درس التاريخ في المدرسة المغربية الواقع والمأمول

تسعى هذه المساهمة النقدية إلى إماطة اللثام عن جوانب إبيستيمولوجية وديدكتيكية في الدرس التاريخي الملقن لتلامذة المغرب في المدارس العمومية وفق البرنامج التربوي الذي وضعته الوزارة الوصية على هذا القطاع، وتوجهات الدولة الرامية منه إلى ترسيخ روح المواطنة الهادفة، والوعي بأهمية هذا الدرس في تثبيت الهوية المغربية، وربط أواصر الماضي بالحاضر، وبناء راهنية تستجيب للتحولات التي شهدها المغرب في الآونة الأخيرة.غير أن هذه الدروس الملقنة، ولشدة الأسف،لا تنتج سوى معرفة تراكمية أكثر منها منهجية تهدف إلى شحذ الذاكرة بطرق تغيِّب دور الناشئة على إنتاجها والمساهمة في بنائها؛ فالمطلوب إذن هو إنتاج معرفة تاريخية رصينة وفق ضوابط علمية تستجيب لروح المنهج التاريخي المعاصر، وانتظارات الدولة كما نصت على ذلك الرؤية الاستراتيجية (2015/2030) مما سيرتقي بدرس التاريخ إلى مستوى درس أكاديمي-مدرسي سيتفاعل لامحالة مع روح المنهاج التاريخي والمقاربة الابستيمولوجية المعتمدة في عملية البناء النظري التاريخي.ولعل هذايستدعي من المدرس شحذ أدوات معرفية ومنهجية تمكنه من نقله نقلا ديدكتيكيا يحافظ على جوهره وثوابته، مما سيمكنه من المساهمة في بناء مجتمع حداثي وديموقراطي يساير المجتمعات الصناعية المتقدمة التي خطت خطوات متقدمة في هذا المجال. هذا يعني أن تكوين وتأهيل التلميذ فكريا يتطلب من المدرس تدريبه على منهجية التفكير التاريخي من خلال تزويده بمنهجية تمكنه من تحصيل تلك المعارف عوض تقديمها له بشكل جاهز، وبكيفية رتيبة تجعل الدرس التاريخي لايحقق الأهداف المنشودة.إننا بهذا الصدد نطمح إلى مدرسة يُدرَّس فيها تاريخ نقدي لا حدثي، وهذا التاريخ النقدي يستلزم شحذ وسائل تهم النبش في أركيولوجية المعرفة التاريخية بأدوات ووسائل حديثة.
ومن هذا المنطلق يمكن أن نطرح عدة تساؤلات ظلت عالقة إلى أمد طويل؛ منها هل يستجيب درس التاريخ في المدرسة المغربية لخصوصيات النهج التاريخي (التعريف-التفسير-التركيب)؟ وماذا عن عملية التحقيب الموظفة فيه؟ هل المعرفة التاريخية الملقنة في المدارس المغربية تسعى إلى بناء مواطن واعٍ بأهمية ماضي أجداده، ومنه الاعتزاز بوطنه دون عُقد الماضي، أم أنها وسيلة لحشو الأذهان غالبا ما تنتهي فعاليتها بعد نهاية السنة، وفي أحسن الأحوال عند الحصول على شهادة النجاح؟ ألا يمكن القول إن الإصلاح الجديد في الجامعة أجهز على مكون التاريخ لاسيما وأن العديد من المدرسين غير متخصصين في التاريخ بل أتوا من حقل آخر هو الجغرافيا؟ ألايمكن القول إن استثمار المعرفة التاريخية المتراكمة من لدن أكاديميين وجامعيين، منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا، بإمكانه تجديد مضامين الدرس التاريخي، لاسيما وأن دولا أوربية قطعت أشواطا كبيرة في هذا الصدد، ونجحت في إعادة الاعتبار لحضاراتها؟ كيف يمكن بناء معرفة تاريخية نظرية تستجيب لخصوصيات المنهج التاريخي، وتوجهات الدولة المسطرة في الكتاب الأبيض والاستراتيجية التربوية والنموذج التنموي الجديد التي تراهن على مدرسة صالحة وتلميذ منتج ومدرس فاعل في أفق 2030 في ظل مقررات دراسية غير متجددة؟
واقع التاريخ المدرسي :
سبق للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، أن نظما ندوة دولية في موضوع “تدريس تاريخ المغرب وحضارته:حصيلة وآفاق” وهو عمل رائد شاركت فيه نخبة من الأكاديميين والممارسين التربويين في المدرسة المغربية حيث أغنوا مضامينها وأبانوا عن غيرتهم الحادة تجاه حالة الدرس التاريخي ونواقصه، وذلك من خلال كشفهم لعيوب طالت المنهج المعتمد في تدريسه، وإبرازهم لمحدودية بعضٍ من مضامينه. فمنهم من قدم دراسة نقدية شملت المضامين، ومنهم من ربط عجز الدرس التاريخي في بناء مواطَنة صالحة وهادفة، وآخرون انكبوا على معالجة الموضوع ديدكتيكيا ومايطرحه من مشاكل بالنسبة للمدرس والمتمدرس في ظل غياب أو ندرة الوسائل الديدكتيكية. واليوم عندما شرعت الوزارة الوصية وبتعليمات رسمية في إصلاح برنامج مادة التربية الإسلامية، فهذا لايعني إطلاقا أن الثغرة مرتبطة بالبرنامج نفسه، أو في نوع تكوين مدرسيها، وإنما مرد ذلك إلى كونه لايستجيب لانتظارات الدولة الحديثة، وخصوصيات العصرالكونية، وأخلاقيات وقيم التسامح الديني وأدبياته التي يجب أن تنبع من المدرسة لتترسخ في المجتمع بشكل لايتناقض مع المواثيق الدولية وخِيارات بلدنا.
لن نبالغ إذا قلنا أن مقررات التاريخ المدرسي ستلقى حتما نفس المصير باعتبارها لاتربي في الناشئة وعيا وقيما قادرة على مساءلة ماضيه لفهم حاضره؛ هذا الحاضر لايمكن فهمه بدروس تعود بنا إلى الفترة الوسيطية، ولكن بمعرفة راهنة تسلط الضوءعلى وقائع وأحداث فجر الاستقلال ولهذا فلا أحد اليوم من خريجي الجامعة قادر على فهم حاضره والتنبؤ لمستقبله بناء على المعرفة التاريخية التي تلقنها في مساره التعليمي.
إن مثل هذه التساؤلات الجريئة وغيرها لايزال الجواب عنها رهين وثائق ومحفوظات الأرشيفات الأجنبية والوطنية، وهي مادة مصدرية لايمكن لأستاذ بإمكانياته المادية المتواضعة أن يحج إلى مواطنها،لأنها تتطلب منه تكلفة مادية وعناء فكريا يرى أنه في غنى عنهما أمام تحديات العمل الذي يرهقه، وهاجس المقرر الملزم بإنهائه في وقت محدد وبتعليمات رسمية عمودية. يبقى الطرف الوحيد الذي بإمكانه تجديد هذه المضامين هم الساهرون على وضع البرنامج المدرَّس،وطرف آخر لايقل أهمية عن الأول، وهم الأكاديميون الذين أنجزوا أطاريح جامعية تجيب عن تساؤلاتنا، والتي بإمكانها إغناء الدرس التاريخي. لكن ماهو مآل هذا الزخم المعرفي الذي أنتجه هؤلاء منذ فجر الاستقلال؛ بدءا بأطروحة جرمان عياش وأحمد التوفيق ومحمد حجي والمنوني والعربي مزين وغيرهم من خيرة نخبة الجامعة المغربية.
إن مصادر الدرس التاريخي في المقرارات الدراسية لا تتجاوز ما كتبه الناصري والمراكشي وأبي زرع الفاسي وغيرهم ممن كان لهم الفضل في تقديم مضامين تعد اليوم مادة كلاسيكية قابلة للنقد، يعجز الأستاذ ومعه التلميذ على فهما ونقدها نقدا تاريخيا بناء؛ فزمن هؤلاء المؤرخين ليس هو زمن التلميذ وحتى يتقرب هذا الأخير من لغة هؤلاء، يستلزم ذلك تكوين مدرسين قادرين على نقل المادة المصدرية نقلا ديدكتيكيا صحيحا، وهذا لن يتأتى على يد أساتذة أتوا من حقل الجغرافيا . إن الأزمة المعرفية تظهر، وبشكل كبير، ونحن نلقن لتلامذتنا دروسا تهم الفترة الوسيطية خاصة عندما يتعلق الأمر بتدريس تاريخ دولة المرابطين والموحدين؛ فالمصادر المعتمدة في بناء هذه المعرفة تسلط الضوء على العنصر العربي وتمجده في حين تستثني الأمازيغ، كمكون من مكونات الهوية المغربية في صناعة التاريخ وعلى الدور البطولي باعتبارهم لاإسهامات لهم في بناء الحضارة المغربية. ولعل علتهم في ذلك أن المكون الأمازيغي لم يقدم إسهامات ثقافية يمكن اعتمادها كمصدر تاريخي لبناء المعرفة التاريخية التي تهم هذه الفترة، وهو تصور خاطئ إذا كانت المقاربة المعتمدة من لدن هؤلاء مقاربة ثقافية محضة بعيدة عن التصور الشمولي الأنثربولوجي لمفهوم الثقافة.
وبناء عليه فالمعرفة التاريخية الخاصة بهذه الفترة تستلزم مراجعة المضامين الملقنة نظرا لاختلاف الروايات عند مؤرخي هذه الفترة؛ فهذا مؤرخ يدافع وآخر يناوئ وبعضهم يحايد. كما أنه بات من المفروض تنويع المصادرالمعتمدة في بناء المضامين واعتماد كتب الرحلات الأجنبية والتقارير الاستخباراتية والروايات الشفوية التي تنهل منها الأنتربولوجيا، وهذا لن يكتب له النجاح إلا باعتماد مقاربة تاريخية-انتربولوجية في تقديم الدرس التاريخي.

الدرس التاريخي في المدرسة المغربية بين تحديات الراهن وخصوصيات المنهج :

ألزم الميثاق الوطني للتربية والتكوين الساهرين على وضع برنامج التاريخ الخاص بالأسلاك التعليمية الثلاثة ضرورة تجديد وتجويد مضامين الدرس التاريخي؛غيرأن ماتم إنجازه لم يتم تحينه على مستوى المنهج؛ إذ تغيرت المضامين والعناوين في حين ظل المنهج جامدا، خلافا لما حدث في دول أوروبية التي أصبحت مناهجها تستجيب لمتطلبات “التاريخ الجديد”الذي أفرزته أزمة العلوم الإنسانية والظرفية الراهنة التي أصبحت عليها أوروبا بعيد الحروب والأزمة الاقتصادية الكونية. وقد كان الشغل الشاغل للساهرين على وضع هذه البرامج المغربية تكييف مضامين درس التاريخ مع متطلبات الفترة الراهنة، وذلك بصياغات كفايات وقدرات يصعب أجراتها مع نوع المادة الملقنة والطريقة التي تلقن بها وغياب تكوينات مستمرة، وهذه أزمة أخرى تتعلق بنوع التكوين الأساس الملقن للأساتذة المتدربين، والذين تخرج منهم العديد مازال بعضهم يقدس الطريقة الإلقائية في التدريس باعتبار التاريخ مادة حفظ دون منازع، مما أفسد لدى الناشئة آليات التفكير والحجاج والمساءلة وأفقدهم الحس النقدي والقيمي، وهو مايعيق تأقلمها مع الوضع الراهن. فالعديد منهم يتصور هذه المادة مثل تواريخ وأزمنة لحروب ولت، وعمران خرب، واتفاقيات وقعت، ناسين بذلك أن المطلوب منهم هو تكوين تلاميذ قادرين على إنتاج وبناء معرفة تاريخية علمية ورصينة، وهذا لن يتم إلا بتنظيم هذه المعرفة تنظيما يسهل معه فهمها واستيعابها وتوظيفها في وضعيات تعليمية وتعلمية جديدة، وهو ما أخفقت فيه المدرسة بجميع مكوناتها عندما حاول المغرب اعتماد بيداغوجيا الإدماج فكانت النتيجة الفشل الذريع، مما عجل بتوقيف العمل بها وترحيل مبتكرها البلجيكي “كزافيي” والعودة إلى رحاب بيداغوجيا الكفايات، التي قيل حولها الشيء الكثير والتي ظل مآلها حبيس التنظير.
إن غياب بيداغوجيا أصيلة ووطنية، والسهر دائما على استعارة النموذج البيداغوجي الأوروبي هو سبب الإخفاق والفتور والنداء دائما بمقولة الإصلاح؛ ففرنسا عندما اعتمدت النموذج “الجديد” في تدريس التاريخ كان بسبب أزمة العلوم الإنسانية، والمنهج العلمي الموظف فيها، كما أن ميلاد مدرسة الحوليات التي قادها فيرناندبروديل راجع بالأساس إلى آثار الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة (1929) على أوضاع فرنسا وعلاقتها بالمستعمرات، مما يعني أن مثل هذه الأحداث التاريخية قد عجلت بالعمل في حقل الإبستيمولوجيا أولا والتطبيق على مستوى التنظير التاريخي في مرحلة لاحقة. إن العديد من الدروس الملقنة لتلامذتنا تتغيب فيها المفاهيم المهيكلة للحقل التاريخي والتي نشترك فيها مع جميع الدول؛أخص بالذكر هنا( الحركة ، المجتمع ، الزمن ، الماضي الفكري والاقتصادي والسياسي والعسكري…. ) وحتى إن حضرت فالتلميذ ليس بمقدوره استيعابها في المرحلة الثانوية من تعلمه، فالدراسات السيكو-تربوية تجمع اليوم على أن مثل هذه المفاهيم لا تُستوعب إلا في المرحلة الإعدادية انسجاما مع مراحل نمو الطفل.

إشكالية التحقيب التاريخي في دروس التاريخ المدرسي:

اعتمد الساهرون على وضع برنامج التاريخ على تحقيب كلاسيكي دون مراعاتهم للخصوصيات التاريخية للدولة المغربية، وإذا كان هذا التحقيب المعتمد ناجعا في تقديم دروس تاريخ أوروبا وأمريكا فإنه مع الدروس التي تهم التاريخ الإسلامي وتاريخ المغرب والمشرق العربي أقل نجاعة نظرا لخصوصيات هذه البقاع. فالمقرر الدراسي المغربي في جميع الأسلاك التعليمية يغطي جميع الحقب حيث تم توزيعه وفق تحقيب كلاسيكي يشمل (القديم والوسيط والحديث والمعاصر)، مع تغييب الراهن، الذي يعد اليوم موضة الأبحاث التاريخية اللهم إلا إذا استثنينا درس “الدولة المغربية الحديثة”، الذي يدرس في السنة الختامية من السلكين الثانوي الاعدادي والثانوي التأهيلي.
إن التساؤل الجوهري الذي يمكن أن نطرحه هنا مرتبط بمدى إمكانية إدماج تاريخ الدولتين المرابطية والموحدية ضمن التاريخ الوسيط. فهذه الحقبة تبتدئ في أوربا مع سقوط روما سنة(467م) وتنتهي بفتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح سنة (1453م)، ففي السنة الأولى سقطت روما ومعها أمجاد الامبراطورية الرومانية، وفي السنة الثانية سقطت القسطنطينية ومعها نهضت أوربا وانطلقت موجة فكرية، وهنا نسجل أن التاريخ الأوربي لم تتوقف عجلته ولم تعد القهقرى.
إن الحدود الزمنية للعصر الوسيط الأوربي لها ما يبررها، أما في حالة الوسيط المغربي فالسنتين المذكورتين ليس لهما وقع يذكر بالنسبة لتاريخنا، مما يصعب معه إسقاط الوسيط الأوربي على الوسيط المغربي. وبالتالي ففي الوقت الذي ولدت فيه مفاهيم تاريخية نتيجة الأحداث التي شهدتها أوربا (كالإنسية وصكوك الغفران والإصلاح الديني والثورة الفرنسية والثورات القومية ورجال الدين…)ولدت في المغرب مفاهيم نتيجة ما شهده من أحداث الصراع بين المخزن والرعية، وهي مفاهيم تختلف اختلافا تاما عن المفاهيم الأوربية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، شاع في المغرب مصطلح “الجهاد” الذي يقابله في أوروبا مفهوم “القرصنة”، وفي الفترة المرابطية والموحدية تطور هذا المفهوم وطابقه مفهوم “حروب الاسترداد” كما أن مفهوم “الحروب الصليبة” كما يدرس عندنا يقابله “الحروب الدينية” و”شيوخ الزوايا والفقهاء ” يقابلهما “رجال الدين” كما أن مفهوم “المخزن” تقابله “الدولة”و غيرها من الأمثلة. إننا أمام معضلة منهجية ونظرية في نفس الوقت مما يجعل المدرس ومعه التلميذ في حيرة من أمرهما. إن غياب مدرسة تاريخية وطنية تطرح إشكال تحقيب ناجع يستجيب لخصوصيات دولتنا، وهذا التحقيب لايمكن إنتاجه وتفعيله إلا باستثمارالأطاريح والمونوغرافيات التي أفرزها البحث التاريخي منذ فجر الاستقلال، وبالحديث عن الجهوية الموسعة كورش مغربي تتوخى منه المملكة النهضة والتحديث فإن الحاجة تزداد إلحاحا إلى كتابة تاريخ جهوي يدرس باختلاف الجهات، فأحداث سوس ليست هي أحداث فاس وهلم جرا.
يسعى درس التاريخ الملقن في المدرسة التاريخية إلى تعريف المتعلم بالصفحات المشرقة لتاريخ بلاده وتفادي الحديث عن المظلمة منها، فهي دروس لاتسلط الضوء على المهمشين.إن التلميذ المغربي محتاج اليوم إلى ضرورة التصالح مع ماضيه، فمن خلال تجربتي كمدرس سابق لمادة الاجتماعيات بالسلك الإعدادي أسجل، وبارتياحن ملامح الطمأنينة وأنا أدرس موضوع “الدولة المغربية الحديثة”، فعندما أتوقف عند نقطة سنوات الرصاص والاختفاء القسري أسجل غضبا جاما في محياهم، لكن مباشرة عندما أذكرهم أن هذه الأحداث ثم تجاوزها بواسطة عمل “هيئة الإنصاف والمصالحة” الهادفة إلى التصالح مع ضحايا هذه الأحداث وطي صفحة الماضي وعدم تكرار ماجرى تتغير ملامحهم بفعل هذه البادرة الطيبة. إن التاريخ بهذا المعنى عبرة للحاضر ودعامة لبناء المستقبل دون ترسيخ عقد الماضي؛ لكن هذا التاريخ يجب أن يستحضر كل شيء إنه “التاريخ المفتت” بلغة “فرانسوا دوس”. هناك نماذج أخرى لابد من تفتتيها لتقريب التلميذ من الواقع والتأقلم معه “فالمولى عبد الحفيظ” الذي اضطر غير باغ لتنفيذ أوامر فرنسا لايجب أن نلومه إلا بعد قراءتنا لمخطوطتيه “داء العطب قديم” و “براءة متهم” التي يبرز فيهما دواعي وحقائق توقيع معاهدة فاس( 1912 م). كما أن المغاربة اليوم يجهلون حيثيات الاستقلال، كما سبق وأن أشرت،لأن جزءا من تاريخنا هو اليوم رهين الأرشيفات الأجنبية وحبيس وثائقها، ونفس الشيء يهم الحديث عن حرب الريف، وهو الحدث الذي لايمكن مقاربته إلا برفع الحصار المفروض على الأرشيف العسكري الإسباني مع الإشارة إلى أن محاولة جرمان عياش في أطروحته حول “حرب الريف” تظل كتابة وطنية يِعاتب فيها المرحوم اسبانيا ويدافع عن محمد بن عبد الكريم الخطابي ولايقدم رؤية تاريخية نقدية.
كخلاصة لما سبق فإن حضور المكون الكرونولوجي في الدروس الملقنة لايعني تحقيبا بقدر ما يفيد أنه عنصر من عناصره، لاسيما وأن هذا العنصر غير واضح المعالم بسبب عدم أو قلة اعتماد الدعامات الديدكتيكية التي تسهل على التلميذ فهم واستيعاب مفهوم الكرونولوجيا، وبالتالي التموقع داخل منظومة التحقيب. كما أن تقديم حقب جاهزة منذ بداية الدرس يجعل التلميذ يحس أنها موجودة فعليا وليس مبنية ذهنيا مما يلزمنا بضرورة بناء نموذج ديدكتيكي نظري في موضوع التحقيب، وهو أمر صعب بما كان لخلو المكتبة العربية من هذه المادة مما يزيد إلحاحا بضرورة استعارة النموذج الغربي. وقد قُدمت اقتراحات بهذا الصدد تروم إلى إنجاح هذه العملية رغم أن هذا البنيان سيظل هشا في غياب رؤية استراتيجية تلح على ضرورة أجرأة هذه النماذج، وقد اقترح الباحث الديدكتيكي محمد صهود بناء تحقيب تاريخي يستحضر ثلاث مكونات منها استقراء الخطاب التاريخي، وتحديد الأسس المنهجية التي وظفت بشكل واع أو لاواع في عملية التحقيب، والثانية تهم الجانب الإبستيمولوجي من خلال قراءة ومراجعة أمهات المصادر والمراجع التي تناولت هذا موضوع، في حين تركز الثالثة على الجانب البيداغوجي الذي يتم فيه النقل الديداكتيكي للمعرفة العالمة.
يتبع

*إطار تربوي وأستاذ باحث في التاريخ الديني وانتربولوجيا الثقافة


الكاتب : ربيع رشيدي*

  

بتاريخ : 10/06/2021