برحيل المناضل والمثقف اليساري، أستاذ الفلسفة، المشتري بلعباس، يفقد المغرب نموذجا سلوكيا نادرا، عنوانه الأبرز النزاهة الفكرية والأخلاقية. وتكاد سيرته رحمه الله، أن تقدم المثال على حجم الضريبة الغالية التي يؤديها كل نموذج إنساني مماثل في سياقات تاريخية ومجتمعية وثقافية وسلوكية ميزت المغرب في مرحلتي الإنتقال من زمن الإستعمار إلى زمن الإستقلال، ومن زمن الإنغلاق السياسي إلى زمن الإنتقال الديمقراطي. فهي ضريبة عالية في الصحة والوجود، شكلت حياة بلعباس نموذجا لها كبير. فالرجل قاوم بصلابة من أجل الأفكار التحررية الجذرية التي آمن بها، مثلما أنه قاوم عوادي المرض والإقصاء بصلابة موازية.
قوة المشتري بلعباس الأخرى الكبيرة، كامنة في امتلاكه دوما القدرة على «النقد الذاتي»، ضمن سياق تنظيمي لليسار الماركسي (كما كان يحب هو دوما أن يوصف التيار الذي انتمى إليه وليس «أقصى اليسار»)، لم يكن يتقبل كثيرا ترف ذلك الإجتهاد الفكري لممارسة النقد على الذات. ولقد تسبب له ذلك في خصومات كثيرة وهو سجين محكوم بالمؤبد بالسجن المركزي بالقنيطرة، بلغت حد القطيعة مع قائد آخر لذات التجربة السياسية من حجم المرحوم أبراهام السرفاتي، خاصة بعد إصدراه رفقة ثلة من رفاقه بالسجن لوثيقة نقدية سنة 1979، عرفت في الأدبيات السياسية لذلك اليسار الجدري المغربي ب «وثيقة 1979».
مثلما أنه، تميز باختلاف معرفي متأسس على أن مرجعيته التكوينية (رفقة صديقه ورفيقه الحميم عبد اللطيف زروال مجهول المصير إلى اليوم)، صادرة من تكوينه الفلسفي كطالب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ما بين 1968 و 1971، لعب أستاذان كبيران دورا مؤثرا في مساره الفكري والتكويني والمعرفي ذاك، بشهادة منه رحمه الله، هما الدكتور محمد عابد الجابري والدكتور علي أومليل. وهي مرجعية تكوينية، مختلفة عن باقي رفاقه في حركة «إلى الأمام» الصادرون في أغلبهم من مرجعيات علمية دقيقة (الرياضيات، خاصة بالمدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط) أو مرجعيات اقتصادية أو أدبية. مثلما أن نقطة الإختلاف الأخرى كامنة، على مستوى تلك المرجعيات المؤطرة له ولباقي رفاقه ضمن ذلك التيار السياسي الطلابي في بداياته، حيث إن مصادره الفكرية كانت مشرقية عروبية، خاصة كتابات إلياس مرقص وياسين الحافظ وكل الكتابات التحليلية والتنظيرية للجبهات اليسارية الماركسية الفلسطينية (سواء بزعامة جورج حبش أو نايف حواتمة). بينما مرجعيات فريق آخر من قادة تلك التجربة السياسية والشبابية حينها، قد كانت فرنسية بالأساس، سواء من خلال تجربة الحزب الشيوعي الفرنسي بزعامة جورج مارشي أو مجموعات «لومانيتي» و «إسبري» بمفكريها الكبار حينها، من قيمة جون بول سارتر أو ميرلوبوتني أو هوبرت ماركوس. بالتالي، فقد ظل المشتري بلعباس ورفيقه الكبير عبد اللطيف زروال، ذوي نزوع قومية عروبية واضحة، شكلت نقطة اختلاف مميزة لهم ضمن خماسي القيادة الوطنية التنظيمية الأولى لحركة «إلى الأمام». دون إغفال التأثير الثقافي والرؤيوي لفضائه الإجتماعي الذي جاء منه، مقارنة بباقي رفاقه، كونه منحدرا من ثقافة غير مدينية أو بورجوازية، بل إنه مثله مثل زروال، صادرعن ثقافة فلاحية بدوية، فيها دور مؤثر للزوايا، كما كان عليه الحال في سهل محوري هام هو سهل الشاوية.
ولد المشتري بلعباس سنة 1950 بنواحي مدينة سطات، ضمن قبائل أولاد سعيد، حيث عاش طفولته الأولى بالبادية، ضمن تعليم المسيد، قبل أن تلحقه عائلته بمدينة سطات للولوج إلى المدرسة العمومية في نهاية الخمسينات، حيث درس بها الصف الإبتدائي كله والصف الإعدادي. وحين حصل على الشهادة الإعدادية، وبسبب عدم توفر مدينته سطات حينها على ثانوية، اضطر إلى الإنتقال للدراسة داخليا بثانوية عبد الكريم لحلو بمدينة الدار البيضاء، بشارع إدريس الأول، قرب مؤسسة شارل دوفوكو، من شهر أكتوبر 1965 حتى شهر يونيو 1968، تاريخ حصوله على شهادة الباكالوريا. لينتقل بعدها للإستقرار بالرباط، حيث تسجل بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ولم يتمكن من الحصول على شهادة الإجازة بها، بسبب انخراطه في معمدان العمل السياسي السري باكرا، ولن يتمم دراساته العليا، حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة، سوى بالسجن المركزي بالقنيطرة بعد اعتقاله سنة 1976.
الميزة الأخرى للمرحوم المشتري بلعباس، أنه كان رفقة عبد اللطيف زروال، واحدا من القادة المركزيين لحركة «إلى الأمام»، دون أن يكونا معا منتميان تنظيميا إلى حزب التحرر والإشتراكية (التقدم والإشتراكية حاليا والحزب الشيوعي المغربي سابقا)، عكس ما كان عليه حال باقي رفاقهم في ذلك التنظيم السري الموازي، الذين غالبيتهم الكبرى كانوا أطرا شبابية أو فكرية وثقافية منتظمة ضمن تنظيمات ذلك الحزب. فقد كانا متعاطفين فقط، كما قال لنا المشتري بلعباس رحمه الله في لقاء معه، أنا والأخ الصافي الناصري، ضمن حوار مطول من 30 صفحة متضمن في كتابنا المشترك «أقصى اليسار بالمغرب، مقارعة نبيلة للمستحيل» الصادر ببيروت عن المركز الثقافي العربي سنة 2002. علما أن عملية انشقاق تلك المجموعة الطلابية والشبيبية عن حزب التحرر والإشتراكية قد تمت في 30 غشت 1970، المتزامنة مع تنظيم ندوة في ذات اليوم لتلك المجموعة الشبابية، حتى وإن كان تنظيمها قد تميز بالإرتجال، كما يؤكد بلعباس، مما كانت نتيجته عدم إشراك كل العناصر المنتمية للحركة تلك فيها. مما كانت نتيجته عدم انتخاب قيادة تمثيلية بالشكل المطلوب. ولن تنتخب تلك القيادة الفعلية سوى في أواخر 1971، تاريخ انعقاد ما عرف ب «الندوة الوطنية الأولى» لحركة «إلى الأمام»، التي أصبح المشتري بلعباس وعبد اللطيف زروال من عناصرها المركزية، تكمن قوتهما في مدى تأثيرهما الميداني في التأطير الطلابي تنظيميا.
ميزة أخرى للمشتري بلعباس، كامنة في أنه كان آخر من وقع في الأسر من مجموع تلك القيادة الوطنية لحركة «إلى الأمام». إذ منذ بداية الإعتقالات في يناير 1972، التي جرفت كلا من عبد اللطيف اللعبي وأبراهام السرفاتي وعبد اللطيف زروال وعبد الحميد أمين وعلي أوفقير وغيرهم، في المسافة الزمنية بين 1972 و 1974، فإن الوحيد الذي ظل اسمه واردا في كل محاضر الشرطة، الذي لم يقع في الأسر لأربع سنوات كاملة، عاشها في السرية متنقلا بين الدار البيضاء والرباط وفاس، هو المشتري بلعباس. وكما يشهد بذلك عدد من رفاقه المعتقلين معه بالمعتقل السري درب مولاي الشريف، فقد كان ضباط الشرطة السياسية بذلك المعتقل يحرصون لأيام على وضعه معزولا في ممر ذلك المعتقل الرهيب، فقط للتأمل في نحافة ذلك المعتقل وقصر قامته، الذي دوخهم بكامل التراب المغربي لأربع سنوات كاملة دون أن يتمكنوا من وضع اليد عليه. بل إنه أثناء المحاكمة (كما كتب الأخ يونس مجاهد في تدوينة له) سيتدخل القاضي ليمنعه من الكلام، قائلا له بشكل مباشر أنه قد تم تنبيهه أن لا يسمح للمشتري بلعباس بالتحديد أن يتكلم أثناء المحاكمة، وهو ما تحداه الرجل طبعا.
اعتقل المشتري بلعباس يوم 2 مارس 1976، بشارع آنفا جوار مدرسة غير بعيدة عن فندق إيدو آنفا، في ذات المكان تقريبا الذي اعتقل فيه رفيقه الكبير عبد اللطيف زروال، الذي كان قد بلغ إلى علمه أنه استشهد تحت التعذيب سنة 1974، وتم نقله في حالة خطيرة إلى مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء حيث لفظ أنفاسه الأخيرة رحمه الله، تحت إسم «البقالي» بصفته المهنية كأستاذ للفلسفة. وأثناء مرحلة استنطاقه وتعذيبه بدرب مولاي الشريف ونقله إلى سجن عين برجة، بدأت تظهر اختلافات بينه وبين باقي قادة مجموعة «إلى الأمام» خاصة أبراهام السرفاتي، ستصل إلى القطيعة النهائية أثناء المحاكمة وبعد صدور الأحكام، خاصة بعد إصداره رفقة المنصوري والفاكهاني ورفاق آخرين له ما عرف ب «وثيقة 1979»، النقدية، التي اعتبرت أن «الحركية التي اتبعتها المنظمة واتخادها لمواقف سياسية لا تتلاءم وظروف العمل السياسي آنذاك. وأنه ليس القمع وحده الذي أعاق التجربة، بل هناك قضايا ذات علاقة بالخط السياسي والعلاقة بالجماهير». وكانت نقطة الخلاف الجوهرية الأكبر حول الموقف من قضية الصحراء المغربية، حيث رفض المشتري الإبقاء على الموقف القديم الذي ظل ينادي به السرفاتي حينها، المتمثل في دعم فكرة تقرير المصير، مطالبا بتغيير الرؤية للقضية الوطنية تلك، التي كانت تذهب في اتجاه مقارب لفكرة «الحكم الذاتي» المتبناة حاليا من قبل المغرب رسميا. مثلما أن تلك الوثيقة قد اعتبرت من الخطأ القطيعة مع الأحزاب الوطنية والتقدمية، ضمن أفق منتصر للتعدد والخيار الديمقراطي.
قضى المشتري بلعباس 13 سنة كاملة بالسجن (سجن عين برجة بالدار البيضاء ثم السجن المركزي بالقنيطرة)، حيث أطلق سراحه سنة 1989، ليعين أستاذا للفلسفة بمركز تكوين الأساتذة درب غلف بالدارالبيضاء، ثم سينتخب رئيسا للجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة، وكاتب عمود رأي في جريدة «اليسار المغربي»، ثم فاعلا مؤثرا في تأسيس حزب اليسار الإشتراكي الموحد. وظل دوما، رغم ظروفه الصحية الصعبة جدا، منافحا على ضرورة التعلم من أخطاء الماضي، ضمن أفق للأمل في إعادة تنظيم كل أطراف اليسار المغربي والحركة التقدمية المغربية، مع يقين بالإنتصار لمشروع الإنتقال الديمقراطي بالمغرب، بما يحقق العدالة الإجتماعية.
رحم الله الأستاذ المشتري بلعباس، الرجل الخلوق جدا، النزيه فكرا وسلوكا.