أجدني مضطرا ـ والمناسبة شرطٌ ـ للاستشهاد بجزء من حديث شريف؛ يقول صلى الله عليه وسلم، بعدما أُمِر بالجهر بالدعوة:
“… يا بَني عبدِ المطَّلِبِ! أنقِذوا أنفسَكُم منَ النَّارِ، يا فاطمةُ بنتَ مُحمَّدٍ ! أنقِذي نفسَكِ من النَّارِ، فإنِّي لا أملِكُ لكِ من اللهِ شيئًا …” الراوي: أبو هريرة، وأخرجه البخاري في “الأدب المفرد”.
وتفرض هذه المناسبة، كذلك، عرض الفقرة الأخيرة من رواية “يوبا أعراب”:
“..قلتُ وقد أعجبني كلامُه: لقد اقتنعتُ بما وصلتُ إليه.
سألني: وما الذي وصلتَ إليه؟
أجبتُ: إنني وقبيلتي أمام مفترق طرق، السير في أحدهما يقودُنا إلى الفيافي والقفار والخلاف الهدام والمواجهة والصراع بادعاء صفاء الأعراق والأصول ورفض الهُجنة والاختلاط، والبحثِ عن شواهد تشبه تلك التي قرأت في رحلات بعض أهل المغرب إلى المشرق، واتخاذها دليلا على ضيم حصل، وظلم ساد، واعتداء خلّف جروحا وندوبا.
وأما الطريق الثانية فإنها تقودنا إلى ما يجعل الفضاء الذي جمعنا فوق الملل والنحل، وأن مقاصدنا فوق أصولنا، وأن النبش في زلات الماضي لا يعطينا الحق في خلق شروط ما يفرق ويهدم، وأن من حقنا أن نكون ما نعتقده بشواهدنا التي توجهها مقاصدُنا، وأن الانتماء إلى الجغرافيا أقوى من هوى التاريخ وأهوائه ذات الأعناق الهشة والعظام المنخورة القابلة للتوجيه حيثُ تريدُ الفتنُ.”.
وبعد هاتين العتبتين لهذا التقديم أقول: طرفان، أو حلان يتجاذبان هذه الرواية، حلُّ يميل إلى صفاء العرق، وتفرُّد النسب؛ وحلٌّ يوحد الجميع لما فيه خدمة الجماعة.
لا بد هنا من الإشارة ـ مع مراعاة الإيجاز ـ إلى بعض من الثيمات التي تهيمن في هذه الرواية، وهي ثيمات تحتاج ـ دون شكٍّ ـ إلى دراسات متنوعة الاختصاصات والغايات:
1) قضية التاريخ والنوايا:
في التنوير العام مع عتبات الرواية، نجد ضمن عبارة لبول ريكور ما يلي :” لا يستشير أحدٌ الأرشيف من دون مشروع تفسير..” .
وهنا لابد من الإشارة مع ” بول فين ” إلى وجود تقارب ما بين الشعراء والمؤرخين في هذا الباب، إذ بإمكان المؤرخ ،على غرار الشاعر، أن يمدح سلطة الحاكم، ويمجد أفعالها؛ وبإمكانه أن يجعل من سيرورة التاريخ السابق مجرد مبشِّر بهذا الحاكم، … وبإمكانه أن يبث في رواياته هجاء مُرّا لخصومه، فيسِمَهم بكل الصفات الذميمة، ويربطهم بكل واقعة خبيثة.
ربما بسبب هذا التشابه اهتم الشعر والتاريخ العربيين بالأنساب، بحثا عن دلائل تؤكد أحقية السلطة بوضعها، وتدفع العامة إلى احترام نسبها الشريف المتصل بالمجد التَّليد … “.
وربما تقف الرواية من شخصية جمال عبد الناصر موقفا ذا قطبين متصارعين؛ قطب الهجاء مع ناصر { ربما كان هذا من باب التسمية بالضد}، وهنا نجد المثالب المنفِّرة ، وقطب المديح مع بعض الصفات الرائعة . جاء في الصفحة 27 من الرواية ما يلي :
“.. أجابني: نعم يا عمي، فمهنتي سمحت لي بالاطلاع على ما ليس بإمكانكم معرفته، كما أن قربي من قيادة الحزب سمح لي بمعرفة خفايا المواقف، وكشف صورة ناصر الحقيقية. وقد بدا لي أن الرجل فرقنا ولم يوحدنا، فناصر ناصر من أصروا على الاختلاف معنا، وتدخل في اليمن، واتحد مع سوريا ثم انفصل عنها، ونفخنا بخطابات الانتصار لنحصد الهزيمة، وساير إخواننا المسلمين، ثم أعدمهم … فقولوا لي بربكم يا عمي، ويا أهلي في باديتنا العزيزة: أي جمال ذاك الذين تحبون.
كنتُ مشدوداً إلى حديث ابن أخي، لكن دواخلي كانت مصرة على عدم تصديقه، لذلك بادرته بالقول: أليس جمال من رفع رؤوسنا وطرد المحتل البريطاني، وناصر حركة تحريرنا ؟
قاطعني ابن أخي : لكنه من ضاعت منه فلسطين …” .
2) الترقيم الشعبي المرتبط بالثقافة الشعبية:
وهنا ننتقل إلى استعمال شبه طقوسي لعدد وتنوع الألوان، وكذا الأرقام : مثل الشفاء في اليوم الثامن وفي عدد الرحلات وعدد دوائر الأريكة، وكذا الشروط الأربعة لدخول المقام .
1) العلامات أو طقس الدخول والخروج، أو جمالية الباب والعتبات:
فمن العلامات المرتبطة بالشخصيات ما يلي: ” .. وقد توجهتُ لزيارتهم باكرا والتقيت حامي المقام، ومقدمه، وشيخه الأكبر فسألني عنك، وعن صفاتك وشكلك وملامحك. وبعد أن فعلت ذلك، طلب منّي مهلة للاطلاع على ما دوّن في الكتب الرصينة. وبعد أن فعل عاد ليخبرني بأن هذه الكتب ذكرت معالم من سيأتي للبحث عن جذور غابرة وأسرار مطمورة وأنساب مطموسة بفعل الفاعلين، وأن إشاراتها وافقت علاماتك الظاهرة مما تعلم، والخفية مما لا تعلم، كما أنها تتنبأ بمآلك ومآل دعوتك، وما تطلب. وبحكم كل ذلك فقد قبل الشيخ المقام استقبالك بشروط ..”
ومن علامات العتبات ما ارتبط بخطوط الكتابة،وتنوع الألوان،ودوائر الأريكة : جاء في الرواية (وجدته ـ أي شيخ المقام ـ جالسا فوق أريكة مزينة بلون قاعدي أزرق بدوائر متعددة تبتدئ بأزرق غامق يتدرج إلى الفاتح، وعندما أحصيت الدوائر وجدتها سبعا. أما الشيخ فكان يرتدي جبة ناصعة البياض، ويضع فوق رأسه عمامة زرقاء، ويزين صدره بحلي صفراء وفضية تلمع من بعيد، ويتكئ على عكاز برأس يحمل صورة صقر بارز المخالب ” .
وهنا تبرز فرصة تشييد معنى الفضاء سيميائيا مع يوري لوتمان، أو تعميق نتائجه في مجال المتخيل مع غاستون باشلار؛ خاصة وأن الشيخ يخصص ما يقرب صفحتين ليشرح للزائر معاني هذه الفضاءات، وارتباطها بحفظه من غواية تقليد الآخرين، وبالترحم على الأجداد .
3) التحول أو المسخ:
من جهة تصف الرواية في بداية الفصل الثالث {سر المقام الأزرق} المرأة بأنها تحتل مكانة كبيرة لأنها” .. من يسهر على تبليغ رسائل الأجيال لبعضها..” ؛ وقبل هذا نجد الأخ الأوسط يستغرب من مسخ المرأة ليلة عرسها عوض مسخ زوجها لأنه كان فاسقاً ؛ وفي هذه الرواية يشمل المسخ تحول أرض الفلاحة والعطاء، إلى أشلاء أرض عقيم بعد فرقة الأبناء وصراعهم بسبب خلافهم حول ما ورثوه عن أبيهم، وقبل هذا يشكل مسخ أو تحول خزاني الحبوب والقطاني بسبب بخل صاحبهما إلى هضبتين جامدتين، ولعل هذا يدخل ضمن المواعظ المرتبطة بالقيم، وبالأساطير التعليلية للظواهر الطبيعية.
عندما ينهي الجد الحكاية الأولى “.. يعلق قائلاً: إنه الطمع ينسي صاحبه ما يملك، وإنه درس الخالق بضرورة القناعة والابتعاد عن الجشع..”
4) الكرامات والأولياء:
للأولياء سمات خاصة في رواية “يوبا أعراب”، فمقامهم يتجاوز خطر الأفراد من العامة إلى قهر السلاطين، وهنا يصف بصيغة رواة الأخبار والغزوات، والتفصيل الدقيق العاصفة الرملية التي حالت دون تقدم جيش أحد السلاطين نحو كنوز المقام. ومنذ هذا الحدث، توقف كل تطلع إلى الاستيلاء على المقام الأزرق فترك لشأنه وأهله… . ومن كرامات الشيخ ناقته التي تعرف مسار الطريق؛ فهي:”.. تقرأ أفكاره، وتعرف اتجاهه ووجهته بمجرد انطلاقه، وقد اعتبرت تلك بركة من بركاته..”.
5) الرؤى والتعبيرات:
إنها رؤى تتحكم في سير أحداث الرواية، وتغير اتجاهاتها ، فمثلاً سمح الجدّ لحفيده بمتابعة الدراسة بمركز القرية، بعدما كان حريصا على متابعة خطواته عن كثب:” رأى الوالد فيما يرى النائم ابنه الشهيد وهو يقبّل يده، ويحمل بين يديه ابنه المراحي، وقد ارتدى أجمل الثياب وأحسنها، ويضع على رأسه إكليلا من الزهور الفواحة برائحتها الطيبة، ويداعب أوراق كتاب دونه بيده. وعندما استفسر من يثق في تفسيرهم الأحلام، أخبروه أن تلك بشارة خير، وأن الطفل سيمتهن الكتابة فيؤرخ لوالده الشهيد ..” . كما أن المراحي بعدما كبر، وفي سياق رحلاته بحثا عن الوثائق، يقول السارد / المراحي :” .. وحلمت بحصان كالبراق ينقلني إلى الفضاءات التي توصلت إلى أنها تضم وثائقنا المدونة، وكلما نزل برّاً ، في مكان خلّف أثراً وعلامة تشبه صفيحة حصان الإمام علي التي في قريتي ..”
6) الألفة والغرابة:
يصبح الغريب مألوفا حين يطابق عناصر موجودة في القرية الأم، مثل الزرابي والصفيحة التي مرت بنا تصبح مألوفة لمجرد أن لها شبيها هناك بين الأهل. والغريب أن غياب الصور في المكان الغريب يزيده غرابة، ولهذا يتساءل السارد :”.. ألا يعرفون ناصر وجمال وسيدنا علي والبراق وسفينة نوح ..” . 45
7) العدو الخفي
العدو الخفي أو العيون التي تحيط بالشخصيات مثل الهواء. إنها تجعل شخصيات الرواية تفكر ألف مرة قبل أن تنبس ببنت شفة؛ ومن الأمثلة على ذلك :
• ” .. سأكلمك صباحا كي لا يُخبر أحداً بوجهتك .. ” “.. علينا أن نخفي قلوبنا، ونبعدها عن ألسنتها ..” “.. كن حذراً … ولا تجعل أسئلتك تفضحك .. ”
• “.. تاريخنا غير المجيد يشهد بأن الكثير من الرسل حملوا حتفهم في مضمون رسائل كلفوا بإيصالها إلى جهة ما ..”
• “.. وتقية من عيون المتربصين بالمقام وكنوزه ..”
فكلما قرأت عبارات عن هذا العدو في رواية ” يوبا أعراب” تذكّرتُ عدوَّ “صنعاء” في قصيدة عبد الله البردوني، يقول الشاعر اليمنيّ :
وهل تدرينَ يا صنعا من المُستعمـــــر السِّري
غُزاة لا أُشاهِدهُـــــــم
وسيفُ الغزِو في صدري
فقد يأتونَ تبغاً فـــــي
سجائرَ لونُها يُغـــــــــري
وفي صدقاتِ وحشيِّ
يؤنْسِنُ وجهَهُ الصّخري
وفي سروالِ أستــــاذٍ
وتحتَ عِمامَة المُقـْـري
وفي أقراص منع الحمـ
ـــــلِ فــي أنبوبَةِ الحِبْرِ
وفي عَودِ احتلالِ الأمـ
ـسِ في تشكيلِةِ العَصري
وفي قنيةِ (الويسكي)
وفي قــــــــارورةِ العِطرِ
ويستخفُونَ في جِلدي
وينسلُّونَ من شَعْـــري
هوامش:
-1 يوبا أعراب ـ رواية ـ جمال بندحمان ـ إفريقيا الشرق ـ ط 1 سنة 2025 ـ
-2 مفرد البخاري.
-3 يوبا أعراب : 177 ـ 178 .
4 نفسه : 4 .
-5- Il cru a leurs mythes 11ـ ont Les Greacs
-6 يوبا أعراب: 27.
-7 يوبا أعراب : 51 .
-8 نفسه : 55
-9 نفسه.
10- نفسه : 99
11- يوبا أعراب : 51
-12 نفسه 53 ـ 54 .
13-نفسه : 59 .
14- نفس: 11 .
-15 يوبا أعراب : 38 .
-16- نفسه: 59 ـ 61.
17-نفسه 56 .
18- يوبا أعراب : 23.
19- نفسه : 56.
20 نفسه: 45.
21- نفسه : 9 و 10 .
22- يوبا أعراب : 15 .
23 نفسه : 55.
24 – ديوان عبد الله البَرَدُّوني ـ الأعمال الكاملة ـ الجزء الأول ـ مكتبة الإرشاد ص 650 ـ ط 4 سنة 2009 صنعاء ـ اليمن .