الأستاذ الراحل محمد إبراهيم بوعلو، اسم أساسيّ في مدونة القصة المغربية، وأحد رموزها الكبار قيمة ومقاما، وذلك قياسا إلى المنجز العريض، الذي تركه الفقيد في رحاب هذا الجنس البلوري صعب المراس، انطلاقا من مجموعة “السقف”، ثم وصولا إلى مجموعة “الصورة الكبيرة”، مرورا بدُررٍ أخرى مهمة لا تغيب بتاتا عن الذائقة والوجدان، من قبيل “الفارس والحصان” و “الجماعة” و “الحوت والصياد” .. إلى آخر تراثه القصصي الزاخر والمتميز لغةً ورؤية ومعمارا وأسلوبا وأطروحةً..
للأسف الشديد، غادرنا هذا الطائر القصصي المجروح جرحاً نرجسيا بليغا في صمت مطبق، وأحيطت تجربته السردية الرائدة بجحود مؤسسي وتقصير أكاديمي وإهمال نقدي، على الأرجح لأنه لم يكن من رجالات الأضواء الساطعة، كما لم يعمل على تربية عشيرة أدبية طنّانة، أو صناعة مُطبلين محنكين لهم القدرة على الزعيق عاليا بالنيابة عن حنجرته، كي يتم الاحتفاء به.. بيد أن هذا النكران القاسي لا ينفي مطلقا تأثيراته الرمزية الجليلة على جميع أطياف كتاب القصة وعشيرتها منذ ستينيات القرن الماضي إلى أيام الله هاته.. فقد كان من المؤمنين الخلص بقيمة الأدب التربوية والتثقيفية والسياسية، مستغورا قضايا الواقع المغربي الحارقة وموضوعاته الملحة، كالبؤس والحرمان والفقر والقهر السياسي والطفولة وسنوات الرصاص ومرارة الوجود والصراعات الطبقية، حيث غطت نصوصه موشورات هذي الواقعية السوداء، تلك التي أناخت بكلكلها على صدر المغرب إبان سنوات الستينيات والسبعينيات ..
لن أبالغ إذا ما تجاسرت على القول إن تجربة الراحل محمد إبراهيم بوعلو تشبه إلى حد ما تجربة الكاتب الأمريكي ريموند كارفر على عدة أصعدة، بل بالأحرى هو ريموند كارفر المغرب .. سيد المينيمالية بامتياز، و نطاسي الواقعية الحالكة …
من دون ريب، الأستاذ الراحل محمد إبراهيم بوعلو هو المؤسس الفعلي لنوع القصة القصيرة جدا في التربة المغربية، ولن نجانب الصواب إذا قلنا إنه الأب الروحي لهذا الجرم الأدبي الجهنمي. الأب ا لروحي المقصي، الذي أعرض عنه الجميع وخذلوا كدحه وجهده، لدرجة أننا لا نلفي ملتقى واحدا باسمه، أو ندوة بصدد أثره، أو جائزة لتخليد محصلة أدبه.. أسلم الروح كما تقضي الفيلة، واقفا بشموخ الكبار، ومتواريا عن أنظار الجماعات القبيحة من المتنفعين والذيليين، الذين يعجبهم المشهد الثقافي الممسوخ .. في مجموعته الأبرز “خمسون أقصوصة في خمسين دقيقة “ تأثر الراحل تأثرا إيجابيا وخلاقا بالكاتب المجري أشتفان أوركين، مبتكر “ أقصوصة في دقيقة “، ومن هذه المرجعية الكونية القوية، امتدت ظلاله الوارفة إلى أراضي القصة المغربية، حيث عمل على تأصيل جماليات المفارقة والتكثيف والوحدة القصصية، كما وضع للقصة القصيرة جدا أركانها وتقنياتها التأسيسية، لما كان له قصب السبق في توظيف السخرية وتخييل الحيوان وأنسنة الأشياء والنكتة والطرفة والترميز والإيحاء والأحلام وبلاغة المفتتحات والمختتمات.. كان الراحل محمد إبراهيم بوعلو يكتب بالحد الأدنى للغة، المماثل لصوفية كيانه وزهد فؤاده.. يكتب بحدي سكين حاد من الجهتين : نصل الموقف الشريف، ونص الكتابة الملتزمة.
*شهادة صوتية على أثير إذاعة «مونتكارلوالدولية»
ضمن برنامج ( قرأنالكم ) الذي يعده الشاعر المغربي عبد الإله الصالحي