ذاكرة مجموعات الظاهرة الغيوانية بين سرديات التأسيس ورصد آفاق التثمين.. ناقشتها جلسات حوارية مع الرواد خلال مهرجان ظاهرة المجموعات بالحي المحمدي

 

تشكل الظاهرة الغيوانية جزءا لا يتجزأ من التراث الفني والثقافي في بلادنا اليوم بعد أن شكلت ولادتها الجنينية الأولى نهاية الستينات، وانطلاقتها الفعلية بداية السبعينات من القرن الماضي إعلانا عن نمط غنائي شعبي جديد عمل رواده الأوائل على استثمار المخزون الثقافي الشفهي و اللامادي الذي تحفل به عدد من التعابير الفنية التراثية المغربية، وجعله قاعدة للتأصيل لتجربة غنائية تنسجم وعمق الهوية الجمعية الشعبية للمغاربة وقضاياهم المتعددة بما فيها الاجتماعية والسياسية. و هو ما أفرز ممارسة ثقافية فنية داخل المشهد المغربي حضرت فيها الفرجة المسرحية بالتعبير القولي الغنائي، وبأدوات وآلات موسيقية تنطق بالانتماء للتربة الثقافية المغربية شكلا ومضمونا. ضمن هذا السياق ومن أجل استنطاق تجربة التأسيس لمجموعات الظاهرة الغيوانية، والوقوف على مدى ممكنات استمرار هذه الأخيرة كمعطى تراثي أصيل، انعقدت على هامش مهرجان ظاهرة المجموعات الذي نظم في دورته الثالثة من طرف مقاطعة الحي المحمدي بالدار البيضاء ببعض الفضاءات العمومية بتراب نفس المقاطعة ما بين 20 و 25 غشت 2024 جلسات بوح حواري بمنتزه بشار الخير، وهي اللقاءات التي أشرف على تنسيقها بالأساس الإعلامي والكاتب عبد الله لوغشيت إلى جانب مشاركة الزجال والمسرحي فريد لمكدر والإعلاميين العربي رياض وأحمد طنيش.
وقد شكلت هذه الجلسات التواصلية مناسبة حاول من خلالها رواد مؤسسون لمجموعات الظاهرة الغيوانية، بالإضافة إلى مثقفين وإعلاميين وفاعلين من المجتمع المدني وشهود عيان على انطلاقة هذه التجربة الفنية، الحفر في ذاكرة هذه الأخيرة بحثا عن الإمساك ما أمكن بمعالم من مسار البدايات وصولا إلى استشراف الممكنات الحالية الكفيلة بضمان استمرار هذا المشروع الفني الذي أصبح معطى بنيويا في مشهدنا الثقافي المغربي منذ عقود من الزمن. وانسجاما مع رغبتنا في جعل هذه التغطية الصحفية ذات أنفاس تفاعلية أكثر مع أفرزته تلك اللقاءات من نقاش والذي تفاعلنا مع جزء كبير منه حضوريا وجزء آخر عن بعد اعتمادا على بعض التسجيلات البصرية المنشورة من طرف المصور الموثق منير لطيفي لفائدة من أراد تتبع فقرات المهرجان إلى جانب ما تحصلنا عليه في هذا الباب من طرف الكاتب الإعلامي عبد الله لوغشيت، أمكن الوقوف إجمالا على ثلاثة محاور أساسية شكلت أرضية مؤطرة لأحاديث هذه الجلسات. أولا، سنجد أن الحديث عن مساهمة المسرح في ولادة فكرة تأسيس مجموعات الظاهرة الغيوانية قد احتل مساحة مهمة داخل أنفاس قول الخيمة الحوارية، ذلك أن أغلب الرواد المؤسسين لهذه الأخيرة أمثال بوجميع و العربي باطما وعمر دخوش الروداني وعبد العزيز الطاهري وعبد الكريم القسبجي ومحمد باطما و محمد حمادي وآخرين هم في الأصل نتاج زخم مسرحي و فني اضطلعت به مجموعة من الهواة في الستينات بالمغرب مثل فرقتي الإنارة الذهبية ورواد الخشبة بالحي المحمدي بالدار البيضاء أو مجموعة شبيبة الحمراء بمراكش، قبل أن يعطي انخراط أغلب هؤلاء في التجربة المسرحية للطيب الصديقي التي راهنت على مسرحة أشكال من الفرجة الشعبية المغربية التراثية فوق الخشبة، دفعة قوية لجيل من الشباب المؤسس حينها لوضع تصور مشروع فني جديد ينبني أساسا على إنتاج ممارسات غنائية ترتبط عضويا بعمق الهوية المغربية في بعدها التراثي والشعبي تعبيرا وقولا وفرجة كما أشرنا سلفا. وحري بالذكر أن نقاشات الجلسات الحوارية خلال هذا المحور أكدت على عمق حضور المسرح في التجربة الغنائية للظاهرة الغيوانية، حيث شكلت هنا مجموعة تكدة مثالا قويا على تجربة فنية تقاطع فيها الغناء بالتمثيل والتشخيص المتناغم مع الثقافة الشعبية للجماهير المغربية في شكلها الما قبل المسرحي، والذي سينتج بدوره زخما من المسرحيات التي لا تزال حاضرة في وجدان ذاكرة المتلقي المغربي مثل مسرحية الشيكي وباعلال. وهي أعمال تم إنجازها بمشاركة أعلام كان لها حضورها القوي في مشهدنا المسرحي لسنوات عديدة أمثال الراحلين مصطفى سلمات ومصطفى الداسوكين والراحلة الأيقونة ثريا جبران. هذا بالموازاة مع مساهمة عدد من رواد الظاهرة في تأليف أغاني مسرحيات عديدة كمسرحيتي «مكسور الجناح» و «البغلة هذا شهرها» للراحلين تباعا عبد السلام الشرايبي وبوجميع والتي قام بإنجاز موسيقاها حمادي أحد أعضاء فرقة لمشاهب. (جزء من مداخلات المسكيني الصغير و فريد لمكدر و حمادي وعبد الكريم القسبجي). أما المحور الثاني الذي ظهر كمحرك لأحاديث جلسات خيمة البوح الحواري تلك فهو المداخلات التي ذهبت في اتجاه رصد قيمة المنجز الغنائي للمجموعات المؤسسة للظاهرة الغيوانية ودلالاته بالنسبة للمتلقي المغربي ، سواء في ما يتعلق بشرطية القول الزجلي الناطق في عمقه بمكنونات الهوية المغربية في تعبيراتها الشعبية المتنوعة عربية كانت أو أمازيغية أو حسانية وغيرها، أو في ما يرتبط بأشكال الغناء المنجزة داخل المنجز الفني لمجموعات الظاهرة الغيوانية كل حسب خصوصياتها واختياراتها الفنية سواء التي تأسست في السبعينات أو الثمانينات من القرن الماضي مثل السهام و مسناوة و مجموعة إيكيدار، مستفيدة في ذلك أساسا من التنوع الثقافي الذي شكل ميزة طبعت الحي المحمدي بالدار البيضاء أحد الفضاءات التاريخية المؤسسة لولادة الظاهرة الغيوانية في بلادنا، ما أفرز في الأخير منجزات فنية بمتون قوية على مستوى الكتابة اضطلع بإنجازها عددا من أعلام الظاهرة أمثال عبد العزيز الطاهري و الراحل بوجميع، وبأغاني صالحت الجمهور الشعبي في بلادنا مع مساحة واسعة من تراثه الفني وهويته الجمعية الثقافية و قاربت قضاياه المختلفة بنبرة احتجاجية، بالإضافة إلى ما رافق ذلك من بروز نوع من التمايز في زخم الإنتاج الفني لتلك المجموعات الرائدة، كمثال مجموعة مسناوة التي اختارت معانقة الأنفاس الغيوانية ببصمة مسناوية تلاحمت مع النغمات الفنية التراثية المنبعثة أساسا من روابي وبوادي منطقة الشاوية أو مجموعة إيكيدار التي فضلت المتون الأمازيغية العميقة الدلالة واللحن القوي لإنتاج نمطها الغيواني . (جزء من مداخلات بلحاج واحمان المدير المالي السابق لناس الغيوان وفتاح عضو مجموعة مسناوة و خالد مشفيق وعبد المجيد مشفيق عضوي مجموعة السهام والإعلامي أحمد طنيش و إسماعيل السملالي عضو مجموعة إيكيدارو فريد لمكدر).
المحور الثالث الذي ظهر كمؤطر هو الآخر لنقاشات جلسات البوح الحواري، هو استشراف آفاق استمرارية الظاهرة الغيوانية الآن كتراث ثقافي مغربي، انطلاقا من ما تمت الدعوة إليه من ضرورة الترافع لتسجيل فن الظاهرة كموروث مغربي على المستوى الدولي إسوة بالمجهود الذي بذل في هذا الإطار على مستوى فن الملحون، مع العلم أن جزءا آخر من النقاش أكد على ضرورة تأسيس جمعية ثقافية لتكون حاضنة و مجمعة لأصوات رواد الظاهرة أنفسهم في بلادنا وفاعليها الحقيقيين قصد جعلها هيأة منظمة تستطيع الترافع من أجل صون ذاكرة ما تمت تسميته بالحركة الغيوانية، والمضي بها نحو أقصى درجات التثمين والاستمرار، بعيدا عن الخطاب المناسباتي والجهود الفردية المهدورة إن صح التعبير خصوصا، إذا ما واكب هذا طموح واضح لجعل هذا المهرجان يتم تنظيمه في إطار مؤسسة قائمة الذات بمشروع ثقافي وإداري وبدعم مالي مؤسساتي من طرف المؤسسات العمومية المعنية يسمح بهوامش واسعة للمشاركة من طرف كل غيور و معني بالظاهرة الغيوانية من الحي المحمدي أو خارجه. مع العلم أن صيحات أخرى نادت بضرورة انخراط منابر الصحافة والإعلام المغربية في مواكبة منجزات مجموعات الفن الغيواني سواء منها الرائدة أو الحديثة التأسيس نسبيا كمجموعة جورة و أولاد السوسدي قصد خلق إشعاع مستمر للمنجز الفني الغيواني، علما أن هذا الأخير و من خلال تجربة ناس الغيوان نجح في معانقة العالمية مبكرا بعد ان اختار المخرج العالمي مارتن سكورسيزي الموسيقى الغيوانية كجزء من عمله السينمائي المعروف «آخر إغراءات المسيح». هذا مع ما تمت الإشارة إليه أيضا من ضرورة الانفتاح على الوسائط الرقمية الجديدة لتكون مرجعا لتوثيق و التعريف بالمنجزات الفنية للظاهرة قديمها وحديثها لصالح الأجيال الصاعدة خصوصا إذا ما تم ربط هذا كله بمجهودات واضحة لتكوين شباب اليوم وتأهيله معرفيا وفنيا قصد ضمان استمرارية ما نسميه نحن بأنفاس التراث الغيواني.(جزء من مداخلات عبد الله لوغشيت والعربي رياض والكاتب والإعلامي حسن نرايس وعبد المجيد مشفيق والفاعل السينمائي المصطفى العروسي).
ويبقى من الأهمية بمكان تثمين هكذا محطات ثقافية في مشهدنا المغربي ودعمها إيجابيا لتنخرط مستقبلا في دينامية العمل المؤسساتي الحاضن لكل الطاقات الثقافية والفنية من أبناء و بنات المجتمع المدني المنتمين لجميع ربوع الوطن طالما أن القاعدة القيمية للمغاربة المؤصلة لقيم الشفافية والنزاهة ونكران الذات والمواطنة الحقة هي شروط موضوعية وقيمية ستسمح لا محال بتعزيز انخراط كل الغيورين على الهوية الثقافية المغربية ضمن مشروع ثقافي شامل كل من مساحة تدخله، ليس للحفاظ فقط على الظاهرة الغيوانية كتراث وطني مغربي وجب تعزيز إشعاعه على المستوى الدولي و إنما لجعل الظاهرة نفسها أرضية للاستثمار التنموي المستدام عبر خلق تنشيط ثقافي لصالح الجماهير المغربية تحضر فيه النقاشات الفكرية لورشات التكوينية والدراسات البحثية والإبداعات الجديدة للفن الغيواني و الأنشطة السوسيواقتصادية بشكل متناغم في أفق جعل الظاهرة الغيوانية فعلا ثقافيا و تثقيفيا مستمرا في الزمان والمكان،  ومستجيبا للتوجيهات الملكية السامية الداعية إلى جعل تراثنا الثقافي و اللامادي رافعة حقيقية لتحقيق التنمية المجالية.


الكاتب : سمير السباعي

  

بتاريخ : 29/08/2024