التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.
لا أحد ينكر أن العرب كانوا على اتصال بالأمم المجاورة لهم كالفرس والأحباش والروم والسريان والنبط وغيرهم، ونتج عن هذا الاتصال تبادل لغوي في الكلمات، وهذا أمر طبيعي لأنه من المتعذر أن تظل لغة بمأمن من كل تأثير، فاللغات تقترض بعضها من بعض، فجرت على ألسنتهم بعض الألفاظ التي احتاجوا اليها بعد أن نفخوا فيها من روحهم العربية فتلقفها الشعراء والأدباء وأدخلوها في أشعارهم وكتابتهم وصارت جزءاً من الكلمات المتداولة وربما نسوا أصلها.
وجاء القران الكريم بلسان العرب، فلا غرابة اذاً في أن يضم طائفة من تلك الألفاظ، التي اتحدت في نظمه وغدت عنصراً ملتئماً في نسجه وكان البعض من الصحابة والتابعين يدرك ذلك تماماً ولا يرون حرجاً عند تصريحهم بذلك، كابن عباس، وابن جبير وعكرمة وغيرهم رضى لله عنهم، إلا أنّ بعضا من العلماء ذهبوا إلى إنكار وقوع المعرب في القرآن الكريم وربما ذهب بعضهم في دعواه إلى تكفير من يقول بوجود كلمات أعجمية في القرآن، فهذا أبو عبيدة يقول: “من زعم أن في القرآن لساناً سوى العربية فقد أعظم على لله القول”. لكن لغتنا العربية لغة حية، تأخذ وتعطي كما يأخذ الأحياء ويعطي بعضهم من بعض، ولا عيب على لغتنا إن دخلت فيها ألفاظ أعجمية، بل ان هذا دليل على قوتها وقدرتها وتمكنها من صهر تلك الألفاظ الأعجمية وتطويعها لخدمة المعرفة الشاملة.
ويختص هذا البحث بتقديم صورة واضحة لرأي الصحابة والتابعين والعلماء القدماء والمحدثين في وقوع المعرّب في القرآن الكريم واختلافهم فيه.
أسأل لله أن يوفقني ويهديني سواء السبيل والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا لله، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
المعرَّب لغة:
قال ابن منظور: “العرب والعرَب جيل من الناس معروف خلاف العجم”. والعرب العاربة: هم الخلص منهم، وأخذ من لفظه وأكد به، كقولك ليل، لائل، تقول: عرب، عاربة، وعرباء، صرحاء متعربة ومستعربة: دخلاء ليسوا بخلص. والعربي منسوب الى العرب وإن لم يكن بدوياً، قال ابن منظور: “عربي: بين العروبة والعروبية، وهما من المصادر التي لا افعال لها”. والعرب: “هذه الأمة، أي، هذا الجيل ولا واحد له من لفظه سواء أقام في البادية أم في المدن”.
وتعرّب: “تشبه بالعرب، وتعرّب بعد هجرته، أي صار أعرابياً”. قال الأزهري: “المستعربة عندي قوم من العجم دخلوا في العرب فتكلموا بلسانهم وحكوا هيئاتهم وليسوا بصرحاء فيهم. ويكون التعرّب أن يرجع إلى البادية بعدما كان مقيما بالحضر فيلحق بالأعراب، وقال: الاعراب والتعريب معناهما واحد وهو الإبانة. وأعرب عن الرجل: بيّن عنه. وعرّب عنه: تكلم بحجته. وعرّب منطقه أي هذبه من اللحن. وعرّبه: علمه العربية.
وتعريب الاسم الأعجمي: أن تتفوه به العرب على منهاجها. وقال الكسائي: والمعرّب من الخيل: الذي ليس فيه عرق هجين. وقال شمر: التعريب: أن يتكلم الرجل بالكلمة فيفحش فيها أو يخطىْ. والتعريب: قطع سعف النخل وهو التشذيب “.
واصطلاحاً: “هو استعمال لفظ غير عربي في كلام العرب، وإجراء أحكام اللفظ العربي عليه “، أو ” هو نقل اللفظ الأعجمي الى العربية “.
ذكر الدكتور أحمد عبد الرحمن أن “المعرب هو ما استعملته العرب من الألفاظ الموضوعة لمعانٍ في غير لغتها بحيث يصبح عربياً “.
وقال الدكتور عبد التواب: ” إن الكلمات المأخوذة من اللغات المجاورة يطلق عليها اسم الكلمات المعربة، وعملية الأخذ بعينها تسمى التعريب”. ويعني هذا أن الكلمات التي استعارتها العرب لتؤدي بعض المعاني لم تبق على حالها كما كانت عليه في لغتها من معان، وإنما حدث فيها تحريف في الصوت والنطق والبنية، وبعدت في جميع هذه النواحي عن صورتها القديمة.
رأي القائلين بالمعرَّب وأدلّتهم
ذهب أكثر الباحثين إلى أن اللغة العربية اقرب شبهاً باللغة الأم (السامية)، على الرغم من أنها عاشت في حضارة زاخرة بالعلوم، زاهرة بالآداب، فضلا عن أنّها أكثر اللغات السامية إنسانية وتاريخاً، فمذ انفصالها عن لغة الأم واستوائها لغة مستقلة ناضجة- من خلال ما وصل الينا من نصوص شعرية ونثرية – حافظت على مقوماتها بوصفها لغة متطورة تنمو وتتطور وتؤثر وتتأثر، لذا فإن اتصال العرب بغيرهم من الأمم جاء عن طريق الجوار والرحلة والتجارة والسياسة، أمثال الروم والسريان والكلدان والنبط والفرس والاحباش، وقد ترتب على هذه الاتصالات والمجاورات انتقال كثير من ألفاظ هذه الأمم الى لغة العرب بعد معرفتهم إياها واستعمالهم لها، بيد أن الألفاظ الفارسية فاقت سواها من الالفاظ الأعجمية كثرة، حتى أن شعرائهم افتخروا بصلتهم الوثيقة ببلاد العرب، فهذا احد شعراءهم يقول:
وما زلنا نحج البيت قدما
ونلغي بالأباطح آمنيا
وساسان بن بابك سار
حتى اتى البيت العتيق يطوف دينا
فطاف به وزمزم عند بئر
لإسماعيل تروي الشاربينا
وذلك لوجود اتصال تاريخي محقق بين اهلها، أو قل: إنّ “ارتباط الفرس بالعرب كان أوثق، وصلاتهم كانت أعمق بالقبائل العربية “، كقبيلة ربيعه وبكر ومضر شمالاً وعرب الحيرة جنوباً، والأزد في عمان من جهة، ولسيطرة الفرس على اليمن ومجاورتها لمكة ويثرب عن طريق تجارة اليمن، سهل هذا الاتصال على العرب معرفة الكثير من الألفاظ الفارسية التي لم تكن معروفة في بيئتهم، والتي تدل على دلالات ربّما غير موجودة في اللغة العربية كلفظةإستبرق التي كثر استعمالها فيما بعد حتى أصبحت جزءاً من مفردات العربية.
وكانت الوسيلة لدخول الألفاظ الفارسية الى العربية قبل الأسلام “الأذن واللسان، لا الكتب”، لأن التدوين فشا في عهد الأمويين وصار أمره معروفا، فكان العربي يسمع اللفظة وينطقها بعد إخضاعها إلى لهجته وطريقة نطقه كما وعاها، فهذا الاحتكاك أدى إلى استعمال ألفاظ الأمم الأخر اضطراراً لتسهيل عملية التعامل معهم مما أصبح ” من المتعذر أن تظل اللغة العربية بمأمن من الاحتكاك والاقتراض من لغات غيرهم من الأمم”، كما أن تطور اللغة المستمر في معزل عن كل تأثير خارجي يعد أمراً مثالياً لا يكاد يتحقق في أي لغة، بل على العكس من ذلك، فأن الأثر الذي يقع على لغة ما من لغات مجاورة، له أثر مهم في التطور اللغوي، ذلك لأنّ احتكاك اللغات ضرورة تاريخية، يؤدي حتماً الى تداخلها، وما دامت لغتنا لغة حيّة تنمو تبعا لنمو الحياة وتطورها وتقدمها فلا بدّ لها من مسايرة هذا التطوّر والتقدم كي تكون قادرة على الاحاطة بهما، فهي تقتبس كلّما دعت الحاجة إلى ذلك، ولاعيب في لغتنا من اكتسابها بعض المفردات الأعجميّة ما دامت قادرة على صهرها في بوتقة المعرفة بدلالاتها العربية وإخضاعها لاصول كلامها.
إنّ اقتباس بعض الألفاظ أو استعمالها من الضرورات الحيويّة التي تساعد على إنماء روح التجدد والتطوّر الذي ينشده الانسان لنفسه ولأمّته، ولتكون لديه الحصانة الكاملة لغة ومعرفة وثقافة يستطيع من خلالها لجم أفواه من تسوّل له نفسه الطعن بلغة ديننا. وعلينا أن لا ننسى أنّ حكمة وقوع الألفاظ غير العربية في القرآن إنّه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء، فلا غرابة أن تقع فيه الاشارة إلى أنواع اللغات والألسن لتتمّ إحاطته بكلّ شيء، فاختير له من كلّ لغة أعذبها وأخفّها وأكثرها استعمالا للعرب، فالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مرسل إلى كلّ أمّة، قال الله تعالى: “وما أرسلّنا من رسول إلا بلسان قومه”. فلا بدّ أن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كلّ قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو.
إنّ ما يعنينا في هذا البحث هو الوقوف على الرأي القائل بوجود المعرّب في القرآن الكريم أو عدمه وما له من أثر في حركة الاقتباس.