامحه: رؤيا، آلام، أحلام، تطلعات… فينفتح الجسد على إحباطات/آمال الذات، في إطار تشكيل ظاهري يجعله عتبة نصية بامتياز تنقلنا إلى الفضاء الجواني.
يعكس التمييز بين شخصيتي الصورة التمييز الذي يرصده المتن المسرحي بين الفاعلية، والقول بإمكانية البعث من جديد، وبين مواقف الإحباط التي تربط إخفاقها بالآخر، في استسلام تام، ويعكس المقطع النصي بعضا من نتائج قراءتنا للعتبة:
الممثل 1: اللعنة على من حول الزمن رديئا، حتى أصبح الزمن يطلي أجسادنا بصبغة العصر المفتعل.
الممثل 2: نحن الذين حولنا الزمن رديئا بهذا الشكل…
الممثل 1: وما ذنبنا، إن كنا نستعمل حسن النية في إدخال الغريب إلى بيوتنا…
الممثل 2: إنك تتحدث بلغة انتهت.
الممثل 1: أتحدث لغة انتهت؟ بل قل نحن الذين انتهينا، ولم تعد تسعفنا لا لغة الماضي ولا لغة الحاضر.
الممثل 2: لم ننته بإمكاننا أن ننهض، لو فهمنا اللعبة.
تشتد الأزمات، ويصل الفرد مرحلة اليأس، وقد “يتقبل ضآلة شأنه كليا حتى ليفقد كل أمل في إسماع صوته”، فلا يكون الإحساس بالعدم أشد في أي مكان وزمان مثلما يكون حاله هنا، لكن يظل للشبيه الإيجابي فرصة للإصلاح، وبعث الحياة في أجساد نال الاستسلام من روحها، والأمر في كل ذلك يتطلب حوارا هادئا، بعيدا عن التعصب، يقول: الممثل 2: تعالى نجلس… أو نوقظ هذه الأجساد لكي نفهم معا هذه اللعبة.
الممثل 1: لكن بشرط… ألا تطليني بصبغتك الباهتة… فأنا لست مثلك
الممثل 2: ألم نتفق أننا سنتحاور ونحتر بعضنا وخصوصياتنا…
الممثل1: حسنا… فلنبدأ…
يتحرر أزرق الغلاف تدريجيا من قتامته منشدا الفاتح منه، ساعيا التجدد والأمل، متجاوزا فضاء الإحباط والتحجر، حيث دائرة الكائن والمفروض، وكأن الفرد ظِلٌّ يعبر العالم في غير قدرة على إدراك غايات وجوده، بالمقابل يظل الأزرق الفاتح الفكر المستنير، الذي بدأ يلوح في الأفق، بعد نضالات ومخاض عسير لمفهوم الانتماء والعروبة، وهو ما عبرت عنه درجات الأزرق في الأعلى، بعدما تدرج اللون من القتامة إلى إشراقة بهية تعكس أجواء نهار دافئ بعد ليل قاتم، في إطار تراجع الشخصية المضاءة إلى الخلف بشكل يعكس نوعا من التأمل والتفكير، والتراجع إن بدا لوهلة نوعا من الهروب، فإنه في كثير من الأحيان يشكل خطوة رئيسة للمواجهة، والإقدام، فقد يشكل العالم الخارجي-بمختلف علاقاته- قيودا حقيقية للإنسان، إلا أن ينعم هذا الأخير بنعمة التفكير والتدبر، فيسعى في مرحلة موالية إلى “التحرر من سجن الأشياء، وحين يفكر في أي ظرف من الظروف فإنه سرعان ما يتخطى هذا الظرف ويعلو عليه”، يتجسد المظهر الرمزي للصورة في جانبها النفسي والاجتماعي المرتبط بكينونة الشخصيات وفاعليتها داخل المجتمع.
وطبيعي أن يواكب اسم الكاتبة هذا الواقع المأزوم بدءا بغلاف العمل، حيث يتدرج اسم بديعة الراضي، في إطار لون فستقي يتداخل في تشكيله الأصفر والأخضر، والذي من دلالات اختلاطهما المرض والغدر والخيانة، وبهذا يصبح بعد اللون سلبيا كالعتمة، التي تتراجع حدتها وامتداد اسم الكاتبة ساعيا الخلاص في الجزء الوسطي، حيث تتمسك “بديعة الراضي” بالكتابة المسرحية حلا أدبيا لبلوغ مستقبل أفضل.
تحمل الألوان كثيرا من الثنائيات، من قبيل: الأمل/التشاؤم، الحزن/الفرح، القدرة/العجز، الحاضر/المستقبل، الحرية/القيود… وهي ثنائيات تؤسس مجتمعة لحالة من القلق، وعدم التوازن، في إشارة تمهيدية إلى أن المساحة الكبرى داخل النص المسرحي ستشغلها صراعات، فقيمة الألوان وما توحي به حزن، وغدر، وخيانة، تجعل القارئ مستعدا لتلقي اضطراب الأحداث وتوتر الفضاء النصي داخل المسرحية، بالمقابل يظل الأزرق الفاتح محط أمل في العثور على قيم مشرقة وسط هذا الإضراب القيمي/النصي.
وتُقيد ألوان الغلاف أحداث المسرحية بمكان معين هو الصحراء، حيث يتجسد البني بدرجاته دليلا على “الجذور والأرض”، موطن العروبة والقيم الأصيلة، فالصحراء على بساطتها، وبدائية مجتمعها تحمل كثيرا من الرموز والقدسية للإنسان، لقيمه للأصالة والصدق، للوفاء والمروءة وإنسانية الإنسان، ونرجح أن اختيار الصحراء نابع من خصوصية المكان الثقافية والفكرية، والتي لا يحظى بامتلاك رموزها إلا مجموعة من الأدباء والكتاب الذين هم سليلو تلك المناطق من العالم العربي، الذي شكلت فيه الصحراء جزءا كبيرا ومهما من الجغرافيا العامة، إضافة إلى تميزها بتراث ثقافي ورمزي من نوعية خاصة، يرفض كل ثقافة جديدة طارئة تحاول التغيير أو تسعى إليه، وبتضافر معطى الخيام بصريا، ودلالتها الإيحائية على البساطة والقيم الأصيلة، ينحو الغلاف إيقاعا هادئا على نحو شعري يبعث على الارتياح والحنين للمفتقد من القيم والمواقف… فالبنية الصحراوية الشديدة لا تتحمل إلا أن يكون الرجل فيها شديدا قويا يشبهها، حتى يتحمل قساوة مناخها وجغرافيتها وظروفها.
لم يكن اختيار الصحراء تأثيثا جماليا، فهو الفضاء القادر بهدوئه، ورمزيته وقدسيته… أن يمنح السلام الداخلي لمتفحص الغلاف، ويستدعي الهوية، والسمات الرجولية المفقودة، وسط رفاهية المدن، وهويتها المادية، وصخب الحضارة وإغراءاتها، وهو ما يفسر حضور الصحراء نصيا في اختيار مقصود من قبل الشخصية، نسوق له نموذجا المقطع التالي:
الممثل 2: ما هو رأيكم يا سادة أن نعقد مجلسا في هذا الصحراء…
الممثل1: مجلسا في الصحراء
الممثل 2: أعرف أننا مختلفون، لكن حتما سنجد الموحد فينا أقوى من اختلافنا
الممثل 1: والمصالح…
الممثل 2: لن نمس مصلحة أي فينا… سنحمي بعضنا… لكن إذا اتفقنا…
الممثل 1: إذا هيا لنجتمع…
الممثل 2: اسمعوا يا سادة ستكون هذه الصحراء مكان اجتماعاتنا وقراراتنا، ومنها سننطلق كجسد واحد، برأي واحد وموحد…
يحضر حس العروبة، والشعور بالانتماء لدى الكاتبة وهي توافق على اختيارات الغلاف، ما يكسبها تشبعا بالهوية.

في عتبة العنوان “شبيهي”:

وعيا منها بأهمية منح القارئ فضاء شاسعا للتأويل، فضلت بديعة الراضي التكثيف والإيجاز، الذي ينفتح على عالم لا متناهي من الأسئلة، ويدفع القارئ صوب معالم المتن بحثا عن ماهية هذا الشبيه، وربما بحثا عن شبيه نصي بعدما تعذر في أرض الواقع، فيتحرك الخيال صوب معالم تبنيها مرجعية القارئ ومبادئه وقيمه، وقبل كل شيء مقاربته اللغوية والتركيبية والدلالية للعنوان، جاء في لسان العرب: “الشِّبْه والشَّبَه والشَّبِيه: المِثْل، والجمع أشباه، وأشبه الشيء الشيء: ماثله… وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم”، وبقدر ما كان الأصل طيبا وكريما يكون الفرع كذلك، فيصبح الشبيه استمرارية لكل القيم السامية، التي من شأنها حمل مشعل المجتمعات.
تركيبيا يقوم العنوان على الحذف، والتقدير: هذا شبيهي، أو يا شبيهي، ما يطرح عددا من التساؤلات، حول خصوصيات المشار إليه، وخصوصيات المنادى بين قربه أو بعده عن الكاتبة، وإذا كان النداء في معناه المباشر طلب الإقبال، فإن دواعي النداء تظل منفتحة على تمثلات عدة، في ظل سياق اجتماعي سمته التفرقة والنزاعات… والنداء في كل ذلك لا ينفصل عن دلالة الاحتياج، أو التوجيه، أو التحذير، أو النصيحة… وهي دلالات كفيلة بإخراج المنادى من معاني الثبات والاستقرار نحو دائرة الحركة والفعل.
وبمقاربتنا ياء المتكلم فهي باتفاق النحاة ضمير الحضور، والحضور الفعال -سياسيا واجتماعيا- تحديدا هو الغاية التي يتوخاها الأدب عموما والنص بشكل خاص، والأكيد أن قارئ الكاتبة المفترض ذو سمات فكرية خاصة، تجعله قادرا على ملء الفراغ، والتقاط إشارية المحذوف، في ظل وعي بخصوصيات الكائن، ومعالم الممكن، إن الحذف هنا استراتيجية فنية، ودعوة تواصلية للنبش في المسكوت عنه.
يحمل العنوان -في تفاعل مع بقية المكونات- من العاطفة ما يجعله يخاطب وجدان القارئ قبل عقله، فهدف الكاتبة -والمصمم أيضا- كان مخاطبة العقل في المقام الأول، ولا بأس إن تحركت العاطفة لتهمس للأول بأهمية التفكير والحث على الفعل والتغيير، وهنا يكون رصد الأزمات والمتغيرات أمرا واجبا بغية تحقيق التأثير.
يعيش المتلقي جملة من التمثلات، ويميل لا شعوريا لأحلام عدة، وهو ما يؤكد هدف الكاتبة ومصمم الغلاف الرامي تمكين القارئ بفعل الوعي من إسقاط الواقع الدلالي على واقعه الاجتماعي والسياسي، فالأدب السياسي والمسرح خصوصا يسعى توريط المتلقي بجعله يحس بأنه صاحب مسؤولية تغييرية/إصلاحية، وما النص المسرحي إلا رسالة أخلاقية واجتماعية وسياسية لا مكان فيها للترفيه.

في عتبة التجنيس:

يتجسد جنس العمل أسفل العنوان مقدما أولى بطاقات العبور للقارئ ليلج النص، وهو على دراية بأنه سيقرأ مسرحية، ومعلوم أن المسرح بوصفه فنا وأدبا هو “جزء من المعطى الثقافي ومجال من مجالات الإبداع، وهو أيضا من مقومات شخصية الأمة وفنها وثقافتها، لذا فلا بد له من أن يعبر عن قضاياها وهويتها وأصالتها”، واقع يجعلنا ننتظر طرحا فنيا بامتياز لقضايا اجتماعية، وسياسية… تتجسد مشهديا ما يجعل التأثير أبلغ.

2 – في عتبة الغلاف الخلفي:

يتأثث الغلاف الخلفي بصورة المؤلفة بديعة الراضي وقد توسطت نصين صيغ الأول بلون فستقي يعكس قلق الكاتبة وهي تسعى إلى إيقاظ ذاكرة شبيهها بغية تأسيس فضاء مغاير على حد تعبيرها، تقول: “شبيهي رجل يسكن ذاكرتي وأسكن ذاكرته، نوزعها معا على شخوصنا في الكلمة وفوق الركح، نؤسس بها زمنا مغايرا في فضاء مغاير”؛ في إطار استمرارية لحضور اللون الأزرق أرضية للكتابة لكن بإضاءة قلصت من عتمة بداياته مع الغلاف الأمامي.
ويختار النص الثاني أرضية الكثبان الرملية بلونها البني، ورمزية الصحراء، وكأن الكاتبة والمصمم يريدان رسم مستقبلهما من خلال رمزية المكان ودلالته في الصمود والتحدي والقوة والقيم..، فالحضور الذي يفرضه المكان في وجدان المتلقي يدرك بسهولة دلالته الإيحائية، تقول بديعة الراضي: “معنون بالحلم. حلم يشدنا من أعماقنا نحو مستقبل نرسمه، نكتبه ونعيشه في لحظات الإبداع الجميلة. وشبيهي رجل وأنثى يبحثان عن فضاء ليرسما به ذاكرة مثقلة بأسئلة الزمن المعتقل في دواخلها”.
كما نلتقط من جديد اسم الكاتبة وقد اختار اللون الأسود ليظهر به بدل الفستقي الذي وسمه في الغلاف الأمامي، فبقدر إحالة الأسود على الفقد يحيل على الوعد بحياة متجددة كالليل، الذي يحتوي وعدا بالفجر، والشتاء الذي يعد بالربيع، وهو ما ينسجم ورؤية الكاتبة نصيا:
الممثل 1: لن نتغير… صدقني
الممثل 2: أنت رجل حالم… وهذا ليس زمن الحلم
الممثل 3: لا تصدقهم… الحلم سيد الحقيقة… سننتصر… صدقني
الممثل1: العاصفة أكبر من أجسادنا الصغير
الممثل 4: ومن قال لك إن أجسادنا صغيرة
ينطلق صوت بديعة الراضي من الأعماق باحثا عن التلاحم، فلئن كانت البدايات عسيرة، فنصب الجدور من جديد بعد نزعها من شأنه منح تشبع جديد بالهوية العربية الأصيلة، والقادرة بما تحويه من قيم على تحرير الإنسان من قيود سلبية تراكمت بفعل عواصف متعددة، وبعث الحياة في مستقبل نظل جميعنا معنيون برسم ملامحه.

3 – من العتبة
إلى استراتيجية البناء

تقتضي الكتابة في جنس أدبي ما، التفكير فيه والتأمل في استراتيجياته البنائية الكفيلة بعرض آراء وتصورات الكاتب، ويتضح أن بديعة الراضي كانت مدركة لأهمية المسرح في التعبير الحسي المباشر عن القضايا، وقدرة هذا الجنس على خلق تفاعل مباشر مع القارئ، فكانت مسرحيتها “شبيهي” نموذجا حيا للمعالجة الفنية الهادفة، فالعمل يتناول قضايا الصراع الفكري، القيمي… للذات في علاقة بنوازعها، وفي علاقتها بالآخر.
تتألف مسرحية “شبيهي” من ثلاثة أعمال، بداية بنص “شبيهي” الذي ضم أربعة مشاهد، في إطار ما مجموعه إحدى عشرة لوحة، ثم مسرحية “الجلاد” التي ضمت ثلاث لوحات، وأخيرا تنهي بديعة الراضي عملها بتأليف مشترك جمعها بحكيم عنكر، عنون ب “القادم”، وهو عن النص الشعري للشاعر العربي علي الكيلاني، وقد ضم ثلاثة مشاهد.
ينفتح المؤلَّف في كليته على أفكار متضاربة، بداية بعقلية القطيع والتبعية المتجذرة، والتي أصبحت قيودا يلخصها قول الممثل 2:”اصبر، فأنا سأفك قيدك على مهل وبهدوء… أريدك أن تعرف كم من الوقت يستغرق التخلص من القيد، في حين أن وضع القيد في يدك كان سهلا”، فبقدر ما يكون الهدم سهلا سريعا، يتطلب الإصلاح وقتا وإرادة تتجاوز حدود الذات لتصبح رهينة مساهمة جماعية من شأنها ترميم المتهدم، وهذا ما عبر عنه الممثل 1:”الأمر يحتاج إلى إرادة قوية… إلى إيمان عميق بالمبادئ…”.
إن إيمان الكاتبة قوي ببناء مستقبل أفضل، ورسم ذاكرة جديدة عنوانها الوحدة والالتحام، تنطلق من فضاء الصحراء بعيدا عن مؤسسات المدينة، التي من شأنها أن تمارس الرقابة على المجتمع، وتقيد حركاته… وهو ما يفسر النصيب المهم الذي حظيت به لوحات نص “شبيهي”، فالمشاكل والاختلالات أعمق، ما يجعل الإصلاح أصعب، فتغدو المعالجة الفنية مهمة، من شأن اختياراتها اللغوية والأسلوبية والفنية التأثير والإقناع، في ظل قوة المواجهة الخارجية، فكل من خرج عن سلطة وقوانين المؤسسات يكون السجن نهايته الحتمية، ما يفرض استعدادا أقوى للمواجهة، وهو ما جسدته لوحات المسرحية الثانية “الجلاد”، حيث مشاهد التحقيق والجلد والقمع خوفا من خطر قادم على حد تعبير المحقق الأول، والذي يقول: “الوقت ليس في صالحنا، ثمة خطر قادم، من أين يبدأ، متى؟ إلى أين سينتهي… كيف سينتهي لا أحد يعرف. ولكن هذا الحقير يعرف. هذا الحقير يجب أن يتكلم وفي أسرع وقت… وإلا ستخرج روحه قبل أن نتساءل كيف ومتى وإلى أين؟”.
يتضح سريعا أن الخطر لم يكن إلا وهما، فيعترف المحقق بخطئه، معتذرا ليتم الإفراج عن المعتقل، يقول الممثل: -أيها الجلاد، لقد اكتشفنا أن هذا الرجل مظلوم، وليس له علاقة بالاتهامات الموجهة إليه، وأن ما وقع هو خطأ منا، ونيابة عن معالي الوزير، فنحن نعتذر لهذا الرجل، ونخلي سبيله. والكاتبة بهذه الاختيارات اللغوية لا ترفض السلطة كسلطة، وإنما ترفض السلطة حينما تمارس دورها، وتكتسب مشروعيتها من كونها سلطة قمع واستبداد، سلطة تمارس قطيعة مع الآخر، في غير قدرة على الإصغاء والاعتراف بالخطأ.
وإذا كان الصراع الدرامي قد وسم أحداث الجزء الأول والثاني من العمل، فإن الجزء الثالث “القادم” ينفتح على نوع من الأمل، والتطلع المشرق للمستقبل، إذ تعود الأحداث من جديد إلى فضاء الصحراء، حيث تتداخل الأصوات من جنسيات عربية مختلفة، معلنة قدومها، ورغبتها في الوحدة من جديد، فتتراجع المشاهد الحوارية نهاية النص، وتنتقل الكاتبة من التجسيد المحكوم باللغة المنطوقة، إلى الاستعانة باللغات غير الكلامية، بشكل يعكس وعي الكاتبة بالجوانب التقنية للكتابة المسرحية، وفي الآن نفسه حلم بديعة الراضي/الانسانة/المواطنة، الحلم المنفتح بدوره على تجاوب وتفاعل القارئ، تقول: “وفي مشهد كوليغرافي تحاول الأجساد أن تنتصر على جمودها متحركة نحو الدائرة لتلتحم، يقف الطيف الأسود وسط الدائرة يضع رجله اليمنى على هذه اليد، ثم ينتقل برجله اليسرى ليدوس يدا أخرى، تبدأ الأجساد المتألمة في الصياح لكن الطيف الأسود تصيبه هستريا الضحك، وبين الصياح والضحك تنتهي المسرحية”، فيسدل الستار وقد أصبح الإنسان/العربي في حاجة إلى مراجعة كل شيء بدءا بذاته وإمكاناته، حتى يستطيع أن يحدد أولا أين يقف، قبل الإقدام في مرحلة موالية على اختيار بعينه، في ظل مراقبة الآخر.
لم يكن البحث في عتبات مسرحية “شبيهي” أمرا يسيرا، فبالرغم من كونها عناصر محيطة بالنص، إلا أن مقاربتها أفرزت دلالات عدة، أنتجت لوحدها خطابا يوازي، بل يعضد خطاب النص، بشكل يحمل القارئ على المشاركة الفعالة في الكتابة والبناء، والكاتبة في كل ذلك تؤسس لكتابة مسرحية عربية، في استقلال تام عن المسرح الغربي، فقد أعلنت العتبات مند البداية عن مجموعة من التيمات والقضايا العربية المحضة، في إطار اختيارات وتموقعات موفقة جعلت غلاف النص يغري بالقراءة، وتظل الدراسة محاولة للفت الانتباه إلى المؤَلَّف، وأهمية إفراده بقراءات جديدة من شأنها التقاط بعض خباياه الفنية والدلالية.

 


الكاتب : د. سناء السلاهمي

  

بتاريخ : 29/05/2025