روايات قرأتها : « باسم الأب والإبن»  لإيمانويل ميفسود: القتل المتكرر للأب المادي والسردي المتوارث

« أكثر الروايات إفادة هي الروايات التي ينجز القراء أنفسهم نصفها «. فولتير.

« – أبي، إلى أين تمضي؟
– إخرس، انتظرني هنا ولا تتحرك.
– لكن إلى أين تمضي يا أبي؟
– إلى الجحيم! انتظرني فحسب ولا تتحرك.
– لكن إلى أين أنت ذاهب يا أبي؟
– ذاهب لأقول كلمة الحق لذلك الرجل هناك.»
قد يتبادر إلى ذهن القارئ وهو يقرأ هذا المقطع للوهلة الأولى أنه جزء من  قصيدة شعر، لكنه مقطع سردي حواري من رواية:  «باسم الأب الإبن»، للروائي المالطي، إيمانويل ميفسود.
ميفسود في روايته، يقودنا عبر لغة شعرية انسيابية، يغلب عليها طابع التكثيف والإقتصاد، غنية بالإحالات الدلالية و المجاز، إلى قراءة سلسة لمتن روائي لا يشبه؛ متن تقرأه وكأنك تنتقل من قصيدة إلى أخرى، في نظام سردي يستحكم فيه مخيال غني بالمرجعيات التاريخية و الثقافية، تتمنى لو تقرأ النص في نفس واحد، لولا بعض  الهوامش التي يضيفها الكاتب أو المترجم، التي تجعلك تقف للحظة، لتنزل من قاطرة السرد إلى محطة المرجعيات، هذه المرجعيات تضيء بياض النص المبثوث بين الجمل والسطور، تحرك مخيال القارئ، ليساهم هو أيضا في  كتابة مالم يدرجه الراوي في النص السردي، حيث يفرض  على القارئ  أن يتحول إلى امتداد فاعل في النص الروائي، وليس فقط قارئا سلبيا.
النص هنا هو الحكاية، الحكاية التي يرى فيها همنجواي، الشرط الأساسي الذي يجب توفره، كي يتم  كتابة نص سردي قصصي أو روائي ناجح؛  في البدء عليك أن تتوفر على حكاية جميلة، بعد ذلك تأتي طريقة حكايتها عبر اللغة، اللغة التي أراد لها ميفسود، هنا في روايته، أن تكون كثيفة، حية، ومقتضبة، مجردة من كل الزوائد والنعوت والشوائب، تمتاز بحوارية مرنة، وبساطة في التعبير، بساطة تحمل بين طياتها عمقا في المعاني وتعددا في الدلالات؛ هي لغة تعبر عن أفكار عميقة بأسلوب بسيط.
يضعنا ميفسود بطريقته السردية الخاصة والمميزة، أمام عملية خلق عالم جمالي مواز، من خلاله يمكن أن ننظر إلى عالمنا الواقعي المادي ويمكن أن نفهمه أو نفسره.
عبر حوار أو جملة قصيرة، يحيلك ميفسود، على عوالم وأحداث، يختلط فيها التاريخ بالجغرافيا، و بالأسطورة أيضا. عوالم يظل فيها الإنسان هو البطل الأسطوري والإشكالي في آن. عوالم واقعية وغير منمطة.
الرواية رغم قصر نفس زمنها السردي، إلا أنها تمططه في أزمنة تخييلية عبر الإسترجاع و الإشارات الثقافية والرمزيةَ:  (هوامش، أفلام، أسماء ممثلين، أغاني، أحداث تاريخية،أسماء ذات إحالات ثقافية أثرت في وعي الكاتب، بارت، كريستيفا، لاكان، سيلفيا بلاث..)  واللجوء إلى تقنية التضمين عبر متواليات حكائية صغرى،  تجعلك تملأ الفراغات الدلالية، بالوقوف المستمر أمام حدث أو حكاية فرعية تحرك مخيالك الجمالي والمعرفي، تجعلك تفكر في قصة الرواية رغما عنك، تشارك بشكل ما في إعادة كتابتها على طريقتك الخاصة، تعيد النظر في جزئياتها وما تحويه من أحداث و حكايات، من داخل وعي منظارك الحسي والجمالي الخاص، ليصبح قاريء النص الروائي شريكا في عملية إنتاج المعنى.
تشتغل لغة رواية «باسم الأب والإبن»، داخل معمل الذاكرة، لتخرج في جمل يغلب عليها الإقتصاد و التكثيف و الإيحاء، تُحول إلى عوالم تختلط فيها سعادة طفولة مفتقدة، بتراجيديا الواقع اليومي المتجذر في الحاضر، ورؤية سوداوية مشوبة بالتشاؤم؛  رؤية ترنو نحو مستقبل غامض مرصوص بحجارة الغياب و الفقد و الخيانات الصغيرة؛ حجارة الألم و اللذة، البؤس، السعادة، الضحك و البكاء، التي تؤثث بلاط الطريق الممتدة/ الفاصلة بين الحضور و الغياب، الولادة و الموت.
الكتابة عند ميفسود هي محاولة لقطع حبل السرة الرابط بين الأب/ الأم والإبن، بين الذاكرة/التاريخ والواقع، بين الحاضر والماضي بين الرواية كما تكتب الآن والرواية كما يكتبها هو: « تناولني القابلة المقص فأقوم بقطع الرابط بينكما مرة واحدة و إلى الأبد، لا تغضب أنا أيضا جزء في هذه القصة، لا تنصدم فقبلك كنت أنا، وقبلي كان هناك أبي». ص:76
ينتمي ميفسود إلى تيار كتاب إستطاعوا أن يخلقوا كيانات سردية تخييلية، موازية للواقع، وأن يحولوا عنفه ورداءته إلى عوالم جمالية بديلة، قد نستطيع أن نفهم عبرها تناقضات ومفارقات العالم الذي نعيش وسطه؛ عالم مشوه معاق، الحقيقة تسير فيه عرجاء بينما الزيف هو المسيطر.
ميفسود يضعنا أمام بناء روائي  شبيه  بأحداث فيلم، تشاهده وتشارك في نفس الآن في صناعة أحداثه، كممثل رئيسي، يقتفي خطى السارد، ليصل إلى تأويلات متعددة لمعنى الكتابة ودلالات الأحداث، والحكايات ومصائر الشخوص.
هو بناء فيه نوع من القتل المتكرر للأب المادي والسردي المتوارث.
إن الرواية كما يكتبها ميفسود، قتلت « الأب»، ولم تعد تمشي في ظل السلف السردي المتعارف عليه و المكرس. نجد مقطعا موحيا في الرواية ربما يحيل و يفسر ذلك بشكل أفضل: « قتلته عندما اخترت أن لا أمشي في ظل اسم الأب، قتلته حين هدمت وصاياه العشر، تركتها تهوي ودست على بقاياها بقدمي».
الكتابة الروائية استعادة نماذجها العظيمة مع كتاب مثل ميفسود، وعوض أن تخضع لوصايا و مقاييس الإبداع الإستهلاكي الذي أصبح يسم عصرنا، ويتحكم في المجالات الإبداعية و السردية الموجهة للإستهلاك السريع أو لمنابر الجوائز المشبوهة. نجدهم قد أعادوها (أي الرواية)، إلى المنابع الكبرى للسرد، استسقوا منها وغذوا بها عبقريتهم و موهبتهم في الكتابة.
وتجدر هنا الإشارة إلى أن المترجم استطاع  أن يحافظ  للنص على هويته، وتميزه وخصائصه الشكلية والفنية، محاولا ما أمكن أن يجعل النسيج المتكامل للعمل موسوما بالانسيابية والسلاسة.


الكاتب : علي أزحاف

  

بتاريخ : 13/04/2022