ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب، مرة أخرى

أثار صدور رواية “الآيات الشيطانية” للكاتب سلمان رشدي ردود فعل قوية، لاسيما بعد إصدار الخميني فتوى، تدعو إلى قتل المؤلف، بتهمة المس بالمقدسات، ومقابل هدية مالية سخية تدفعها إيران. وقد أدى الجدل الواسع حول الرواية إلى نشوب معركة فكرية، أدبية، وسياسية في ساحة الفكر العربي. ودافع الباحث محمد صادق جلال العظم على حقيقة الأدب، وحرية التعبير، مناصرا حقّ رشدي في الإبداع، وفي الحياة، وعدّ كتابات النقاد العب، في مجملها، هجوما على رواية، لم تقرأ، وهو ما يمثل، في نظره، “ذهنية للتحريم، وعقلية تعتمد التجريم ومنطق التكفير وشريعة القمع”.
ونقف في هذا المقال على أهم الأفكار التي ناقشها جلال العظم، للكشف عن جوانب من أزمة النقد العربي، في مواجهته لخطاب التكفير، الذي يهدد حرية الفكر والتعبير.

1-بعض مشكلات نقاد رشدي أو “انتقاد نقد النقاد”

صدرت فتوى الخميني في حق الأديب سلمان رشدي، في سياق يستهدف الفكر النقدي والتقدمي، ويتسم باستهداف الأفكار التنويرية، من خلال “عمليات اغتيال المفكرين والمثقفين العزل التي أخذت تمارسها قوى الاستبداد السياسي ونزعات الانغلاق الديني وحركات التعبئة الإيديولوجية الظلامية-القروسطية”، وبموازاة هذا الهجوم، يستغرب صادق جلال العظم انخراط الكتاب العرب في الهجوم على كاتب، مهدد بالقتل. بل أنهم أصدروا أحكاما على عمله الأدبي رواية الآيات الشيطانية بطريقة فجّة، تعاني من “مشكلات بدائية معيبة” في النقد، ومن أهمها:
1-1: الهجوم على كتاب لم يقرأ
يتهم الدكتور أحمد برقاوي رشدي الأديب بـ”الصبيانية، والجهل، وضيق الأفق، والغباء”، وتتضمن أحكامه هجوما، يصدر عن باحث محترف، مع أنه يعترف اعترافا كاملا وصريحا، بأنه لم يقرأ الرواية؛ بل سمع عنها من هذه الإذاعة أو تلك. إن هذه الطريقة في النقد تستهين بعقل القارئ، ولا ترقى إلى مستوى عمل طالب مبتدئ. والنهج نفسه، سلكه المفكر هادي العلوي، الذي صنّف الرواية عملا “استشراقيا تم توريط رشدي في تأليفه”؛ بل ذهب أبعد من هذا، إذ أدخلها في باب “الكتابات الصهيونية…”. وهذه الأحكام تنم، في نظر جلال العظم، عن جهل بمحتويات الرواية، وبأدب رشدي الذي ينتصر للشرق الذي يجهد لتحرير نفسه من جهله وأساطيره وخرافاته وبؤسه وديكتاتوريته العسكرية وحروبه الطائفية والمذهبية وهامشيته الكاملة في الحياة المعاصرة” .
ولا يخرج الناقد رجاء النقاش عن منحى تصنيف الرواية، بوصفها عملا استشراقيا، وعلى المنوال نفسه، يسير أحمد بهاء الدين الذي يرى أن الكتاب، صادر عن نفس مريضة، رضيت لنفسها أن تغترب وأن تبيع روحها وتراثها…
يتساءل جلال العظم عن سبب هجوم “الأنتليجينسيا العربية” على كتاب لم تقرأه؛ وهذا يدل على استهتار بالقناعات، وتهاون في المسؤوليات، سيؤدي، لا محالة، إلى بروز عقل تآمري، ينفخ الروح مجددا في طقوس إحراق الكتب، والوقوف الضمني إلى جانب الذين حكموا بالإعدام على سلمان رشدي، باسم الإسلام.
1-2: إلغاء رشدي الأديب
تصر مقالات الكتاب العرب على تحويل رشدي، إلى فقيه، وعالم، ومؤرخ، ومحقق لاهوتي، وواعظ… وعلى إلغاء صفته، أديبا وفنانا وروائيا. ومن هذا المنطلق في النقد، تتهمه بالكذب، والتشويه، وتزييف الواقع، والخروج عن الصدق، وتحدي منطق العقل، ويلخص نبيل السمان هذه الاتهامات، بتعليقه على الرواية، إذ يقول عنها: “رواية خرافية مبنية على أوهام وأساطير لا أساس لها من الصحة… لاحظ لها في الحجة والبرهان… تحلل سلمان رشدي من أي منهج علمي… فروايته أبعد ما تكون عن التاريخ وأقرب إلى الوهم والخرافة”، ويتساءل سيد أشرف عن انفجار الطائرة التي كانت تقل بطلي الرواية، فوق سماء لندن: “هل يعقل أن يسقط بشر من طائرة على هذا الارتفاع الشاهق ويصل الأرض سالما؟”.
يرى جلال العظم أن هذا النقد مصيبة؛ لأنه يجعل الإنسان، يدافع عن حقيقة الأدب، بوصفه خيالا وإبداعا وبناء خاصا، في مواجهة مثقفين، يفترض أنهم ينتمون إلى أمة، تفتخرُ بأن الشعر ديوانُها، وحتى نقاد الأدب القدماء، نظروا إلى الأدب، بوصفه تعبيرا فنيا وجماليا.

2-في نقاش ما أثاره حضور “المقدس” في “الآيات الشيطانية”

تحتوي رواية سلمان رشدي “الآيات الشيطانية” على مجموعة من الإشارات القوية، التي تحيل على التراث العربي الإسلامي، إذ يتضمن العمل توظيفا فنيا، لمجموعة من العناصر؛ “آيات قرآنية”، شخصية الرسول محمد، زوجاته وبعض صحابته…في البناء الروائي. وقد أثار هذا التوظيف حفيظة النقاد، إذ رأوا فيه، إمّا مسّا بمقدسات دينية، وإمّا تشويها لحقائق تاريخية.
2-1: الآيتان الشيطانيتان أو ما يعرف “بحادثة الغرانيق”
يعرض محمد صادق جلال العظم لحضور الآيتين في التراث العربي، وذلك من خلال ما يخبر به محمد الكلبي، في كتابه “الأصنام”، إذ يذكرُ بأن قريشا، كانت تنشد هاتين الآيتين، عند طوافها بالكعبة، فتقول: “واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى! فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى”، وقد عمرت هاتان الآيتان، حسب الروايات التاريخية، حوالي عشر سنوات، قبل نزول الآية المدنية، في سورة الحج، التي تشير إلى أنهما كانتا من وحي الشيطان، تقول الآية: “وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا تمنى، ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يحكم آياته والله عليم حكيم”. وفي تفسير ابن كثير نجد أن حديث الغرانيق، وجد طريقه إلى التدوين، في بعض مصاحف الصحابة، والحادثة نفسها، يثبتها الطبري، في تاريخه، ويفصل في الصراع الذي دار بين الرسول محمد، والملاك جبريل حولهما .
ويرى جلال العظم أن سلمان رشدي، استند إلى رواية الطبري، على علاتها، وبتفاصيلها، وحولها إلى أدب روائي رفيع؛ إذ أعاد صياغتها صياغة درامية تشخيصية، قوية ومؤثرة. وبناء على استقراء جلال العظم لحضور الآيتين في التراث العربي الإسلامي، يصل إلى خلاصة، مفادها أنه كان من الأجدر، بالنقاد، توجيه اتهامات، الكذب والتشويه والتزييف والدس، إلى الطبري، والزمخشري، وبقية المؤرخين المسلمين؛ لا توجيهها إلى سلمان رشدي.
2-2: تسمية إحدى شخصيات الرواية “ماحوند” أو “ماهوند”
انتقى سلمان رشدي اسم “ماحوند” من التاريخ المسيحي القروسطي، وكان هذا الاسم، يُستعمل لتحقير شخصية النبي محمد. ورواية رشدي، توظف فنيا، هذا اللقب التهمةَ، لأن الشخصية في الرواية تسعى إلى إثبات ذاتها؛ فالمستعمر الأوروبي الأبيض ينعت الأفارقة بالسواد، فيرد الإفريقي: “أنا أسود، وفخور بسوادي”، والمحتل الإسرائيلي، يستخدم عبارة “عربي”، ويقرنها بكل ما هو منحط وخسيس، فيرد العربي ثائرا: “سجل أنا عربي”…
2-3: توظيف شخصية “سلمان الفارسي”
يقدم سلمان رشدي شخصية “سلمان الفارسي”، بوصفه أحد كتبة الوحي الأذكياء الذين تسرب الشك إلى نفوسهم، حول المصدر الإلهي، لما كان يمليه “ماحوند” من آيات عليه، فيعمد سلمان إلى تغييرها، لتثبت أنه لا وجود لوحي. ويرى جلال العظم أن الروائي عمد إلى دمج شخصيتين بارزتين في تاريخ الإسلام؛ هما سلمان الفارسي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ليبنيَ الشخصية الروائية، وينحدر سلمان الفارسي من فارس، وكانت ثقافته عالية، بحضارات الشرق القديمة، وتذهب بعض الروايات المتداولة إلى أنه شارك النبي في كتابة الوحي، أما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فقد كان من كتبة الوحي، فبدأ يحور، ما يتلوه عليه الرسول، ففطن به وأفتى بقتله، ثم تدخل عثمان بن عفان، وهو أخوه بالرضاع، وفداه من القتل .

3-“الآيات الشيطانية”؛ امتداد طبيعي للتشكيك بالمقدس، والإلحاد

3-1:التشكيك في المقدس
إن رشدي الروائي بإثارته لموضوع “التشكيك في المقدس”، لا يعمل سوى على الإفصاح عن تراث تشكيكي قديم ، ويستقي، من أمثلته التاريخية، نموذجَه الروائي؛ ويشير صادق جلال العظم إلى تشكيك عائشة في الوحي، بعد زواج النبي من زوجة ابنه بالتبني، زينب بنت جحش، بقولها له : “وما أرى ربك إلا يسارع في هواك” ، احتجاجا على الآية: “وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي أن أراد أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين”، ولا يفوت رشدي الإشارة إلى قبول عائشة بالوحي؛ لأنه جاء لصالحها في حادثة الإفك الشهيرة.
ويحيل صادق جلال العظم على الخلاف حول الوحي نفسه، وحول النصوص القرآنية المتداولة في التاريخ الإسلامي؛ ومن ذلك ما ورد في “فهرست” ابن النديم، و”كتاب المصاحف” لأبي داوود السجستاني، بأن مصحف أبي بن كعب، احتوى على مواد إضافية، غير موجودة في مصحف عثمان، كما أن مصحف عبد الله بن مسعود لم يحتو الفاتحة والمعوذتين، ونفى المعتزلة سورة “المسد” من القرآن، كما أن الخوارج نفوا سورة “يوسف” بكاملها ، وتدعي بعض المصادر الشيعية حذف السور التي أوردت ذكر علي وآل البيت؛ مثل: سورة “النوران” وسورة “الولاية”…. إن سلمان رشدي لا يكذب هذه المعطيات والروايات، ولا يصدقها؛ بل يتخذها مادة تراثية خاما لينشئ أدبا.
3-2:الإلحاد والسخرية بـ”المقدس”
يرى صادق جلال العظم أن أدب معارضة المقدس، وفكرة إنكار المقدسات ملازمة لتاريخ المجتمعات، وهي جزء من الفكر الإنساني، ففي الأوساط الشعبية، تبدأ معارضة المقدس، بلعن الآلهة، وسب الدين والسخرية منه، ونجد هذا في النكتة الشعبية، وفي الحياة اليومية، أما أمثلة المعارضة التاريخية فكثيرة؛ إذ نجد ما يروى الخليفة الأموي الوليد، وما ينسب من أبيات لأبي العلاء المعري الذي يروى أنه عارض القرآن، بكتاب عنونه “الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات”، وعندما لم يجد فيه الناس طلاوة القرآن، سخر منهم، وطلب منهم أن يصلوا به في المحاريب أربعمائة سنة، ولينظروا كيف يكون، ورفض ابن الراوندي القول بإعجاز القرآن، كما عارض الرازي عقيدة إعجاز القرآن…
وانطلاقا من عرض هذه المعطيات التاريخية الحافلة، يصنف جلال العظم رشدي، ضمن “التقليد الهجائي-الأدبي الفكري-المعارض للمقدس”، وهو، بهذا، استمرار لهذا المسار في الفكر الإسلامي والإنساني.

4-أدب سلمان رشدي استمرار للفكر النهضوي

4-1:الفكر تحت نير محاكم التفتيش في العالم العربي الإسلامي
ليس جديدا أن يتفجر النقاش في العالم العربي الإسلامي حول كتب، وكتابات حداثية ومعاصرة، تناولت المقدسات بالمراجعة العقلانية، فقد أثارت كتب علي عبد الرازق، وطه حسين، ونجيب محفوظ، وجلال العظم… ضجّات كبرى، وتعرض مفكرون مثل؛ نجيب محفوظ، ومحمد خلف الله، وعبد الله العلايلي، ومحمود محمد طه، وغيرهم، لشتى أنواع الضغوط والمحاكمات واتهامات بالردة والتكفير وهدر الدم. إن “الآيات الشيطانية” امتداد لنقد معرفة ماضوية؛ من حيث هي نقد لحضارة تعيش على ماضيها، ومن ثمة، لا غرابة في أن تستقبل بطقوس حرق الكتب، لاسيما أنها صدرت، بموازاة رغبة الخميني في أن يتحول إلى حاخام عالمي عابر للقارات عن طريق إصدار الفتوى.
اختار أدبُ سلمان رشدي أن يسير في مسار الحداثة، من خلال إجابته عن أسئلة، تتردد بين الشباب في الجامعة، أو في حياته اليومية، تتعلق بمعتقده وبتراثه. إنها تعبّر علنا، عن هواجس الإنسان المعاصر، الذي لا يعرف كيف يتعامل في أواخر القرن العشرين، مع كمية هائلة من الروايات الإسلامية، والقصص، والمنقولات التراثية، المليئة بالخوارق والعجائب والمفارقات واللامعقولات… وهذا النوع من الأسئلة وغيرها، يحتاج بدلا من المنع والقمع، إلى المناقشة الجدية، لتذليل إشكالات ثقافية واجتماعية وفكرية، تمتد في الحياة اليومية المعيشة.
4-2:سلمان رشدي يبعث أدب التنوير من جديد
لقد بينت رواية رشدي بوضوح صارخ أن الأدب ما زال باستطاعته أن يفعل سياسيا، وأن يحرك ثقافيا؛ فالرواية كشفت، بأبعادها الفنية وتوجهها الحداثي، عن الخلل في العقل الاجتماعي المتخلف. ومن ثمة، لا يمكن فصل الرواية عن الأدب التنويري، الذي يتميز بالأصالة الفكرية والابداعية، التي تسعى إلى تقدم البشرية، ومواجهة الجهل والخرافة. الرواية تمنح مساحات للعقل من أجل الشك، لهذا فهي ترعب المؤسسات الجامدة التي تصنع الجهل، وترعاه. ومن ثمّ، فهي ترقى إلى مستوى الأدب العالمي الذي أبدعه رابلي وجويس وغيرهما من أدباء التنوير.
يقارن صادق جلال العظم بين أدب سلمان رشدي وأدباء ساخرين من المقدس:
أ-سلمان رشدي وفرانسوا رابلي: يجمع بين الأديبين إبداعهما أدبا تنويريا، يهدف إلى فضح “حقائق” موروثة عتيقة، وبعث روح النقد والتشكيك في هذه الحقائق؛ فقد وجه رابلي سهام نقده إلى دين مسيحي متخشب، ولى زمنه بتعقيداته اللاهوتية، وتعميماته الغيبية اللامعقولة… ووجه رشدي أدبه النقدي الساخر إلى روحانية إسلامية متكسلة؛ بل متحجرة في تقوقعها الماضوي. والأديبان معا يتسلحان بأدوات إبداعية، تتخذ من وسائل البهرجة، والفلكلور تقنيات بلاغية، لزرع أسئلة التشكيك في قلب تقاليد مجتمعية وفكرية آيلة للسقوط.
ب-سلمان رشدي وجيمس جويس: لقد نعت رشدي، مثله مثل جويس، بأبشع النعوت؛ من قبيل: “القذارة”، و”الخسة”، و” الأدب الصادر عن نفس مريضة”… وتعرض أدبهما إلى المنع والمصادرة؛ إذ تحول جويس إلى إيرلندي منفي في باريس، ملعون من سلطات الكنيسة، وهذا ما يعيشه رشدي في لندن، كلاهما يرتبط بمدينة جامعة؛ الأول بدابلن، والثاني ببومباي. استلهم جويس في “عوليس” الأساطير اليونانية، ونسج من قوالبها رواية، تنتقد الواقع، ونسج رشدي من التراث الإسلامي عوالم، تنتقد تناقضات التفكير المتخلف، في روايته “الآيات الشيطانية”. أعلن جويس أن الله ليس سوى صرخة في الشارع، وصرخ رشدي في وجه تدين، تطغى عليه الحرفية المتزمتة. إنه رفض ضمني للخضوع، و الانصياع للسحرة والكهنوت، ولهيمنة فكر يكرس التبعية إلى الآخر في التفكير.

خلاصات:

جلال العظم يكشف “فضيحة الثقافة العربية”:
نعتت منى زياد ما أقدم عليه المثقفون العرب اتجاه رواية “الآيات الشيطانية” بـ”الفضيحة”؛ إذ دفعتهم “الهستيريا الجماعية” إلى عدم احترام أبسط مبادئ الفكر، وأدبيات النقد، ويعكس هذا الوضع الثقافي حالة الضياع والهزيمة اللذان يعيشهما الفكر، ويعبرُ عن إفلاس روحي للتيارات السياسية التي أصبحت تقبل بالذيلية لدار الجهل والتجهيل، وتراجع للوعي المدني، ممّا يجعل الثقافة، وهي تسحب منطق العقل، تخسر مواقعها صالح الخرافة والدجل. ويفسر عزيز العظمة هذا الوضع، باستقالة النقد من مهمته في البحث عن الحقيقة؛ ممّا جعل الصمت يخيم على الثقافة العربية، ويتحول المفكرون إلى “حراس لهذا الصمت”، بل إن عمل المثقفين أصبح ينحصر في المجاملات، ويعكس تراجعهم عن الدفاع عن قضايا العقل والتقدم. ويفسر محمد المير هذا الوضع المتردي للثقافة والمثقفين، بالافتقار إلى المنهجية الموضوعية في النقد. ويصف رياض نجيب الرايس الوضع الحالي للفكر العربي بالمعركة، التي تدور رحاها في زمن، يبقى فيه البحث عن “لا” في عصر “نعم”، سلاحا، للدفاع عن قيم عقلية، كلف الثقافة العربية اغتيال سهيل طويلة ومهدي عامل وحسين مروة وفرج فودة…دفاعا عن قيم التنوير والعقلنة ، فالغرب الرأسمالي يحرك إسلاما نكوصيا ظلاميا يرتد على كل قيم الإصلاح والتنوير، ويكرس خطاب “الإسلام صالح لكل زمان ومكان”، وهذا يجعل التفكير صعبا في زمن التكفير، فالإنسان العربي، في ظل غياب تقاليد الديموقراطية في الفكر والسياسة، تحول إلى “حيوان ديني”، وهنا سقطت صفة السياسي التي أطلقها أرسطو في تعريفه الشهير للإنسان.
يرفض جلال العظم فكرة تمييز الإسلام عن باقي الأديان، من حيث الوظيفة؛ فقد “أصبح الإسلام الإيديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه (السعودية، أندونيسيا، باكستان)، والمرتبطة صراحة ومباشرة بالاستعمار الجديد الذي تقوده أمريكا… وأصبحت المؤسسات التابعة له من أحصن قلاع الفكر اليميني والرجعي” .
إن الدور الرجعي والمحافظ للدين، في نظر العظم، لا يقتصر على زمن دون زمن، أو مرحلة زمنية دون أخرى، فـ”الدين بطبيعته مؤهل بطبيعته ليلعب هذا الدور المحافظ”، ومن هنا، لا يقف جلال العظم عند ما عرف في الأدبيات الماركسية-لاسيما العربية منها- ب”التوظيف الرجعي للدين من طرف الطبقات السائدة”؛ بل يرى أن هذا الدور الرجعي، ينطلق من طبيعة الدين الذي “لعبه في جميع العصور بنجاح باهر عن طريق رؤياه الخيالية لعالم آخر تتحقق فيه أحلام السعادة وواضح أن هذا الكلام ينطبق على الإسلام كما على غيره من الأديان” . ويعارض جلال العظم فكرة التوفيق بين الدين وروح العصر، أو بينه وبين العلم، أو حتى إلى طمس هذا التعارض، يقول في هذا السياق: “إن محاولة طمس معالم النزاع بين العلم والدين ليس إلا محاولة يائسة للدفاع عن الدين، يلجا إليها كلما اضطر الدين أن يتنازل عن موقع من مواقعه التقليدية أو كلما اضطر لأن ينسحب من مركز كان يشغله في السابق”.
وانطلاقا من هذه المعطيات، يبني جلال العظم فرضية عن الصراع القائم في مجتمعاتنا، إنها معركة “العلمنة والتقدم” ضد “الذهنية الدينية والعقل الغيبي”، وهنا، يلوم التيارات التقدمية؛ لأنها أغفلت الدين، بوصفه أحد المكونات المهمة في الثقافة الرجعية، وتخلت عن رسالتها، المتمثلة في: “كشف بؤس الفكر ناقش جلال العظم في كتاب “ذهنية التحريم” العديد من القضايا، نذكر منها:
مشكل الترجمة في العالم العربي؛ إذ إن الثقافية العربية، تحبل بترجمات رديئة، هدفها تجاري محض، مما يؤدي إلى بناء أحكام، تستند إلى تأويلات المترجمين.
مشكل الثقافة الشفوية؛ فقد ظل الفكر العربي مرتبطا بهاجس البحث عن الذات، وخائفا من “الفضيحة” أو “الطابوهات”، ولا يعكس ما يتناقله الناس فيما بينهم، وما يعانون منه، فمواضيع مثل: الجنس والدين والصراع الطبقي، هي بتوصيف بوعلي ياسين “الثالوث المحرم”، وهذا ما يدفع مجموعة من الكتاب إلى الكتابة عن هذه المواضيع بلغة أجنبية عوض اللغة العربية، ويجعل الثقافة الشفوية أحد أشكال التنفيس البعيدة عن الدراسة العلمية المكتوبة.
مشكل النظرة الدونية إلى المرأة؛ إذ تختزلُ في الجانب الجنسي، وتخضع وضعيتها المدنية إلى تأويلات نصوص دينية، يبين التاريخ أن المرأة، كانت دائما، ضحية لها.
مشكل تنامي المد الديني الذي يحاصر كل قيم العقلانية والتنوير، ويكرس خطابا لاعقلانيا وظلاميا.
اتخذ جلال العظم رواية “الآيات الشيطانية” قاعدة متحركة، للتطرق إلى قضايا متعددة، ترتبط أساسا بالفكر الديني، وبتأثير الدين في قضايانا المعاصرة. ويؤكد الكاتب في “ذهنية التحريم”، و”ما بعد ذهنية التحريم”، وقبلهما في “نقد الفكر الديني” على ضرورة التعامل النقدي في دراسة الدين، ورفع الحواجز أمام العقل والعلم، لمباشرة قراءة موضوعية لواقع التخلف، الذي يعد الدين أحد مؤسساته المهمة.
إن كتاب “ذهنية التحريم” هو مقاربة لمجموعة من القضايا التي تشغل الفكر العربي المعاصر، فقد وصف جلال العظم كتابه، بأنه مساهمة في “معركة مستمرة ومستعرة في الوقت الحاضر”، وأطرها بسؤال اعتبره مركزيان وهو: “هل لنا الحق كعرب أحياء اليوم في أن نعيد وضع يدنا على التراث…بأي أسلوب من الأساليب نراه ملائما لواقعنا وأحوالنا؟” ويلحّ صادق جلال العظم على ضرورة مناقشة المسألة الدينية والأدبية، في إطار الدفاع عن حرية الفكر والإبداع والرأي، ويقدم الباحث نقد ذاتيا لما يسميه “استخفاف الخطاب اليساري والممارسات اليسارية بأشياء مثل المجتمع المدني وحقوق الإنسان والمواطن والحريات العامة والعلمانية…”.
والخلاصة أن الخطاب الإطلاقي الذي يدعو إلى العودة إلى الدين، ويُلبس رؤيته السياسية قناعا دينيا، لخدمة مصالحه، لا يمكن مواجهته إلا بتعليم الناس السياسة، حتى لا يظلون، كما يقول لينين: “ضحايا ساذجة يخدعهم الآخرون، وأن يتعلموا استقراء مصالحهم ومستقبلهم بين اسطر الخطب والبيانات والمواعظ والدعاوي الدينية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية .


الكاتب : إبراهيم العدراوي

  

بتاريخ : 17/08/2022