روايات قرأتها : رواية « أورشاليم» للروائي البرتغالي جونسالو إم.تفاريس حين يبلغ السرد منتهاه

 

لا يمكن أن تقرأ رواية «أورشاليم» للروائي البرتغالي جونسالو إم.تفاريس، دون أن تحمل منها شيئا يظل ملتصقا بوعيك وذاكرتك إلى الأبد. هي رواية تدفع بك خارج حدود عوالم السرد الروائي العادي، رواية صادمة، سريالية،عميقة، درامية أحيانا حد العبث.

من عنوانها قد يعتقد القارئ أنها رواية تارخية تستلهم أحداثا مرتبطة بالمخيال الديني أو الأسطوري، لكنها قطعا ليست كذلك، فكلمة «أورشليم» تستحضر في الرواية مرتين فقط، ألأولى ترد فيها داخل اقتباس:  «إن نسيتك، يا أورشليم، تنسى يميني..»(السطر الخامس من المزمورالمائة والسابع والثلاثين من سفر المزامير-الكتاب المقدس – العهد القديم). والثانية سترد في جملة، في الصفحات الأخيرة من الرواية…
الرواية تطرح أسئلة فلسفية عميقة من باب: « إلى أين يجب أن يوجه الفرد تفكيره كي لا يعتبره الآخرون مريضا نفسيا؟.في ما يجب ان يفكر الفرد الأخلاقي ؟وفي ما لا يجب أن يفكر؟). وأسئلة أخرى، بأسلوب سلس مسكوك بجرأة وبراعة حد البساطة الممتنعة. (عرف عن الكاتب الى جانب جرأة السك، براعته في استخدام العامية)، في لغة يغلب عليها الإقتصاد والاقتضاب، وتجنب الوصف الخارجي والنعوت الممل. رواية تمتاز ببساطة السرد وبراعة الصورة، يعرض فيها  الكاتب أفكارا إنسانية عميقة بأسلوب بسيط يصل الى وعي القاريء بعيدا عن أي تعقيدات سردية أو فدلكات فكرية زائدة.
تبدو الشخوص في الرواية، وكأنها تتأمل نفسها من الخارج، لتعيد إكتشاف رغباتها الدفينة (الشاذة، المتوحشة، والطبيعية)، عبر تعامل جديد مع الحواس، لتتغير رؤيتها للعالم والقيم. «الجمال» مثلا يتحول الى قيمة «عادية»، وربما «مقرفة»، أو»مرعبة.
هي شخوص تتحرك وكأنها كائنات مقذوف بها في جحيم عالم لم تختره. كأنها كائنات محكومة بالموت، وفقط بعض الصدف،هي التي تدفعها نحو حياة ممكنة.
شخوص تتقاطع مصائرها وحيواتها في زمن الرواية وخلال أحداثها وتيماتها الحاضرة داخل السرد والحبكة الروائية:
(الجنون.الموت. الانتحار. الجنس. الرعب.الانفصام. التاريخ. البطالة. الضعف .القوة..)، والعلاقات السببية التي يحيكها القدر بين هذه المفاهيم، لتحدد أقدار هذه الشخوص وتخط وجهات مصائرها، وتناميها داخل النص الروائي.
شخوص الرواية يعانون من إعاقات، عاهات وأعطاب وجودية ونفسية وجسدية أحيانا، تجعلهم عاجزين عن الحياة بطريقة عادية وسط عالم من الأفكار والأحداث غير العادية، التي تتقاطع في حيواتهم اليومية وتجعلها قريبة وبعيدة في آن.
يسوق الكاتب أحداث بداية الرواية ونهايتها أيضا، في زمن مادي ينوس في منطقة  هلامية (آخر الليل وبداية النهار)،  في مسار واقعي يدفع به أحيانا الى متاهات المفارقة حد الغرابة. لكنها غرائبية «كافكاوية «، شفافة أمام أعين القارئ تجعله يقف في تلك المنطقة التي لا تعرف فيها أين ينتهي الواقعي وأين يبدأ السوريالي. وليست تلك الغرائبية المفتعلة والفارغة من المعنى الغارقة في الغموض؛ هي مفارقة تذكرنا أيضا بعمق البعد الفلسفي الذي نجده في كتابات كونديرا، أحداث محكومة بسرد دائري يعود بنا من حيث بدأنا.
هي في الحقيقة رواية/درس في عبقرية الكتابة الروائية التي تقدم أفكارا عظيمة بأسلوب بسيط. وهنا أستحضر مقولة ماركيز: «العبقرية هي أن تعبر بأسلوب بسيط عن أفكار عميقة».
وليس غريبا أن يقول جوزيه ساراماغو عن كاتب هذه الرواية: «..إن جونسالو إم .تفاريس مرحلة يقف عندها الزمن، هناك مرحلة سبقته، وأخرى تلته. تنبأت أنه سيحصل على نوبل خلال ثلاثين عاما، إن لم يكن قبل ذلك وأنا على ثقة من نبوءتي، أسفي فقط على أنني لن أكون على قيد الحياة لأمنحه أحضان التهنئة».


الكاتب : علي أزحاف

  

بتاريخ : 23/04/2022