دراسات قرآنية 10 : فرضيات الكتاب حول (قصص القرآن) ونقدها الآخرة والوحدانية والأخلاق:

محاولة بلورة هذه المنهجية التأويلية هو ما لا يقوم به الحداثيون ولا الإسلاميون في رأي فضل مما يبرر طرحه؛ فالتحديثي الكلاسيكي -وفقًا له- لا يمتلك أيّ منهج يستحق هذا الاسم، بل يقتصر نشاطه على التعاطي الإجمالي مع مشكلات تبدو له وكأنها تتطلب حلًّا يفيد المجتمع الإسلامي، لكنها في حقيقتها مُستلهَمة من تجربة الغرب. أما الإسلاميون الأصوليون فإنهم «يتحدثون عن الأصل دون بلورة أيّ فكر أصيل من حوله، ولا يملك الإحيائي الجديد سوى أن يكون ردّ فعل على ما يأتي به الحداثي الكلاسيكي حول بعض القضايا الاجتماعية، دون أن يُتعب نفسه في البحث عن منهجية للتفسير القرآني تكون أمينة وموثوقة دراسيًّا وعقليًّا»؛ لذا فرغم الاشتغال الطويل على القرآن وعلى الحداثة وعلى الإشكالات التي يطرحها لقاؤهما أو صدامهما، إلا أن قضية المنهج تظلّ غائبة عن العقل الإسلامي -وفقًا لفضل- وفي هذا الغياب، ومن أجل ملء هذا الفراغ بمنهج متماسك يتجاوز التجاور الفكري والواقعي يؤسس فضل تأويليته للقرآن.

 

 

تُعَدّ قضية الآخرة والحساب مسألة كبرى في القرآن -وفقًا لفضل-، فهي مسألة حاسمة في التوحيد الإبراهيمي، كما أنها مسألة مركزية في البيئة الجاهلية التي واجهها القرآن بعقائده وتشريعاته، تلك التي كانت ترفض تمامًا الإيمان بوجود حياة أخرى خلف هذه الحياة، وهو الذي يتضح حتى في المفاهيم السائدة عندهم عن الموت كـ(رَدى)، و(هلاك)، لا (وفاة) كما في الإسلام؛ لذا يرى فضل أن هذه المسألة ربما كانت من تلك المسائل التي نازع فيها القرشيّون النبيَّ وطلبوا منه التخلي عنها في مقابل أن يؤمنوا له ويدخلوا في دينه «كما فعلوا في التوحيد وفي النبوة».
وفضل حين ينظر لهذه المسألة فإنه ينظر لها كأساس لنظام أخلاقي، فكما قلنا فإن (فضلًا) يعتبر أن الله هو الناظم لتجربة هي سلوكية وأخلاقية في الأخير، «فرسالة محمد النبوية توجهت نحو التحسين الأخلاقي لوضعية الإنسان بالمعنى الملموس والجماعي للكلمة»، وأن الإيمان باليوم الآخر هو والدعوة لعدالة اجتماعية جوهرٌ لتلك التجربة التي خاضها محمد.
لكن كيف تكون الآخرة أساسًا لنظام أخلاقي في نظر فضل الرحمن؟ أو لو عبَّرنا بما يناسب تأويليته، فسنقول: كيف تكون (الآخرة)كمسألة قرآنية كبرى نواة لحقل مفاهيمي سلوكي/عقَدي تشريعي؟
إنّ الآخرة -وفقًا لفضل- هي تصوّر يُحتِّم على الإنسان النظر للحياة باعتبارها مُنتهيَة في أحد مستوياتها، لكنها في مستوى آخر باقية، فلها غاية هي الآخرة، مما يعني أن الدنيا المُدانة في القرآن ليست تعبيرًا عن الحياة التي نعيشها أو عن العالم، وإنما تعبير عن النزعات المنحطَّة في الاكتفاء بهذا العالم وفي الانطلاق من دوافع الأنانية واللذة، أما الأفعال التي تتعالى على هذه النزعات فإنها ورغم أنها تبدأ هنا والآن إلا أنها باقية وممتدة، وهذا يترتب عليه كون الإنسان ينشط للتعامل مع أفعاله الدنيوية مهما دقّت بجدّية تامّة، وأن يتعوّد على ميزانها بميزان غير ميزان الذهب والفضة، سواء على مستوى الظاهر أو على مستوى الباطن، فالآخرة -بما هي الغاية النهائية لأعمال هذا العالم- هي آخرة تنكشف فيها الأبصار ويُبصِر فيها الإنسان حقيقة الأمور وتظهر فيها القيمة الحقّ لكلّ شيء وتنجلي فيها الأسرار والبواطن، مما يجعل الإنسان في حياته لا يتهاون في الخروج على النظام الأخلاقي، وينشط أن يكون له في حياته هذه بصر شبيه ببصر الآخرة يستطيع وزن حقيقة الأشياء.
ومن هنا يأتي مفهوم قرآني شديد الأهمية والمركزية، يترتب ويتعالق بـ(الآخرة)حيث يصير كـ«مفهوم معْبَر» يتركّز فيه تحول المفهوم العقَدي إلى مفهوم ناظم للأخلاق في الإسلام، أيْ مفهوم (التقوى)، فالتقوى هي بصيرة الإنسان بأفعاله ظاهرًا وباطنًا، ومصباح يفرّق به بين الخطأ والصواب، وهو حساسية تزداد بممارسته، حتى يصل الإنسان من الانتباه لأفعاله والتدقيق فيها إلى مستوى يمكن التعبير عنه بأنه مستوى (آخري)، أيْ شبيه بتلك اللحظة في الآخرة التي ينكشف للإنسان فيها حقيقة الأمور ومقدارها الحقّ، والتي ينكشف فيها حقيقة المرء المخفية، فالإيمان بالآخرة بهذا يكون ناظمًا للنظام الأخلاقي والسلوكي في أدقّ مستوياته عبر طرحها لمفهوم (معبر) أساس هو مفهوم (التقوى).
كذلك يرتبط مفهوم الآخرة من ناحية أخرى -فكما قلنا فالمفهوم حقل مفاهيمي- بمفهوم العدل كقيمة يُطالِب القرآن المسلمين بتوخِّيها دومًا حتى مع من يَكرهون، وهذا المفهوم (مفهوم العدل) ينطرح عبر الآخرة من حيث الآخرة هي التجلي الأشمل للعدل ولحسم الخلافات وإعطاء الحقوق، فهي لحظة تكريس أخلاقية الكون في مجمله، فرغم أن هذا العالم لا ينتهي دومًا للعدل كمبدأ أعلى للأخلاقية الإسلامية، إلا أن العدالة الإلهية قادمة لا محالة، وهذا ما يبرر الفعل الأخلاقي البشري المحقق للعدل حيث هو التناغم مع النظام الأخلاقي الساري في الكون والمتحقق حتمًا.
وبالتالي فإنّ هذا التصور العقَدي في وجود آخرة وبعث وحساب نفسي وجسماني ليس مجرد مسألة تصورية تتعلق بآخر هذا العالم، أو كما يقال أحيانًا: تصوّر يصرف عن هذا العالم، بل إنه -وعلى العكس- مُوجَّه تمامًا نحو هذا العالم؛ لتغييره وتأسيس أخلاقية هي الناظم الوحيد له على مستوى الفرد والمجتمع. وهو حقل مفاهيمي حيث يدور في مجاله مفاهيم (المسؤولية)، و(التقوى)، و(جدية الحياة)، و(العدل)كمفاهيم تعبُر وتَشِع في الأخلاقية الإنسانية التي يريد الإسلام تحقيقها.


بتاريخ : 11/08/2020