رؤية تعليمية متقدمة على ضوء رواية «الغد والغضب» لخناتة بنونة

بأسلوبها الروائي المائز، تناولت الكاتبة بشكل مستفيض معضلة التعليم في روايتها هاته، في وقت مبكر باستحضار زمن كتابتها (1984)، فقد وضعت الأصبع على جل ما يعتريه جسمه من اختلالات لا تزال إلى اليوم مثار جدل بين الفرقاء المتدخلين في العملية التعليمية.
وشغل التعليم حيزا هاما في الرواية بحوالي ستين صفحة تقريبا، إيمانا منها بأن التعليم هو أساس الغضب الواعي وقاطرة التغيير الحقيقي، أما دونه فتؤكد أن “الغضب الارتجالي يحرق نفسه دون بخور”. فمقاربتها كانت ثورة حقيقية سابقة على زمانها من عدة أوجه نذكرها كالآتي:

الأولى: الصداقة بين المعلم والمتعلم

فأول ما أكدت عليه هي مسألة ردم الهوة بين المعلم والمتعلم بقولها “مسبقا يجب أن أوضح الصلة بيننا: فنحن أصدقاء، يجب أن نعي ما ينقصنا”. أعتقد أنها الخطوة الأولى على درب الألف ميل نحو القمة. إنها الأساس الأنسب الذي تبنى عليه بقية العمليات التعليمية. أتصور اليوم حال علاقة الثنائي (تلميذ/أستاذ)، فلو كانت مبنية على الصداقة، فهل يمكن أن تعرف الفصول الدراسية ما نتابعه بين الفينة الأخرى، من عنف يصل لتبادل الضرب والجرح، فضلا عن الشتم والسخرية. أتصور في ظل صداقة حقيقية، كيف سيتم بناء الدروس،
وتداول المعلومات، وكيف ستكون الأجواء طيلة مدد الحصص الزمنية.

الثانية: الطلبة أساتذة أنفسهم

تقول في الرواية “فكرت أن أقترح عليكم: لماذا لا تصبحون على الأقل أساتذة أنفسكم؟ أن تكونوا المعلم والمتعلم في نفس الآن”، وزادت موضحة بقولها حتى تربط النظرية بالتطبيق، “حثهم على البحث الشخصي، وإغناء التجربة، والانطلاق من اللاشيء لخلق كل شيء”. أليس ما تتحدث عنه الكاتبة في هذا التاريخ المتقدم، هو ما تروم تحقيقه البيداغوجيات الحديثة، في ما يعرف بالتعلم الذاتي والتعلم مدى الحياة. قال لها مرة أحد مفتشيها، “لقد أحدثت في التعليم أكثر مما تحاول فرنسا مؤخرا، أن تدخله من ثورة على طرقها التعليمية، وذلك بمحاولة جعل الأستاذ في الظل، ودفع الطالب إلى الأدوار الأولى في الفصول: أنت قد حذفت الأستاذ نهائيا”.

الثالثة: شعارها لا للحفظ

سألها التلاميذ عن الحفظ، فكان جوابها القاطع “لا لا، لا للحفظ و لا للسرد. إني أريد مخاض الفكر. أن تبحث، وتجمع، وتكتب ثم تتمكن مما بحثت عنه، لتقوم الذاكرة واللسان بدورهما”. إنها تستحضر جيدا خطورة المناهج التي تعتمد على ما يعرف ب”احفظ و اعرض”، إنها تعرف أنها مرادفة لشلل الفكر والعقل، إنها لا تهش ولا تنش، إنها تعطيل كامل لحركة عجلة التطور. إنها ترفض رفضا كليا قضية “بضاعتنا ردت إلينا”، أكثر من
ذلك إنها ” كانت ضد حشو الطالب بالنظريات التي لا طائل وراءها على مستوى الواقع”.

الرابعة: التأكيد
على المطالعة الحرة

فقد أكدت على طلبتها بضرورة تخصيص ساعة للمطالعة الحرة، وحثتهم قائلة: “يجب أن
تتسجلوا جميعا في المكتبات العامة”، وطلبت منهم في ما بعد أن يطالعوا الجرائد ويستمعوا إلى الإذاعات. كانت تدرك دور هذه القراءة في خلق الوعي، وتحريك الجماهير نحو الغضب العقلاني من أجل التغيير. إنها تعرف أن أي تحرك غير مبني على العلم، إنما هو ضرب من الفوضى والخراب، ولحرصها على تأطير طلبتها، كانت تمر بين الصفوف تتفحص الكتب بين أيديهم، حتى إذا عثرت على واحد من جملة الكتب التي تغرق السوق “لاستهلاك مراهقة الجيل .. فأثير معه حوارا واضحا .. يفهم من بعده، أن عليه أن يحسن الانتقاء” .
قضايا تعليمية كثيرة أثارتها الكاتبة، هي اليوم رهانات تسعى المدرسة المغربية إلى تحقيقها من خلال ما يعرف بالمقاربة بالكفايات، كتحول الأستاذ إلى منشط للفصل، وتجاوز العلاقة العمودية التي كانت بينه وبين المتعلمين، وتهييئ المتعلم للحياة من خلال ما يعرف ببيداغوجيا الوضعيات. والأخطر ما ذكرته يتعلق بالدروس الخصوصية، فإلى اليوم لم يهتدوا إلى حل يحد من خطورتها، لضمان تكافؤ الفرص بين المتعلمين، وبأسلوب روائي بليغ نددت بالظاهرة حينما قالت: ” إنه لا يشرح لنا.. هناك من يشتري الفهم والآخرون لا يملكونه.. ترى أي مواهب تكون بين أولئك المعوزين؟ .. هذه واحدة من كثير..الغش والمساومة في التعليم. أي فساد هذا؟”. كما نددت بالارتجالية المستحكمة في جل مفاصله، و دعت إلى ما يتحدث عنه اليوم بالجهوية، بارتباط المدارس بمناطقها كأسلوب حتمي لتغيير الواقع
والإنسان مؤكدةعلى أن يتحمل المتعلمون مسؤولياتهم تجاه ما يعج به واقعهم من فقر وبؤس ومرض وجهل، وإلا فإنهم سراق كل ما تعلموه من محاضرات وغيرها.


الكاتب : بوسلهام عميمر

  

بتاريخ : 14/10/2021

أخبار مرتبطة

    عدد الموقوفين على إثر أحداث الخميس بلغ 28 معتقلا   حالة من السخط في أوساط المحيط الجامعي والرأي

أزمة طلبة الطب في المغرب تعد تجسيدًا واضحًا للتوترات المتزايدة بين الدولة وفئة مهمة من الشباب المتعلم المقبل على سوق

أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، تقريره السنوي الأول خلال ولايته الثانية، عن حصيلة وآفاق عمله لسنة 2023، كمؤسسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *