التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.
ألف الناس في العصر الجاهلي استعمال بعض الكلمات ذوات الأصول الأعجمية جزءاً من لغتهم، ولربما نسوا أصلها في كثير من الأحيان لكثرة تداولها. ولما جاء الأسلام بقرآنه العظيم بلسان امة العرب، كانت بعض الكلمات الأعجمية من مقومات اللغة، وكان السلف الصالح يدرك ذلك تماماً لكن قول لله جل وعز: “إنا جعلناه قرآناً عربياً”، وقوله تعالى: “بلسان عربي مبين” جعل أهل العلم يذهبون الى القول إن كتاب لله “ليس فيه شيء من غير العربية”.
فالامام الشافعي (ت 204 هـ) يرد على القائلين بوقوع المعرب في القرآن: ” قال منهم قائل: إن في القرآن عربياً وأعجمياً، والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب ” وحجته في ذلك:
-1 إن الألفاظ الواردة في القرآن الكريم عربية، ولكن غاب عن بعض الناس العلم بعربيتها ولا يلزم بأعجميتها إذ يقول: “لعل من قال إن في القرآن غير لسان العرب… ذهب الى أن من القرآن خاصاً يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لايذهب منه شيء على عامتها حتى لايكون موجوداً فيها من يعرفه “.
-2 إن الألفاظ الواردة في القرآن الكريم مما اتفقت فيها اللغات يقول: “ولا ننكر إذا كان اللفظ قيل تعلماً أو نطق به موضوعاً أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلاً من لسان العرب”.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت 210هـ): “من زعم أنّ في القرآن شيئاً من ألفاظ العجم فقد أكبر لأنّه عّز وجّل يقول: (بلسان عربي مبين). قال: ومن زعم أنّ (طه) بالنبطية فقد أكبر، وان يعلم ما فيه وهو اسم للسورة وشعار له. قال: وقد يوافق اللفظ اللفظ ويقاربه ومعناهما واحد، أحدهما بالعربية والآخر بالفارسي أو غيرها، فمن ذلك (الاستبرق) بالعربية هو الغليظ من الديباج وبالفارسية (استبره) و(الفرند) و(كوز) فهو بالفارسية والعربية واحد”.
ومؤدى هذا القول إنّ الألفاظ الواردة في القرآن الكريم عربية إمّا لتوافقها في اللفظ وتقاربها وإمّا لأنّها أسماء وضعت مسميات للسور كما هي.
وحمل الطبري (ت310هـ) حملة قوية على القائلين بورودها في القرآن فقال: “إنّ نسبتهم إياها إلى الأعجمية لا ينفي أنّها عربية، فقد يكون في الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة بمعنى واحد، فكيف بجنسين منهما؟ وإذا كان ذلك كذلك فليس أحد الجنسين أولى بأن يكون أصل ذلك كامن عنده من الجنس الآخر”. وهذا ما ذهب إليه الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن).
وذهب أبو بكر بن الأنباري (ت337هـ) الى أنّ الألفاظ الأعجمية الواردة في القرآن الكريم مما اتفقت فيه لغة العرب ولغات الأمم الاخرى، قال: “إنّه مما اتفقت فيه لغة ولغة النبط لأنّ الله عز وجل لا يخاطب العرب بلغة العجم”. هذا ما أورده حول لفظة (صِرهنَ) وأصلها بالنبطية (صرية).
وأحمد بن فارس (ت395هـ) لا يختلف عمن سبقه من الصحابة والتابعين في الحكم العام، من أنّ القرآن خال من الألفاظ الأعجمية وحجته “أنّ القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب لتوهم متوهم أنّ العرب إنّما عجزت عن الاتيان بمثله لأنّه أتى بلغات لا يعرفونها، وفي ذلك ما فيه “.
وقال أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك (ت 494هـ): “ذإنّما وجدت هذه الألفاظ في لغة العرب لأنّها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظاً ويجوز أن يكونوا سبقوا الى هذه الألفاظ). وذكر الزمخشري (ت 538 هـ): ” إنّ ألفاظ القرآن الكريم عربية صرفة، ولكن لغة العرب متسعة جداً، ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى (فاطر) عندما قال: ما عرفت ما (فاطر السموات والأرض) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي: ابتدعتها “.
أمّا المحدثون من علماء اللغة، الذين نهجوا نهج سابقيهم في القول بعدم وقوع المعرب في القرآن الكريم فمنهم ” الشيخ أحمد محمد شاكر (ت 1958 م) الذي واصل حملة الامام الشافعي وأبي عبيدة على من يقول بوقوع الألفاظ الأعجمية في القرآن وذهب إلى ما ذهبوا إليه.