دلالات الْحِكَم ِالمكثفة ومشارف الاستعارات الممتدة : شذرات» كقبضة يد» للشاعرة ثريا وقاص

حين يصوغ المبدع لوحاته الشعرية داخل عمل إبداعي معين، فإنه يستقيها من عناصر عديدة يستحضرها من مرجعيته الثقافية التي تمنح تجاربه الشعورية مناخا جديدا، وهو إذ يستدعي اللغة الشعرية، يحاور الوجود ويبني أكوانا استعارية للممكن الذي يحلم بتحقيقه أو الكائن الذي يرغب بتغيير معالمه وتحريك سكناته.
اللغة تؤبجد الصورة الاستعارية داخل النص، وتجلو معالم الفضاءات والأمكنة، إنها ريشة الشاعر في رسم لوحاته الشعرية التي يلونها بحروف تجاربه الدامية، ويسكب فيها مسار الألم والأمل في حيوات عديدة يعيشها تارة واقعا ويستجدي تارة أخرى المخيال الكنائي والاستعاري لنقلها من عالم التجريد إلى صورها الحسية الحركية المفعمة بالحياة.
تختزن الشاعرة ثريا وقاص في ذاكرتها صورا لتجارب الطفولة وأحلامها النائمة في لاشعور الكتابة الشعرية، ولا توقظها إلا أحلام أخرى لليقظة تصطدم بالأحصنة الراكضة لوقائع الحياة اليومية فتتبدى
بسيطة المبنى، تتوارى خلفها حكم عميقة المعنى، لذلك فأول ما يستحق الوقوف عند جوانبه بالدراسة والتحليل هو مفهوم الشذرة الذي يرتبط ببعض خصائص الكتابة عند الشاعرة التي تملك القدرة على اقتناص اللحظة ودمج أبعاد الزمان والمكان في حيز لغوي مكثف يختزل جوهر الدلالة ويرصد رؤى تجلوها التجربة لدى المبدعة، وهذا الحدس البدئي نتوجس علاماته الأولى من خلال عتبات النص التي تعلن فيها الكاتبة عن الاختلاف الذي يطبع تجربتها الإبداعية مقارنة بتجارب مغربية وعربية عديدة، فهي تعنون منجزها الإبداعي ب»كقبضة يد»، وتسمه بالشذرات الشعرية، لذا فالعتبة إحالة قبلية على بعض خصائص الكتابة الشعرية التي تتسم بالتكثيف إذ القصيدة هنا تتقلص ولا تتمدد تختزن أكثر مما تقول، وهذا ما تفصح عنه نظرة استطلاعية أولية أثناء تصفح العمل الإبداعي.
الشذر لغة في لسان العرب لابن منظور»قطع من الذهب يلقط من المعدن من غير إذابة الحجارة، والشذر أيضا صغار اللؤلؤ، شبهها بالشذر لبياضها، وقيل هو اللؤلؤ الصغير، واحدته شذرة»، يظهر جليا هذا التصنيف تميز التجربة الشعرية وغناها، إذ تستبطن الأندر والأجدر في مساحة لغوية مقتضبة، وكأنها تمتثل للقولة الشهيرة» ما على ثمنه وخف وزنه» وهو شذرة الذهب الذي لا ترى الشاعرة عيبا في أن تكون تجنيسا يكسبه فرادة عن غيره من الأعمال المختلفة.
هذه الدلالات تتسق ورغبة الشاعرة في تحميل اللغة باقتصاد شديد، أكثر المعاني حتى لتعدو آلية انتقاء الحرف والكلمة شحيحة دقيقة البحث في المعجم عن ما يبلغ المراد دون إطناب وبإيجاز ذكي الاختيار،بليغ التصويب، تحول فيها الشاعرة القلم مجسا لقياس نبضات هذا العالم المرئي والغائب في كهوف الوجدان الإنساني.
يحبل هذا العمل بالعديد من القيم الإنسانية التي تضمرها حكم إنسانية مستقاة من تجارب مختلفة، وهكذا نلمح جليا حضورا لبعض النجمات التي تلوح بها الشاعرة عاليا في سماء الإنسانية وكأنها تريد بعثها من جديد: الطيبة، السخاء القناعة الرضى عن النفس الشجاعة دهشة الطفولة الأولى…………….
تقول في ص:9
الطيبة
قطعة من الشمس…
تتسلل برقة
إلى القلوب الباردة
فتدفئها
وتقول في ص: 12
الإنسان السخي مالا
حبا
صداقة
يختلق كل حين
مناسبات للعطاء
البخيل….
لا وقت لديه

حتى أنها لتنعي الوجود الإنساني في هذا المقطع قائلة:
في هذه الدنيا
كل واحد منا
عبارة عن حبة رمل صغيرة
في صحراء شاسعة…
وتلك الحبة الصغيرة
ستبكي عليها الصحراء
إن هي غابت.
وهو نعي أقرب إلى الرثاء، الذي تفجع في حتمية النهاية وعبثية الحياة ووجود الإنسان.
وعلى امتداد تجوالنا بين صفحات المتن لا نصادف إلا حكما وجودية حينا وأخرى فلسفية حينا آخر وكأننا نستمع إلى سقراط الذي قال: «الحكمة لله وحده وعلى الإنسان أن يجد ليعرف، وفي استطاعته أن يكون محبا للحكمة، تواقا إلى المعرفة، باحثا عن الحقيقة»،وهي طريق تسلكها الشاعرة بانتباه شديد فنراها تعصر من التجارب الحياتية بوصلة يهتدي بها القارىء إلى دواليب المعنى تقول في ص:28
من يغمض عينيه عن الحاضر
سيفتحهما له المستقبل
وتقول كذلك في ص47:
الصداقات التي غابت
ثم عادت
علينا أن نفتحها
بحذر وحرص شديدين
كباب بيت مهجور
منذ سنين
وهي في كل هذا تحذرنا من تجاهل الأخطاء، أو تلوين الأسود بالرمادي، عينها متقدة ترصد كل الوقائع وتحاول صوغ تعاريف لمفاهيم ظلت تشغل الفكر الإنساني على مدار سنين خلت، كالماضي الذي تربطه بالحنين:
تقول في ص:29
الماضي هو الحنين
هو صديقنا الحميم
هذا الذي فهمناه جيدا
وفهمنا
والتعاسة التي تربطها بغياب الرضى في التعامل مع الهبات وفرص السعادة التي تقدمها لنا الحياة،تقول في ص55:
التعاسة هي
ألا تعرف كيف تأخذ
كل ما تمنحه
الحياة لك
وإيمانا منها بضرورة تحقيق الأحلام فهي تدعو إلى عدم تأجيلها لأن ذلك لا يسهم إلا في تفاقم مبدأ التكاثر للإحباطات المتكررة، لاسيما وأن الحظ هو الآخر يقف وسط الطريق وقد يعود أدراجه خائفا حين يرى أننا صنعنا له أبوابا ووقفنا أمامها ننتظر، وهو الحظ نفسه الذي يغتال أحلام شباب اليوم الذين يرسمون ملامح الحلم كقارب طفل من ورق يطفو عائما فوق الماء قبل أن يبتل ويغرق وهذه الأحلام هي التي يفضل معظمنا أن يستوطنها حتى لا يوقظه واقع يومه الحزين،تقول في ص 55
يستيقظ الحزن قبلنا
ليسبق الفرح الكسول
الحالم
إلى كرسي النهار
لأجل هذا
يفضل معظمنا
الأحلام على اليقظة
وهي الأحلام ذاتها التي تغدو حية تغازل أيامنا بعد تحقيقها لكنها تؤجل إلى ما بعد الفقد، فتفقد نكهة الانتصار لأننا ضيعنا في طريق الوصل إليها الكثير من القيم وتجرعنا مرارة الآه، تقول في 59:
قال لي يوما
محارب قديم في باريس
وكانوا قد علقوا له وساما:
«لا شيء أثقل علي من هذا الوسام
وكأني سرقته
من كل أولئك الذين كانوا معي وما عادوا»
ثم لا تلبث الشاعرة تختزل الحياة كلها في هاته التي نسميها محطات صعود وهبوط متواصل لسيرورة لحظات نمر بها منذ الولادة حتى الموت تقول:
بين الولادة والموت
لا يحصل الكثير …..
التعثرات نفسها
ونحن نتعلم المشي

بين الولادة والموت
هناك فقط براءتنا الضائعة
هذا الجري المتواصل للقبض على لحظات فرح ضائعة، أو قابعة خلف حلم يفر هاربا كلما لمحنا نقترب منه،لذلك علينا الحرص على عدم السقوط في هذا الطريق، لأن لاشيء تحفظه الأذهان مثل السقوط.
في شذرات ثريا وقاص سباق مسافاته متقطعة، يلحق بالأمل، ويعشق الحياة ببراءة وحب الأطفال الصغار، بحث دؤوب عن قلب دافىء،وطريق لا يضيعه صاحبه في مفترق الطرقات التي نفقد داخلها الطمأنينة وتلازمنا الحسرة لأننا سلكنا الدرب الخاطىء.ومن ثمة لا يبقى للشاعرة سوى كلمات وكتب
تبحث فيهما عن يد نجدة تنقذها من عالم بئيس تلونت فيه الحقائق بالمكائد وغابت فيه القيم النبيلة لأن حامل الكتاب، هو في واقع الأمر حامل فانوس يضيء به عتمة الوجود حتى لا يسقط في حفر التفاهة التي تحيط بعوالمنا، هروب مثالي إلى المحتمل والمتخيل، الذي تبنيه استعارات تمتد لتشمل المقطع الشعري كاملا.ففي كتاب «الاستعارات التي نحيا بها»،تحضر الاستعارة على أنها»ليست مسألة لغوية فحسب،إنها ترتبط بالفكر فحسب، بل إنها تتضمن كل الأبعاد الطبيعية في تجربتنا، بما في ذلك المظاهر الحسية في تجاربنا، مثل اللون والهيئة والجوهر والصوت، وهذه الأبعاد لا تبنين تجربتنا المحسوسة فحسب، بل تبنين تجربتنا الجمالية أيضا»، وهذا ما تسعى الشاعرة إلى خلقه في نصوصها، إذ ترسم خطاطات مزج تصورية لعوالم متداخلة تحاول أن توجد بينها نقط التقاء تقيم من خلالها مبدأ المشابهة الذي يخلق الحياة في الصورة الشعرية، ويبنين رؤية فكرية خاصة للأشياء والموجودات، وما يميز الاستعارات داخل النص هو قدرتها العجيبة على التوسع عبر سطور المقطع الشعري حتى تشمله كاملا فلا تتضح ماهيتها إلا بانتهائه، ومن بين هذه الاستعارات نستقي بعض النماذج للدراسة من قبيل:
استعارة الكتاب/ المصباح
تقول: داخل كل واحد منا
غرف مهجورة
منزوية في أقصى الوراء
حتى أننا لا نكاد نراها…
وشيء واحد يستطيع أن يأخذ بيدنا
ويقودنا إلى هناك
لنخرج أشخاصا آخرين…
هذا الشيء اسمه
كتاب
أما القراءة فلا ترى الشاعرة حرجا في تشبيهها بالقارة، تقول:
أجمل اكتشاف لي
في حياتي
كان في سن السابعة
لقد اكتشفت قارة
اسمها القراءة
تنبثق عوالم الالتقاء بين طرفي المشابهة هنا في التعبير عن شساعة العوالم، ذلك أن القارات الموسومة جغرافيا بمساحاتها الرحبة ودولها العديدة،هو ما جعلها تحضر مجالا هدفا للتشبيه الذي يعقد مقارنة تتخذ من خاصية اللامحدود وجه شبه،عوالم القراءة اللامتناهية، التي تجعلك تسافر وتجول في رحابها وعوالم القارة الشاسعة ببلدانها ومناطقها التي لا تستطيع الإحاطة بها وإن أدمنت السفر.
هذا الحب للكتابة والقراءة والشعر هو الذي أثرى المخزون الثقافي للشاعرة، وجعلها تتسلح بالكتابة سلاحا لمواجهة تفاهة العالم، ونفض الغبار عن وجهه البائس،فنرى الشعر عندها وسيلة لاسترداد البراءة التي قد نصادفها فجأة في الطريق الممتد ما بين القلب والذاكرة، البراءة التي ضيعناها في سن العاشرة، حين بدأنا نرى وجه العالم القبيح بأعيننا التي تملأها الدهشة.
والحالة هذه تدفع الشاعرة للبحث عن بديل الأسى، وقد تكون يد الحب تربت على القلب فتمنحه الهدوء وتشعره بالآمان، لذلك فهي تستعرض جملة استعارات تحدد من خلالها صفات لأنواع شتى من الحب: الحب/ الهلاك الكبير، الحب الصعب/ مسالك الطبيعة الوعرة، الحب المسامح الذي يغفر الزلات ولا ذاكرة له، الحب الذي يجعل هزيمته انتصارا ليستمر في الحياة، حب الأم الذي يمسح عن وجوهنا غبار الطرقات والمتاعب.
ولا يكون الختام إلا حفنة فرح تنشر الشاعرة عبيرها ليكون باقة أمل تهديها لكل المتفائلين بغد أجمل، للمتسلحين بالصبر، للذين يجعلون صمتهم ضجيجا يبلغ بكل شيء دون كلام،للذين يبحثون عن مفاتيح السعادة ولا يدركون أن أبوابها تظل مفتوحة، للذكريات التي تلتصق بنا وتصبح قطع فرح يمنحنا بهجة، للأمهات اللواتي يبنين ذواتنا كما يرسمن مخيلتنا ويحلمن بمستقبل سعيد لنا، للمرأة الصامدة/ الشجرة التي لا تهرم ولا تشيخ، تصبح قلبا متحركا داخل البيت،ونورا، وظلا أبديا مع مرور الزمن.


الكاتب : ميلودة عكرودي

  

بتاريخ : 06/07/2021