رواية «المشي على الريح» لعبد الحميد البجوقي

استرجاعات رؤى التقرير الاستشراقي – الأفريقاني

إن أدب المنفى أدب مكوكب بروحية توحي بالكونية والانسانية. فعلاقة البجوقي الاسترجاعية بأدب المنفى تتأسس بناء على تجربة سياسية ناضلت ضد آلة تنضيد الإنسان والأمم والشعوب ، فهو أدب إن أردنا القول بلغة سياسية «أدب منشق» ضدي معارض للأداء العام الوطني و الرسمي، منظورا من داخل إنشاء يساري ويمتح من الوضوح غير المكلف للصياغات حول قضايا تُستشف أهميتها من الإقرار القوي لسياق احتدامي مع قضايا حارقة، فتعكس لنا رواية «المشي على الريح» بشكل تأكيدي الموقع الامتيازي لتجربة فردية غنية للكاتب.
تنتقل رواية «المشي على الريح»، وهي الرواية الأخيرة من مشروع عبد الحميد البجوقي الرامي لتأسيس أدب المنفى لتسيح على أقاليم وخرائطيات جديدة تحاول القبض على نظام عالمي للحواجز والحدود وقوات الشرطة والجمارك ،والاتجار بالبشر وتشييئه. ويحضر الأفارقة لاجئين مشردين من أرضهم، متعبين ومعرضين للمضايقات باستمرار، فجاء يطفو على سطح رواية «المشي على الريح : الموت في المنفى « خاصية الحدس المتعاطف والمثقف.
فإذا كانت إسبانيا هي الإطار المشهدي للجزء الأول « المورو خايمي» والجزء الثاني « عبسليمو النصراني « من ثلاثية المنفى، فإن الاطار المشهدي الحقيقي للجزء الثالث « المشي على الريح « هو المغرب. فثلثا أحداث الرواية تدور فوق الاراضي المغربية، التي جاءت هنا «المحرق» الذي يمثل المغرب كعنصر من الجغرافية السياسية للنزاع الحدودي حول قضايا الهجرة.
وإذا كانت الرواية تدور أحداثها على أرض المغرب، فالغائب الأكبر فيها هو المغرب ومعه المغربي، وحضوره في ثنايا الرواية والطريقة التي مُثل بها يندرج ضمن التصنيف التنميطي للمغربي ، مغربي يتحرك في مجال ضبابي سديمي بلا ملامح ، وحتى هو أي المغربي يحضر في الرواية إنسان بلا ملامح، ومتأخرا تأخرا فائقا بل إنه بطريقة ما مشلول، لدرجة أنها، أي الرواية، صورت وجود المهاجرين الأفارقة على أرض المغرب كشأن داخلي من شؤون الإفريقيين والغرب، ولا دخل للمغاربة بموضوع هذا الحضور إلا من زاوية سأعالجها بعد قليل، حتى أن المغربي يبدو في الرواية عبارة عن سردية خارجية عرضية، ويبدو الافريقي الوحيد الجدير بأن يسرد ويصاغ إنشائيا. فهادي «كاميلا» منبوذة في المغرب، امرأة حامل بلا مصير لكن من يبحث عنها ويعطف عليها ويجد لها ملجأ ، هي السيدة «خوانا» من خلال جمعية القلوب المتضامنة وهي جمعية تدعم الافارقة المهاجرين من خلال الكاردينالية ، كما ان السيدة خوانا تعدها أنها ستتكفل بحملها الى أن تجد لها عائلة مسيحية تتبنى طفلها، وتعدها أيضا أن الاب خوليو بالكنيسة سيتدبر لها العمل في بيوت المقيمين الاجانب، لتطلب منها أن تقيم مؤقتا مع عائلة إسبانية بطنجة».
الأفارقة موجودون بأرض المغرب لكنهم شأن خارجي، فإنسانيتهم وظروف إقامتهم موضوعات خارج الاهتمام المغربي، بل إن المغربي في الرواية لم يرق بعد لأن يتنطع لهكذا قضايا تفوق مستواه الانساني ومراحل نموه، لذا تحضر القلوب المتضامنة لتسد هذا الفراغ بنوع من المحايدة المستقلة ذات السيادة وتلعب أطر مؤسسية أخرى أجنبية كالعائلات الاجنبية والاسبانية هذا الدور أو الكنيسة مع الاب خوليو.
من هنا تبدو رواية البجوقي ليست فقط أبعد عن أن تكون مجرد أدب بل هي الى درجة متعالقة منشبكة في جزء عضوي من هذا الاسترجاع الثقافي لترسيم واقع وصورة عن المغرب والمغاربة مفارقة ومستبناة ثقافيا بقوة الى درجة أنها قادر على جرف كاتب روائي واعد وخبير في السياسة الدولية وبتجربة مشهود له بها ،الى موقع مندرج ضمن ثقافة تنميطية. فالمعضلات الاخلاقية التي يعريها والمصائر الفردية المعذبة لشخصياته الافريقية التي تدور جميعها على رحى أرض المغرب، والتي يعالجها بقدر عال من الرهافة في حين يعالج الحضور الثاوي للمغربي بالمفارقة اللاذعة، وهي خصائص كلها تمتح من تاريخ طويل من الاستكشافات والاستيهامات والتي تبلور حولها نوع من الاجماع في أدب الآخر الغربي، وخصوصا الاسباني كنهج من الرؤية المنظمة والمقننة بقوالب تدعمها المنظورات والأهواء العقائدية التي تبناها الأخر عن المغاربة والتي أضحت افتراضات استبداهية عن المغرب.
يحضر المغربي في الجزء الثالث «المشي على الريح»، محاصرا برؤية مصاغة بمقياس له القوة في إعادة توجيه الانشاء، تفتقر الى المحتوى التمييزي والتحديد وتتمتع بعمومية فجة، محاطة بكليشيهات تبرز المغاربة جميعهم بوصفهم تنويعا أو آخر عن مهووسين جنسيا، وهو نموذج تنميطي غربي عن المغربي سبق وأن عمل جاهدا الكاتب في مناسبات أخرى على تصحيحه كما هو الحال مع «بالوما» في الجزء الاول» المورو خايمي» حينما تحدث عن جنسانية المغاربة الموروس. لكنه هنا يسقط في ترديد كليشيهات هي نموذج تنميطي غربي عن المغربي مثبتا صورة للشخصية المهووسة، الصورة الوحيدة اللون التي يصوغها للمغرب تسد الحاجة الى تمثيل البلد ليس فقط لامأنسنا بل وإبليسيا أيضا.
في اول حكاية عن «كاميلا» بطلة الرواية يروي الكاتب انها كانت واقفة بميناء طنجة تنصرف كلما تحرش بها أحد المارة، مما يدل أن التحرش حاد لدرجة الازعاج، وأتساءل بهدوء هل المغاربة يتحرشون بهذا الحد من المطاولة، كما وصفتها الرواية؟ .
شخصية «عزيز» حارس العمارة التي تبدو ظريفة ومقبولة يضغط في اتجاه ان يحول كامي الى عاهرة بالكاباريهات، كما أنه يتوسط للافريقيات لهذا العمل من خلال تيسير ذلك من طرف نافذين بجهاز الأمن، مفتش شرطة يستغل منصبه للاتجار بالإفريقيات لزبنائه بالكاباريهات ويضغط على كامي لتنصاع لنزواته. وكذلك قصة «أديسا» النيجيرية المرأة الافريقية التيتعرضت للاغتصاب المتكرر بالمغرب، احتجزها تاجر مخدرات بقرية «باب برد» لما يزيد عن السنة كانت خلالها بضاعة جنسية، كما أنها كانت هدية تقدم من طرف تاجر المخدرات للاغتصاب من طرف الدركيين ورجال السلطة والمنتخبين ورؤساء الجماعات ونواب البرلمان.. وبعد أن عرف التاجر أنها حامل أعادها الى طنجة وهددها ، فأين ستلد أديسا ، أديسا ستلد ببيت امراة مغربية تمتهن الوساطة الجنسية.
يصور البجوقي عملية الاغتصاب التي تعرضت لها كاميلا على حدود مخيم الافارقة ببليونش بإسهاب وتفصيل وبلغة تصويرية، أحصيت فيها مجازات تمثيلية من صيغ الاستعارة والمجاز المرسل والكناية والتمثيل الترميزي والمفارقة اللاذعة في وقت أن قتل الاسبانيين للأفارقة لم يأخذ من الكاتب سطرا وافيا ولغة تقنوية سلخ عنها إهاب الخصائص التعبيرية والجمالية وعريت من أي بعد نقدي، كما أن قصة اديسا بالناظور هي قصة محاولات متكررة للاغتصاب من طرف المغاربة لولا أحد الافارقة الطوغوليين الذي ادعى أنه زوجها لمنع هذا السيل الجارف من التحرش.
لا أنكر هنا ما قد يقوم به بعض المغاربة من فظاعات في حق الافارقة، وهو ما لا يرقى الى مستوى الظاهرة ، كما لا أطلب من عبد الحميد البجوقي هنا ان يبحث عن جواهر مغربية فذة الأصالة، نقية ، وموضعتها في مكان ذي شرف لا يرقى إليه التجريح، لا بتاتا، لكن هذا الانجرار العارم وراء الكليشيهات المفرغة للمغاربة من إنسيتهم لا نجدها إلا في الادب الغربي حيث يحضر الامير المغربي في تاجر البندقية عند شكسبير امرئ حسيا زائدا كما الحال عند ميكائيل دي سيربانطيس وعند علي باي العباسي دومينغو باديا .
أما المغاربة الآخرون الحاضرون في الرواية، والذين تفضل عليهم الكاتب بالحضور والكلام، فإنك ستصدم حالما يتحدثون. فالفاعلة الجمعوية المغربية رشيدة بجمعية القلوب المتضامنة، والمفروض انها تمثل نخبة من نساء الوطن حين تتحدث الى كاميليا فإنها ستحدثها عن العيد الكبير ومتاعبه.
خالد الشاب المناضل الايجابي المغربي الوحيد الذي يحضر بالرواية عندما يدبر لها عائلة مغربية تشغلها بالبيت، فإنها تشغلها مقابل الايواء، انظروا معي تشتغل بلا مقابل مادي بل الإيواء، حالة العبيد في القرون الوسطى، ورغم ذلك فهذه العائلة ستطردها حالما تعرف أنها حامل.
حتى الوسيط الذي سيهرب عيساتو ب 5000 آلاف درهم، يحضر رجلا متدينا ومواظبا على الصلاة لدرجة أثارت كاميلا التي تساءلت كيف لهذا الرجل المتدين ان يكون طيبا ومواظبا على الصلاة وهو يتاجر بالمسكينة، فخصال الخسة عند المغاربة المقرونة بالورع الكاذب، كليشيهات مستمدة من الرؤية الغربية للشرقي ، وقد كانت النصيحة الوحيدة التي قدمتها عيساتو لكاميليا هي عدم الاختلاط بالمغاربة.
أما المخيمات الإفريقية بالمغرب، فإها غيتوهات محروسة بأعين مغربية متربصة مقرفصة على حواشي المخيم ، تنتظر فرائسها التي قد تنفصل عن قطيعها في لحظة طلب قضاء الحاجة كما حدث لكاميلا أو لشيء أخر، كما أنهم يتعرضون لاعتداءات بعض سكان المنطقة كما جاء على لسان عيساتو «حتى إن باباكار قال إنني مسلم وفي بلد مسلم ، لكن أغلبهم كما تعرفين -اي المغاربة- لا يرى فينا سوى اللون الأسود نحن بالنسبة لأغلبهم زنوج». والعيش بالمخيم وعلى لسان أديسا : « صعب ومحفوف بالمخاطر» وتضيف وهذا الاخطر فعلا « وليس أمامنا سوى المقاومة والتشبث بالامل ، ولن تمنعنا قوة في الارض من العبور الى الضفة الاخرى « فالمغرب هنا القناة النارية الحارقة التي تقف بين الامل وتحقيقه.
والطريق الى بليونش حيث مخيم الافارقة، وعر وملتو وفي الطريق تقول كاميلا «تعرضنا لبعض المضايقات من بعض المهربين « وباباكار مرافقها يرتعد في طريقهما الى بليونش، حتى عندما تتحرك كاميلا الى بليونش ثانية لتبحث عن اديسا بعد أن لاحقها مفتش الشرطة ثانية، تقطع المسافة من كاسطييخو الى بليونش كما يقول الكاتب: «وهي خائفة في الطريق الموحش والمقفر وأحست بفرائصها ترتعش من رهبة المكان». كنا سابقا نخاف عليها من الانسان فقط اما الان فقد تمادى الكاتب الى الطبيعة حتى صارت كل الخلفيات المؤطرة لمشهديات الرواية مرعبة كأفلام الرعب حيث لا يكتفي المخرج فقط بالأفعال بل أيضا بالاصوات والصور المرعبة للطبيعة، وهكذا تضفي الطبيعة التجريدية على الرؤية برودة وحشية وصارمة وشذوذية.
عندما سيولد طفل كاميليا الناتج عن الاغتصاب الذي تعرضت له من قبل المغاربة، وبشبوب وافتعال إنشائي مبالغ بل لا داعي له، بل يأتي ليختم المصادرات المؤكدة عن تشابه المغاربة البغيض، فالطفل ابن أديسا وبعد أن تضع كاميلا مولودها سيقول لأمه إن كاميلا ولدت طفلا له ملامح مغربية تشينوس، وأديسا أيضا تبينت من ملامح الصبي أنه اقل سوادا ويشبه بعض المغاربة . جملة لا معنى لها إلا التوكيد على التعميم البغيض للمغربي.
رواية «المشي على الريح» رواية للاحتفاء التذكاري الغث والمفتقر للبهجة الفوارة للمغاربة، لا انكر ان السرد الروائي عند البجوقي في الجزء الثالث أعلى قيمة وجمالية ، وينم عن تطور عال في صياغة سردياته لكنه كان محكوما برؤية أبعدته عن «أدب المنفى» ومصوغاته.


الكاتب : عــزيـز قــنجاع

  

بتاريخ : 03/01/2020