أرقام صادمة حول الاقتصاد غير المهيكل: أزيد من 2 مليون وحدة خارج القانون و526 مليار درهم يروجها اقتصاد الظل
حين وقف رئيس الحكومة عزيز أخنوش في قبة البرلمان يوم 11 أكتوبر 2021، ليعرض برنامجه الحكومي، وضع على عاتقه دزينة من الوعود التي توزعت بين ما هو اجتماعي، وما هو اقتصادي، وما يلامس اليومي والمستقبلي. ومن بين أكثر الملفات استعجالا، تعهد الرجل، بلهجة لا تخلو من الثقة، بإخراج الاقتصاد الوطني من براثن ما وصفه حينها بـ»ضخامة الاقتصاد غير المهيكل»، وبتصحيح أعطاب الحماية الاجتماعية، وبناء شبكات أمان تحمي الفئات الهشة وتكرس العدالة الاقتصادية. غير أن أربع سنوات مرت، وبقدر ما كانت الوعود عالية السقف، كانت الحصيلة في هذا الباب سلبية ونكوصية، إن لم تكن كارثية.
اليوم، وبعد مضي ولاية حكومية تكاد تلامس خط النهاية، تأتي المعطيات الرسمية لتعري الفجوة الفادحة بين تعهدات الخطاب وواقع الإنجاز. فالبحث الوطني حول القطاع غير المنظم برسم سنة 2023-2024، والذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط، جاء ليرسم صورة مقلقة عن نمو هذا القطاع الذي يفترض أنه كان في مسار الاحتواء، فإذا به يتمدد ويزدهر. فقد بلغ عدد الوحدات الإنتاجية غير المنظمة نحو 2,03 مليون وحدة، مسجلا زيادة صافية بـ353 ألف وحدة مقارنة بسنة 2014. ويحدث ذلك بينما تتوالى التصريحات الحكومية التي تفتخر، مرارا، بنجاعة الإجراءات الهادفة إلى هيكلة الاقتصاد الوطني ودمج القطاع غير المهيكل ضمن المنظومة الرسمية.
الأخطر من هذا النمو الكمي، أن التغلغل غير المهيكل أخذ أبعادا مقلقة داخل النسيج الاقتصادي الحضري، حيث تمركزت 77,3% من هذه الزيادة في المدن. كما أن قطاع التجارة، الذي يشكل العمود الفقري لهذا الاقتصاد، ما يزال يستحوذ على حصة الأسد بـ47% من مجموع هذه الوحدات، رغم محاولات التشجيع على الرقمنة والتسجيل الجبائي. وفوق ذلك، تشير المعطيات إلى أن 85,5% من هذه الوحدات تتكون من شخص واحد فقط، مما يعكس هشاشة مطلقة لا تتيح أي أفق لتوسيع القاعدة الإنتاجية أو الاستثمار أو حتى تأمين الاستمرارية.
لا تقتصر المشكلة على هذا التزايد العددي، بل تمتد الى نوعية هذه الوحدات وهشاشتها البنيوية. ف85,5 في المئة من الوحدات تتكون من شخص واحد فقط، و55,3 في المئة منها لا تتوفر على محل مهني قار، بل يزاول اغلبها نشاطه في ظروف هشة ميدانيا وتنظيميا، و91 في المئة تعتمد في تمويلها وتسييرها على موارد ذاتية خالصة، مع نسبة شبه منعدمة من اللجوء الى القروض البنكية او الصغرى. اما عن الادماج القانوني، فالنسب تبقى ضعيفة الى حد مخجل: فقط 14,2 في المئة من الوحدات مسجلة في الضريبة المهنية، 9,8 في المئة منخرطة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، و7,5 في المئة في السجل التجاري، مقابل 1,7 في المئة فقط منخرطون في نظام «المقاول الذاتي» الذي طالما سوقته الحكومة كإطار مثالي للدمج.
هذه المؤشرات تكفي وحدها لتفنيد أطروحة الحكومة التي طالما تباهت بتقدمها في مجال هيكلة الاقتصاد الوطني. لا أثر لما وعد به من تحفيزات للدمج، لا بوادر على توسيع القاعدة الجبائية عبر ضم القطاع غير المهيكل، ولا تحسين في شروط الادماج المالي. بالعكس، توحي الأرقام بان هذا القطاع بات أكثر رسوخا، وأكثر قدرة على التكيف مع الهشاشة، وأقل قابلية للاستقطاب الرسمي. فالوثيقة ذاتها تبرز أن انتاج القطاع غير المهيكل ارتفع ليبلغ 226,3 مليار درهم سنة 2023، وأن رقم معاملاته ناهز 526,9 مليار درهم، لكن مساهمته في القيمة المضافة الوطنية تراجعت من 16,6 في المئة سنة 2014 الى 13,6 في المئة سنة 2023، ما يعني أن النمو الكمي لم يصاحبه اي تحسن في الإنتاجية النوعية، ولا في العدالة الاقتصادية.
أخطر ما تكشف عنه المعطيات الجديدة هو أن هذا الاقتصاد الذي يفترض أنه هش وعرضي، بدأ يتحول إلى بنية قائمة بذاتها، منتظمة في اختلالها، متكيفة مع فجوات القانون، ومتغذية على أعطاب الحكامة. ولا أدل على ذلك من التفاوت الحاد في القيمة المضافة: ف20 في المئة فقط من الوحدات الأعلى إنتاجية تستحوذ على 65,4 في المئة من إجمالي القيمة المضافة، ما يخلق سوقا رمادية داخل الاقتصاد غير المهيكل ذاته، ويفرز طبقات من الفاعلين تعيد انتاج اللامساواة في فضاء خارج التنظيم أصلا.
وإذا كانت الحكومة قد تجاهلت هذه المؤشرات في مقاربتها التدبيرية، فإن مؤسسات الحكامة كانت قد دقت ناقوس الخطر مبكرا. ففي يونيو 2021، أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي رأيا صريحا حذر فيه من تنامي هذا الاقتصاد الموازي، ودعا الى استراتيجية مندمجة تراعي التفاوتات القطاعية والمجالية، وتقترح حلولا عملية تبدأ بتبسيط المساطر القانونية والجبائية، وتوفير مناطق مهنية ملائمة، وتطوير عروض المواكبة والتمويل، وتحديث صيغ «المقاولة الذاتية»، دون أن تجد تلك التوصيات آذانا صاغية لدى من بيدهم القرار.
في المقابل، استمرت الحكومة في ترويج خطاب النجاح، رغم ان الواقع يكذبها بالأرقام والوقائع. وإذا كان عدد من المسؤولين قد حاولوا، في مناسبات متعددة، ربط تعميم التغطية الاجتماعية بمسار دمج القطاع غير المهيكل، فإن معطيات المندوبية تكشف ان هذا الربط ظل مجرد رغبة لم تجد سندا في السياسات الفعلية. فلا تحسين في جودة الخدمات العمومية، ولا إقلاع في فرص الشغل المستقر، ولا تحفيزات كافية لتقليص كلفة الانتقال من اقتصاد الظل الى العلن.