حاضر المفكر، المؤرخ والروائي عبد الله العروي، بتسجيل صوتي في ندوة نُظمت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء يوم الأربعاء 15 نونبر 2017، وذلك بعد أن تعذر عليه الحضور لظروف صحية طارئة، وشهدت الندوة عدة مداخلات لمجموعة من المفكرين والباحثين أحيوا من خلالها الذكرى الخمسين لصدور كتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، تحث عنوان: أثر كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة في الفكر العربي.
ونقل المفكر عبد الإله بلقزيز للحضور كلمة العروي مسجلة، بعد إعلامه الضيوف بغياب عميد الفكر العربي – كما أسماه – لظروف صحية طارئة مع اعتذاره بشدة واعتزازه بالتقدير الذي يحظى به عند كل من آمل حضوره.
وقال المفكر عبد الله العروي بالحرف وبصوت يشد ذهن وإدراك المستمعين، “أكبر جائزة يحلم بها مؤلف كتاب إشكالي نقدي مثل كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة، هو أن يُفرِغه التطور من محتواه، أن يَفقد آنيته، ليصبح مادة للبحث، بعد أن يكون قد تحقق بالفعل ما تضمن من أمانيَ وتطلعات، لكن بكامل الأسف، لم يعرف كتابي هذا المصير، لم يُقدر له أن يُفرغ من محتواه، هناك المضمون المحكوم بظرفي الزمان والمكان، والذي ينتظر الإنجاز في أجل قريب أو بعيد، وهناك الهيكل، المنطق، المنهج، وهذا يظل صالحا، مفيدا، مُنتجا، لمدة أطول، ما لم تطرأ ثورة عالمة تجعل من المعروف منكرا، ومن القاعدة استثناءا».
وزاد العروي قائلا وسط جو من الصمت المطلق في قاعة تحمل اسم “فضاء عبد لله العروي»، «انتظر البعض مني، أن أذيل كتابي بمؤلَف آخر يَعرِض للحالة الراهنة، أقول فيه: هنا أخطأت وهنا أصبت، لو فعلت ذلك، لارتكبت خطأين، خطأ الغرور والاعتزاز بالنفس، وخطأ الندم والتنكر للذات».
تُم طرح العروي سؤالا استنكاريا وصفه بالوجيه: ليس ما فعل الزمان بالكتاب، بل ما فعل الزمان بمؤلفه؛ – ويسترسل – وهذا السؤال أجبت عنه في كتابين: كتاب “سنة وإصلاح» وآخر بالفرنسية (Philosophie et l›Histoire La).
ويؤكد المفكر، المؤرخ والروائي، “لم يعد بالإمكان قراءة الإيديولوجيا العربية المعاصرة بمعزل عن الكتابين المذكورين، كل شيء تغيًّر في الآفاق وفي أنفسنا، ما لم يتغير هو واجب الفصل والحسم في اختيار بين أمرين، الانبعاث والاندثار، الانبساط والانحصار، الانفتاح والانزواء، الترحيب بالجديد والاحتماء بالعتيق، تحقيق الموعود والتمسك بالموجود.
جدير بالذكر أن العروي، يقصد بكلمته ما قيل ويقال عن كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة، من ادعاءات تزعم أن الكتاب هو رمز للتأثر الفكري العربي بالشيوعية أو الماركسية أو اللينينية، وحتى إن كان الكتاب كذلك، فالأهم أن العروي لا يتنكر لجهوده في الكتاب، بل لا يزال يدافع عنه، ويفيد أن الكتاب اليوم أصبح من الضروري إقرانه بالكتابين المذكورين. والأكثر من هذا نلاحظ في كلمة العروي ذكره أن الكتاب لم يفرغ من محتواه بعد بالتالي لا يمكن تجاوزه.
عبد الإله بلقزيز: الإيديولوجيا العربية المعاصرة سيقرأ اليوم وغدا أكثر مما قرأ أمس
وقال الكاتب والمفكر عبد الإله بلقزيز في مداخلته، «يقرأ كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة كما قرأ أمس، على الرغم من فاصل نصف قرن على تأليفه، بل سيقرأ اليوم وغدا أكثر مما قرأ أمس، لأن أسئلة الكتاب ما برحت تفرض نفسها بما هي أسئلة راهنة؛ الأنا، الآخر، الكونية، التعبير المطابق…،وإلى ذلك لم يتغير الفاعلون في المشهد الإيديولوجي، وإن تبدلت مواقع قواهم وكُنْياتها، وتأقلمت مفرداتهم وأفكارهم مع متغيرات العالم المعاصر تأقلم الضرورة، ولم تتغيّر بالتبعة وصفات المستقبل، سواء كانت تلك التي قدمها رجل الدين أو الشيخ أو التي قدمها الليبرالي أو التي قدمها الولوع بالتقنية (وهم من موضوعات الكتاب)».
يضيف المتحدث، «حتى عميد الفكر العربي نفسه لم يتوقف طيلة نصف قرن عن العودة للكتاب تجلية لغوامضه وسعة لموضوعاته، وإبتناءا لمفاهيمه. في معظم مؤلفاته اللاحقة. وهذا قرينة على أن الكتاب يتعلق بمشروع فكري طويل الأمد».
وفي مدح لعريس الندوة الغائب الحاضر، يؤكد بلقزيز، «كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة وصاحبه، المفكر اللإستتنائي، الذي أطلقت عليه قبل 26 عاما، لقب عميد الفكر العربي كما أُطلِق على طه حسين لقب عميد الأدب العربي، هذا المفكر رغم كل الصخب الذي دار حوله، لم يأخذ حقه، وعلينا أن نصدقه حين يقول إنني لم أقرأ على النحو الذي يرضي شعوري كمؤلف بأنني أقدم نصا قابلا للتداول، ولكن الحقيقة هي أن الفجوة بين العروي وقراءه، مردُّها إلى أن أكثرهم لا يقاسمونه عين المصادر الفكرية التي ينهال منها، وبالتالي فليس تمة لغة علمية مشتركة بين الخطاب والتلقي وهذه مشكلة أخرى».
وينتقي بلقزيز شهادتان في حق العروي معتبرا أنهما لمن بين من استوعب العروي أكثر، وهما شهادة المفكر التونسي هشام جعيط، والسوري ياسين حافظ، ويسترسل أن المؤرخ هشام جعيط، – مثل العروي- الذي لم يتشرنق على صناعة التاريخ حصرا، بل ضرب بيديه إلى غيرها من صناعات معرفية ينتح منها، هو – لهذا السبب – أقدر من غيره على عيار الجهد العلمي المبذول في عمل العروي.
والمفكر السوري الراحل ياسين الحافظ، – حسب بلقزيز – هو الآخر وجد ضالته، بعد تنقلات من الانتماء السياسي والفكري، في عبد لله العروي وأطروحاته، ليعترف بشجاعة مديونيته الفكرية تجاهه، كان ذلك بمناسبة الهزيمة العسكرية العربية في حرب يونيو 1967، أي في السنة نفسها التي أبصرت فيها الطبعة الفرنسية الأولى لكتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة النور. لم يقرأ ياسين الحافظ الكتاب عقب صدوره، وإنما قرأه بعد صدوره بفترة قصيرة، ونشر ترجمته العربية في عام 1970 في دار النشر (دار الحقيقة) التي أسسها في بيروت، ثم ما لبث كتاب العروي الحامل عنوان “العرب والفكر التاريخي” والذي سيصدر بدوره عن دار الحقيقة في عام 1973، ما لبث أن ألقى ببابل التأثير على ياسين الحافظ إلى الحد الذي لم يتحرج فيه من التصريح بأن كتابات عبد لله العروي نمًّت وعيه النقدي، وفتحت أمام التفكير عنده أفقا منسدّا خاصة بعد وجبات من اليأس الشخصي لديه من الإنتيلجينسيا العربية في أن تستوعب ما حدث وتجيب عنه فكريا الجواب التاريخي المناسب.
واعتبر بلقزيز، أن ما قيل في العروي وكتابه، اعترافا وتنويها، من قبل المفكرين والكتاب العرب، أكثر بكثير من ما كتب في الموضوع، حسب ما عاشه من ندوات ولقاءات، ومن هؤلاء: قسطنطين زريق، أنور عبد الملك، محمود أمين عالي، صادق جلال العظم، عبد العزيز الدوري، صالح أحمد العلي، محمد أركون، حسن حنفي، أدونيس، نصيف نصار، جورج قُرم، عزيز العظمة، سيد ياسين، حليم بركات وخلدون حسن النقيب…
وشدد المتحدث على أن “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” ظلت النص الأدعى إلى التقدير والإعجاب بين هؤلاء جميعا، وإن وَجد قسم كبير منهم أن كتاب “العرب والفكر التاريخي” لا يستكمل الكتاب الأول فحسب بل يطور موضوعاته. وأكد بلقزيز على أن الندوة ستنشر عما قريب في كتاب يجمع للورقات المشاركة فيها.
محمد أفاية: العروي مسكون بنهضة المغرب أكثر من العالم العربي
ومن جهته، أضاف محمد نور الدين أفاية، أن العوري مسكون بنهضة المغرب أكثر من العالم العربي، ومفجوع من تأخره، ومندهش من ضعف نخبه، واستشهد باقتباس من العروي في الايديولوجيا العربية المعاصرة، إذ قال «لقد وُلدَتْ محاولتنا من تأمل وضع خاص: وضع المغرب اليوم. وما من شخص يتمالك نفسه من إبداء الدهشة إزاء العجز السياسي، والعقم الثقافي، الذين تبديهما النخبة المغربية».
ويؤكد أفاية، أن نصا مكتوبا بهذه القوة في الستينيات، قد يجتهد أي واحد منا في قول إنه لا يزال يمتلك راهنية مثيرة، لأن المتأمل لوضع المغرب الحالي قد تنتابه الدهشة كذلك مما يسود العمل السياسي من عجز، وما يسيطر على الحياة الثقافية من تسطيح.
وأبرز، أفاية، تأثير كتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» على الحقل الفكري العربي، السياق السياسي وعلى مسار تاريخي، معتبرا أنه نفس الثالوث الذي شغل بال العروي في كل إنتاجه.
واعتبر العروي – حسب أفاية – مند «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» أن أمْرنا لن يصلح إلا بصلاح مفكرينا، بل لا يتردد في إبداء استيائه من ضعف الوعي التاريخي برهانات الزمن ومستلزمات التحديث.
كما تطرق أفاية لقضية ترجمة الكتاب، إذ قال «الأخطاء الغزيرة التي ارتكبت في ترجمة كتابه، عملتْ على ما يسميه هو (العروي) بقلب المعنى، وتحولت الترجمة إلى ألغاز، لا أجد سبيلا إلى حلها مع أنني أنا كتبت الأصل، فكيف استطاع غيري أن يفهمها، أو ظن أنه فهمها، تم أجاز لنفسه أن يناقش الأفكار التي يتوهمها في الكتاب».
عز الدين العلام: الإيديولوجيا العربية المعاصرة هو كتاب جامع
رجح الكاتب عز الدين علام، أن من صعوبات قراءة كتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» أن تلتقي فيه عدة مجالات معرفية، إذ يحظر التاريخ، المجتمع، السياسة، المنظومات الإيديولوجية، وقائع مجتمعية، وقائع فلسفية وأخرى فقهية، ويستعان فيه بالتوضيح بجوانب أدبية، بل ومناقشة بعض القضايا المتعلقة باللغة والشعائر والطقوس الأقرب إلى مجالات الأنتروبولوجيا.
محمد الشيخ: الإيديولوجيا العربية المعاصرة زهرة الثقافة العربية بالقرن العشرين
وقال محمد الشيخ، الباحث في الفكر العربي الإسلامي، «كانت سنة 1967 من الناحية الثقافية حاسمة في تاريخ المغرب لأنها استطاعت أن تشخص الداء الذي لطالما عانى منه العربي والإسلامي عامة، فتم إنتاج زهرة الثقافة العربية بالقرن العشرين، إذ لم يكن قد ألف كتاب بهذه القيمة في تشخيص داء العطب القديم، وهو جرح يكاد لا يندمل حتى اليوم».
وأفاد أن كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” يعطي للإنسان، للفيلسوف، للمؤرخ، وللمحلل الإيديولوجي أيضا، تلك المسافة (حفظ المسافة)، التي كانت تعطي نظرة أدق وأليق نحو داء العطب.
امتدت الندوة طيلة يوم الأربعاء من 9.30 صباحاً إلى حدود الخامسة ونصف مساءا، منقسمة إلى ثلاث جلسات. واستُهِلت الندوة بكلمة عبد القادر كنكاي، عميد الكلية، ليُسَلِم الكلمة بعده لرئيس الجلسة الأولى، محمد مصطفى القباج، وهي الجلسة التي حاضر فيها كل من: محمد سبيلا، كمال عبد اللطيف (بورقة تلاها رئيس الجلسة)، نور الدين أفاية، علال الأزهر. بينما ترأس عبد الباقي بلفقيه الجلسة الثانية، التي انطلقت مع الساعة 11.45، وسلم الكلمة للباحثين والمفكرين: نور الدين العوفي، عز الدين العلام، محمد الشيخ. أما الجلسة الثالثة والأخيرة، أدارها عبد المجيد جهاد منذ الساعة الثالثة بعد الزوال، وتحدث خلالها: محمد مزوز، نبيل فازيو وعبد الإله بلقزيز.