ماذا نذهب إلى السينما؟ ولماذا نتعمد حبس ذواتنا داخل القاعات المظلمة؟ ولماذا نشعر بالاستمتاع ونحن نتلقى ما يجري أمامنا من أحداث
على شاشة السينما؟
نحن لا نذهب إلى قاعات السينما لنظل بعيدين عن العرض الفيلمي، بل للمشاركة فيه والدخول إلى عوالمه. إن السينما تعلمنا كيف نحلم، وتنقلنا من منطقة إلى أخرى، وهذا معناه أن الدخول إلى السينما رغبة إرادية في معانقة الحلم.
يرى بارث أن الظلام في القاعة السينمائية هو أحد العناصر الأساسية التي تخلق فضاء ثالثا، أي ذلك الفضاء التنويمي كهدف لتجربة المشاهد. ولا يتعلق الأمر هنا بالفضاء الذي يُلعب فيه الفيلم، ولا بفضاء السرد في الفيلم، ولكن بالمكان الذي يعكس حياتنا الخاصة في مرآة الفيلم. وكثافة التنويم المغناطيسي هي التي تزيد من درجة الحرية والتخييل الذي يمكننا من الوصول إلى هذا الانعكاس لفهم ذواتنا.
فالعديد من النظريات يركز على الاتصال العاطفي مع الشخصيات داخل الفيلم، ويهتم بمواقف المتلقي (اللامبالي، المنتبه، المسرف في انفعالاته، الأكاديمي، المنفتح، قليل الذكاء، الآخر الذكي، السينيفيل، الرومانسي…). غير أن الفسلفة تهتم أساسا بالفكر خارج الترفيه، ذلك أنه بإمكاننا – ونحن داخل قاعة السينما – أن نجد أنفسنا نشاهد الفيلم نفسه جنبا إلى جنب مع فيلسوف، وقد نتساءل حينها عن أسباب ارتياده للقاعة؟ وعن موضوع اهتمامه؟ وعن إدراكاته ومواقفه إزاء الفيلم؟ وإذا ما ضحك فهل يضحك مثلنا من نفس الشيء؟
ولذلك، فإن السينما فن يدفعنا إلى التفكير من حيث أنّها تحرّكنا عبر صدمة فيزيائية؛ فهي تحمل صورا / أفكارا من شأنها أن تجعلنا نفكّر عندما نتابع كيفيّة تشكّل الصورة في الفيلم وما تحمله في طيّاتها من مفهوم
ومن هنا تأتي “الفيلموسوفي” كدراسة للسينما، وكتفكير يحتوي على نظرية في الكينونة السينمائية ، فهي طريقة جديدة في فهم ومعايشة السينما، أي مناقشة مفهوم التفكير السينمائي، الذي يقدم أفضل لغة للوصف تضمن لقاء أكثر ملاءمة بين السينما (الفيلم تحديدا) وبين المتلقي، هذا الذي يعايش فيلما باللغة التي يمتلكها ويتقنها، إذ يحصل على “انتباه” أكثر ملاءمة . فالسينما فن يفكّر، وتفكيرها مجسّد حسّيا وانفعاليا .
إن الفيلم ليس فقط موضوعا من بين الموضوعات؛ صحيح أنه يأخذ شكل شريط طويل انطبعت عليه الصور، وأضيف على جوانبه شريط مغناطيسي، لكن هذا الموضوع يتسم بالخاصية الفطرية الحاملة لدلالة ما، فأنا “أشاهد” على الشاشة تأثيرا سينمائيا وضوئيا، بل أيضا قصة أكون أنا “شاهدا” عليها، ولا يتعلق الأمر بتوالي اللوحات، بل باستمرارية لها معنى ، هذا فضلا عن أن السينما عموما، تعتبر فنا ذا لغة موحدة يفهمها العالم باختلاف أجناسه وهوياته، وفي ذلك استفزاز للأعراف والثقافات التي تدفع المتلقي إلى التأقلم معه أو رفضه والتمرد عليه، وكمثال على ذلك فيلم “الخروج.. آلهة و ملوك (2014) ” للمخرج الأمريكي “ريدلي سكوت”، الذي له مرجعية أمريكية لم تتوافق وانتظارات العديدين ممن تلقوا الفيلم داخل قاعة العرض بالمغرب، مما أدى إلى توقيف عرضه بتحريض من الوزارة الوصية (وزارة الاتصال)، ولم يعرض من جديد إلا بعد حذف لقطات منه.
يمكننا أن نتساءل إذن عما إذا كان بوسع السينما أن تخلق عالما خاصا بها، لا يستلزم أن يكون عالم المرجعيات الثقافية والمؤسساتية، لطالما أن السينما فن عالمي؟ هل يمكن للفيلم أن يفهم من داخله بالتفكير فيه والتأمل في عوالمه؟ ألا نرتكب خطأ حينما ننقل العرض الذي تقدمه لنا تلك الشاشة العملاقة وسط الظلمة، إلى العالم الحقيقي الذي تعودنا العيش فيه؟
لقد حدد “برغسون” العلاقة بين السينما وبين شكل محدد من التفكير يكتسب في نظره شرعية في مجال الحياة العلمية، وهي الأطروحة التي اشتغل عليها “جيل دولوز” في كتابيه الصورة- الحركة / الصورة- الزمن، حيث وضع “برغسون” ثلاث أطروحات حول الحركة، كادت إحداها تحجب الأخريتين، والتي مفادها “أن الحركة لا تختلط مع المكان الذي اجتازته، فالمكان المجتاز هو ماض، بينما الحركة هي حاضر، وهذه هي عملية الاجتياز، إذ يمكن تقسيم المكان دون الحركة التي لا تقبل القسمة” ، الشيء الذي يقتضي فكرة أخرى تتضمن أن الأمكنة المجتازة تنتمي كلها على مكان واحد متجانس غير متغير، في حين إن الحركات وحدها متنافرة ويتعذر دمجها ببعضها، ومع ذلك فإننا في حاجة إلى أن ندرك الحركة والمكان.
يعارض “بيرغسون”، إذن، أن الزمن ليس تتابعا لنقاط على خط، لكنه تدافع دينامي لماض، يمتد إلى مستقبل، لذلك فإن الماضي محتوى في الحاضر، والحاضر مستمر في المستقبل. أما الحركة، فلا يمكن فصلها عن الشيء المتحرك، فهي مكانية وزمانية في الآن نفسه ؛ أي أن الأشياء الثابتة ليس لها معنى ودون حركة زمانية مكانية. وعلى هذا الأساس يعتبر “برغسون” أن ما نقوم به كمتلقين يشبه آلة الكاميرا، إذ أننا إذا وضعنا الصور الثابتة جنبا إلى جنب، فإننا لن نظفر بالحركة، فلكي تتحرك الصور وجب على الحركة أن تكون في مكان ما، كحركة الممثل داخل المشهد، والتي تُنقل لنا عبر عدسة الكاميرا.
زيقتفي ”دولوز” أثر “بيرغسون” في ملاحظة أننا بشكل طبيعي نضفي صفات المكان على الزمن، حيث إننا نتعامل –كمتلقين- مع الزمن باعتباره تتابعا لحالات منفصلة من أشياء صامتة في وعاء مكاني، إذ أن حركة هذه الأشياء هي مجرد تغيير يؤثر على الأشياء من خارجها. وهذا يعني أنه من الضروري، أن نأخذ النشاط الإدراكي للمشاهد بعين الاعتبار؛ فهو لا يدرك الصور الثابتة أثناء العرض (24 فوطوغرام في الثانية)، بل يدرك صورا متحركة وفق زمن معين. وحين يتغير وضع الكاميرا أثناء تصوير اللقطات، فإن المشاهد سيدركه أيضا خلال العرض، بحيث إن تركيب مكونات الحقل البصري تتغير حسب زوايا الكاميرا وسلمية اللقطات.
وباختصار، يمكن القول إن السينما لا تعطينا صورة تنضاف إليها الحركة، بل تعطينا على الفور صورة/حركة، وتعطينا قطعا متحركا+ حركة مجردة .
وعلى العكس مما ذهبت إليه الظاهراتية التي رأت أن السينما قد أحدثت قطيعة مع شروط الإدراك الطبيعي، فإن برغسون يرى “أننا نتلقظ مشاهد شبه فورية من الواقع العابر، وبما أن هذه المشاهد مرتبطة بهذا الواقع، يكفي أن نجعلها تنتظم في صيرورة مجردة أحادية الشكل وغير مرئية تكمن في قاع جهاز المعرفة، فالإدراك الحسي والإدراك العقلي واللغة تتبع كلها هذا النهج”.
ولقد أدرك “دولوز”، من خلال “بيرغسون”، أن الواقعيين والمثاليين يتجادلون بلا نهاية حول ما إذا كان الواقع موجودا خارجنا أم في رؤوسنا فقط ، إذ يعتبر “بيرغسون” كما الظاهراتيين وهوسرل، أن الموضوع يُدْرَك عن طريق الوعي لأنه ظاهرة ذاتية مستقاة من الصور. إن ”بيرغسون”، في هذه الحالة، يطلب منا أن نتخيل عالما أو كونا من الصور، حيث كل استجابة مباشرة ولحظية لحركات كل الصور حولها، والكل (المونتاج) يشبه مجموعة من الجزيئات (اللقطات) التي تتواصل فيما بينها، والتي نستوعبها – نحن- كمتلقين.
في هذا الصدد يقول ”بيرغسون” إن هذا الجزء هو صورة حية، والتي هي “مركز اللاحتمية”، فيما الوعي هو تلك اللاحتمية . وهنا يمكننا أن نفرق بين ثلاث لحظات في استجابة الصورة الحية لما يحيط بها من لحظة “الإدراك”، والموجهة إلى توقع الحركة التي تصطدم بها من الخارج، ولحظة “التأثر” التي تشعر فيها الصورة الحية بالحركات المتصادمة من الداخل، ولحظة “الفعل” حيث الصورة الحية تستجيب لما يحيط بها من خلال فعل من نوع ما . وهذا معناه أن الصورة المُدرَكة ترتبط بفعل المدْرِك على نحو تام، وهكذا يأخذ استيعابنا شكلا ما مرتبطا بنا، وبتراكماتنا وتقاليدنا وعاداتنا.
وعلى مستوى أخر، اهتم المنظرون الأوائل للسينما، بالكيفية التي يدرك بها المتلقي الفيلم، ومدى تفاعله مع شروط الوهم العرضي أي بداية السينما، وذاك في إطار علم النفس التجريبي وعلم نفس الإدراك (النظرية الجشطالتية ). ومن بين هؤلاء المنظرين نذكر ”أرنهايم”، وكذلك ”منستربيرغ” الذي اختار علم النفس التطبيقي مرجعا لفهم إدراك المتلقي للفيلم، من خلال التقابل بين طبيعة الوسائل الفيلمية ( بنية الأفلام) وبين المقولات الكبرى للذهن البشري. فالسينما، باعتبارها عملية ذهنية، تتعدى مسألة المشاهدة القرنية إلى أنشطة ذهنية مركبة. وهذا ما جعل “دولوز” يطرح السؤال التالي: كيف تظهر في السينما (الصورة/الإدراك الموضوعية) و(الصورة/الإدراك الذاتية)؟ وما الذي يميزها عن بعضها البعض؟
الإنفعال العاطفي كما يصوره ”جيل دولوز”
إن تفسير تجربة مشاهدة أو تلقي الأفلام تنبني بالأساس على عمليات ذهنية. وفي هذا الصدد، ذهب أصحاب النظريات المعرفية في الإدراك إلى نظريات أخرى تعنى بالمعرفة الإدراكية المعتادة عند الإنسان، والاستجابة العاطفية ، إذن كيف يتم هذا التأثير؟ هل هو تأثير نستقيه من تجاربنا المعتادة؟ كيف نفهم الأحداث والشخصيات والمشاعر في الفيلم؟
توجد ثلاث أطروحات داخل نطاق المعرفة الإدراكية للمتلقي وهي: أطروحة الفهم الطبيعي، وأطروحة الحل المنطقي للمشكلات، وأطروحة التفسير الذي يعتمد على الفطرة. أي أن المتلقي يستخدم عمليات الفكر الخاصة بالعالم الحقيقي المحيط به لكي يفهم الأفلام .
إن المتلقي يستدعي في فهمه للفيلم، كل العمليات الطبيعية للتمثيل الذهني، أي أنها نظم كونية سابقة على الثقافة والهوية الشخصية، وهي نفس العمليات التي تتيح لنا فهم العالم ، أي أن تلك العادات التي تجعلنا ندرك محيطنا هي نفسها التي نستخدمها في فهم الفيلم المعروض. لكن، هل هناك تشابه بين محيطنا والسينما؟ إن لم يكن الأمر كذلك، فكيف يعقل أن تكون هناك مساواة بين إدراك العالمين؟ أي كيف للسينما أن تشابه – على نحو دقيق – الحياة الحقيقية؟
لا نظن أن الأمر متشابه – على هذا النحو من الدقة- ذلك لأن الكاميرا تبئر وتؤطر خلافا للعين المجردة التي لها أفق أوسع في إدراك الأشياء، أي أننا– عبر شاشة السينما- نقوم بمسح المنظر الذي يؤطره الإطار، في حين أننا في الحياة ننظر داخل المنظر بزاوية أوسع و أرحب، هذا بالإضافة إلى أن المخرج/ الميتاسارد هو من يتحكم في اختيار زوايا ومحاور الكاميرا ولقطاتها، فهو يسمو بهذا الموضوع أو يحَقر ذاك… لذلك فالمخرج هو مناوِرُ بالضرورة، كما يؤكد ذلك المخرج المغربي “أحمد المعنوني” طالما أنه يختار اللقطات والمشاهد التي من شأنها التأثير على المتلقي والاستجابة لانتظاراته، إذ تكون الغاية وراء ذلك هي سرد الأحداث ثم إعادة إنتاج قيمتها الحقيقية، للوصول في الأخير إلى الدقة في تقديم العمل. والحال أننا – من أجل فهمنا للسينما على نحو دقيق- فإننا نتبنى تفكيرا مغايرا لتفكيرنا إزاء الحياة الحقيقية. غير أن التجربة السينمائية، يتم تقديمها من طرف أصحاب النظرية المعرفية في الإدراك، على أنها مفهومة تماما كاستمرار لتجربة الحياة الحقيقية ؛ وهذا معناه وجوب وجود علاقة خفية بين العالم الحقيقي والسينما (الممثلين، الفضاءات، الحوار…)؛ ثم تميزها – كفن- عن الحياة المحيطة بنا في جوانب أخرى (الموسيقى، التأطير…).
ومن هذا المنطلق، فإن النقطة المحورية هي ما تمثله تلك الصور داخل الشاشة العملاقة، أي أنها تكاد تطابق الواقع، الشيء الذي يحثنا على أن نفهمها -على غير ذاك النحو- الذي نفهم به الحياة الواقعية المحيطة بنا، وبالتالي فإننا – بمشاهدة الأفلام- نخلق معنى وأفقا جديدا مغايرا.
يميز “دولوز” في كتابه الصورة – الحركة بين نوعين من الصورة/ الانفعال العاطفي، وهما: الوجه واللقطة الكبيرة جدا، ثم الكيفيات والقوى والأماكن النكرة.
– الصورة/ الانفعال العاطفي: الوجه واللقطة الكبيرة جدا
إن التأثر الصرف الذي يعبر عن حالة الأشياء، يحيل فعلا إلى وجه يعبر عنه (أو إلى وجوه عديدة)، وهو ما يعبر عن التأثر، وهو يُرى ككيان مركب . وفي هذا الصدد يمكن أن نقول إن لهذه التأثيرات أشكالا عديدة (سلبية، إيجابية، تقبل، رفض، تماهي…)، وفي نفس الصدد يؤكد ”لينهارت” كرهه للقطات المقربة والتي تحيله على نفس الوجه ، أي أن كل الوجوه – بالنسبة إليه- تتشابه عندما يتعلق الأمر بلقطة كبيرة أو كبيرة جدا. وبتعبير آخر، فإن هذا يعني أن الوجه في اللقطة المقربة لا تؤثر فيه لا ذاتية الدور، ولا شخصية الممثل، ومع ذلك لا يتساوى الممثلون، فإن كان هناك وجه ذا تميز ما، فهذا راجع إلى تمايز أجزائه المادية، وإلى علاقاتها ببعضها البعض: فهناك أجزاء صلبة وأخرى لينة، وأجزاء معتمة وأخرى مضاءة…
زمن ثمة، فإن التقطيع والمونتاج يلعبان دورا رائدا في التأثير على المتلقي، أي أن اختيار هذه اللقطة دون تلك، ووصلها بأخرى (تأثير كوليشوف)، هو بالضرورة اختيار معلل من طرف المخرج. وهو في نظر – دولوز- نوع من الكشف عن “الكل” المفتوح (المونتاج) المتضمن للقطات، مقاطع ومشاهد.
وقد أعطى “دولوز” مثالا آخر للقطة المقربة الكبيرة جدا وما تحيل عليه من تأثير وانفعال: فإذا كنا أمام لقطة مقربة جدا لساعة حائطية ذات عقربين يتحركان ببطء، فالأمر هنا يشير إلى لحظة تأهب لأمر طارئ سيقع، أو قد تحيلنا على تثاقل الزمن أو ما شابه.
إذن، – وحسب التعريف البيرغسوني- فإن التأثر يولد عندما يضطر جسم المتلقي إلى التركيز في الاستقبال لانتظار ماذا سيقع، وهو الشيء الذي استشفه هذا المتلقي من خلال تلك اللقطة الكبيرة جدا، سواء أكانت لوجه ممثل أو لساعة حائطية، واللتين تخلقان لديه التأثير العاطفي.
وتحضرنا أمثلة لأفلام اتخذ مخرجوها اللقطة الكبيرة جدا اختيارا معللا في تقطيع الفيلم لخلق الانفعال العاطفي، ونذكر على سبيل المثال، أفلام الويستيرن، مثل فيلم “حدث ذات مرة في الغرب” للمخرج “سيرجيو ليوني” سنة 1968، حيث كانت الممثلة “كلاوديا كردينال” فور نزولها من القطار في لحظة خوف ودهشة في مكان مقفر، الشيء الذي يعلل اختيار المخرج للقطات الكبيرة جدا، لكي يبئر ملامح “كلاوديا” ويخلق انفعالا لدى المتلقي، يجعله يطرح أسئلة من قبيل: من تكون تلك البطلة؟ ومن أين أتت؟ ولِمَ علامات الخوف بادية على محياها؟ وما مصيرها في هذا الخلاء؟
إضافة إلى ذلك، فتقطيع الفيلم ككل اعتمد على لقطات مقربة، سيما منها الكبيرة جدا والمكبرة، أي تلك اللقطات التي تنفي المكان المحيط وتُلغيه لتبئر فقط الوجه والملامح، مما يتيح لنا كمتلقين أن نرصد تلك الملامح عن قرب ثم خطوات أبطال الفيلم، الشيء الذي سيساهم –لا محالة- قصصيا وسرديا وجماليا في تأثر المتلقي مع عنف الأبطال القتلة والتماهي مع المقتولين.
إذن، وكما سبق أن أشرنا إلى ذلك، فإن “دولوز” يرى أن اللقطات المقربة توحي لنا بالشعور/ الشيء، أي الصورة/ الإنفعال العاطفي، ذلك أن هذا الأخير ينتزع الشخصية من مكانيتها وزمنيتها لتبدو قسماتها وتفاصيلها هي الأهم في اللقطة. وفي هذا الصدد، ينتقد “إيزنشتاين” السينمائيين الآخرين أمثال “غريفيت” و”دوفنجكو” نظرا لإخفاقهم أحيانا في لقطاتهم المقربة، لأنهم ربطوها بالحيثيات الزمكانية الخاصة بمكان معين وببرهة معينة، ولم يصلوها بالعنصر الذي يظهر في الوجه أو في التأثر العاطفي .
وتأسيسا على ذلك،، فإن الانفعال العاطفي يتحقق انطلاقا من التفاصيل دون المكان أو الزمان الذي يؤطرهما، سواء تعلق الأمر بالوجه (لقطة كبيرة جدا) أو بالقسمات والملامح والأشياء الأخرى المنتمية لما هو بروفيلمي ( لقطة مكبرة).
-الصورة/ الانفعال العاطفي : الكيفيات والقوى والأماكن النكرة
ينطلق “بالاز”، في تحديده للانفعال العاطفي من المقولة التالية: “إن الهاوية هي سبب وجيه للدوار، ولكنها لا تفسر تعبير الوجه” . وهذا معناه أنه يميز بين نوعين من التأثر: الهاوية سبب الدوار، ثم ملامح الوجه في لقطة مقربة؛ و هما معا يفضيان بالمتلقي إلى تخمين ما سيقع، فالمكان هنا يحيلنا على الشعور بالخطر إذا ما اقترنت لقطته بلقطة مقربة لشخص ذي ملامح مشدوهة و خائفة. أما “دولوز”، فيرى أنه من المؤكد أن الكيفيات/ القوى تلعب دورا استباقيا ، لأنها تهيئ الحدث الذي سيتبلور – فيما بعد- إلى معنى يؤثر على المتلقي عاطفيا. وهذا معناه أن لـ”الهنا” و”الآن” (الزمان/المكان) تأثيرا ثانيا على المتلقي، لأنهما يؤطران الممثل داخل فضاء ما، ويتعلق الأمر باللقطات المتوسطة والعامة التي تخص الفضاء المحيط، كما تهم أيضا الشخصية.
وخلافا للقطات المقربة (الكبيرة جدا والمكبرة) التي تفضي إلى انفعال صِرْف، وتكون المادة الوحيدة التي تخلق هذا التأثر( وجه يتصبب عرقا، ملامح مشدوهة…)، فإن اللقطة المتوسطة والعامة ذات تأثير مزدوج، زماني ومكاني في نفس الآن: ثمة لقطة مقربة للمخرج ”مانويل دو أوليفيرا” تتمثل في وجهين بشريين متأملين، ويظهر في عمق الحقل حصان يصعد درجا، ويدل على التأثيرات الناجمة عن خطفه لعاشقين تصطحبهما كوكبة موسيقية . إن هذا التركيب يتبلور في الهنا والآن، وينبغي علينا كمتلقين أن نميز الكيفيات/ القوى التي أثرت في الوجهين ليعبرا لنا عن الانفعال العاطفي (التأمل والتـأثر)، فاللمعان والهلع والحنان.. هي صفات وطاقات لشعور أو عاطفة أو حالة.
إن الزمان/ المكان يتطابق مع عاداتنا اليومية، وممارساتنا، واحتياجاتنا، ورغباتنا ومخاوفنا، وتوقعاتنا… وكلها جزء من وجودنا باعتبارنا كائنات “تشعر” و”تنفعل” داخل صيرورة هذه الحياة، أي أنها تشكل بالضرورة ما هو حسي وانفعالي وحركي فينا، داخل إطار زماني/مكاني معينين؛ ومعنى هذا، أن السينما تتيح لنا أفقا ديناميا يتمثل في الزمن والحركة اللذين يفضيان، في النهاية، إلى معنى وإحساس وانفعال.
في الفيلم البريطاني الأسترالي “النجم الساطع” للمخرجة جان كابيون سنة 2009، وهو فيلم عاطفي رومانسي بامتياز يحكي قصة حب بين الشاعر “جون كيتس” وحبيبته “فاني براون”، حيث اشتغلت المخرجة على تقطيع على نحو منسجم مع المحكي الفيلمي، يجعل المتلقي يدخل إلى عالم البطلين، ويفتش عن حلمهما في الالتقاء معا رغم صعوبة الظروف، وسعي أحدهما للاكتمال في حضور الآخر. وهنا نستشف خوف البطلة على حبيبها، علاوة على معاناة ”كيتس” وهو يحتضر؛ وذلك وفق تقنية تقطيعٍ للقطاتٍ مقربة إلى متوسطة حطمت بنية السرد الخطي رغم خطية التوضيب واتسامه بالقطع الحاد، وهي تقنية عملت على تشابك الزمان والمكان والشخوص، حيث يتم الانتقال من اللقطة المقربة إلى المتوسطة فالعامة، مع رؤية تتداخل بين الموضوعية والذاتية .. وهذه كلها عوامل جعلتنا كمتلقين نتماهى مع شخصيتي الفيلم الرئيسيتين وندخل عوالم المحكي.
وانطلاقان من ذلك،، يصعب الحديث عن تلقي فيلمي خارج الفضاء كمكون جمع، وهو الشيء الذي تحدده سلمية اللقطات، من خلال المزج بين الموضوع والتأطير والمسافة والزاوية وعمق الحقل، والإضاءة، إذ يبدأ العقد الفيلمي الأول، حسب المنظرين السينمائيين الأوائل، مع مستوى الصورة، ومنه إلى اللقطة كمحدد فضائي مرتبط بالمنظور والكاميرا ثم المونتاج وانتهاء بالعقد السردي.
إن الفضاء الفيلمي في فيلم “النجم الساطع” يتجاوز أيضا “داخل الحقل البصري” إلى خارجه، اعتمادا على تقنية التناظر الحقلي، ومنه إلى اللامرئي (خارج الحقل)، الذي يكون محجوبا عن نظر المتلقي وسمعه أو عن أحدهما، وفي أحايين كثيرة يكون تأثير خارج الحقل أكثر حضورا وقوة من خلال مناجاة البطلة لحبيبها في غيابه.
ومن خلال هذا المثال، تتجلى مختلف منظومات الانفعالات الشديدة الدقة والتفرد التي يكون فيها المكان عنصرا مهما في الانفعال العاطفي إلى جانب تقاسيم الوجه المعبر عنها باللقطات الكبيرة جدا.
من التأثر إلى الفعل
تُخالف الصورة/ الفعل – تماما- الصورة/ الانفعال العاطفي، أي أن ما تصوره العدسة من أشياء داخل فضاء معين يعتبر هو فعل من المبدع نحو المتلقي، وينجم عن هذا انفعال مثالي ينافي واقعية أو شبه واقعية المشهد.
ومن هذا المنظور، يميز دولوز بين التأثر والغريزة، أي ما أسماه بالفعل الجنيني. ذلك أن الغريزة تعد انطباعا بالمعنى الأقوى للكلمة، وهي بالتالي ليست تأثرا ، بالرغم من اختلاطها بجملة الأحاسيس والعواطف والانفعالات التي تنظم سلوكا أو تفسده. وقد أعطى دولوز مثالا على ذلك ببيت أو بلاد تُحيِّن حقيقة وجغرافية معينة، قد تتواصل كليا أو جزئيا مع العوالم الأصلية سواء كانت حقيقية (صحراء- طبيعة ممتدة..) أو مصطنعة (ديكور في استوديو)، حيث تلعب الشخوص دور حيوانات، فيكون بذلك الرجل المخملي كطائر كاسر، العاشق كتيس والفقير كضبع … لا لأن لهم أشكال هذه الحيوانات، بل لأن سلوكاتهم تشبه الحيوانات، وبالتالي فالمتلقي يسقط على هذه الشخصيات هذا التشابه، ويراها، إذن، بغرائزه التي – يقول دولوز- لا تفتقر إلى الذكاء. وهذا ما تشير إليه الفيلموسوفي التي تذهب إلى أن العقل السينمائي يسمح للمتلقي بمعايشة الفيلم كدراما تنبع من ذاتها، أي أكثر من أخذ الدراما إلى خارج التجربة. والحال أننا نرى الفيلم كما نحن.
دراسة … تلقي الفيلم السينمائي

الكاتب : جميلة عناب
بتاريخ : 11/11/2017