سباق الاستقلال التكنولوجي العالمي: هل يكمن مفتاح التفوق في الحوسبة الكمية؟

 

«قد حان الوقت لتتذكر كل حكومة، وتؤمن بما لا يدع مجالا للشك، أن خسارتها لسباق الحوسبة الكمية الدولي والوطني، سيؤدي باستقلالها التكنولوجي إلى التآكل، وستنتهي معه حياة قدرتها التنافسية العالمية أيضا».
كاتبو المقال لموقع فورتون (fortune.com).

تتنافس كل دولة، لاسيما أقطاب التكنولوجيا في العالم (الولايات المتحدة، الصين، أوروبا) للحصول على السبق في السباق نحو المستقبل الكمي العالمي. فقبل عام من الآن، تعاونت «الولايات المتحدة» و «المملكة المتحدة» و «أستراليا» لتطوير التطبيقات العسكرية للتقنيات الرقمية، وخاصة تقنيات الحوسبة الكمومية، إذ جاء ذلك في أعقاب تمرير قانون «مبادرة الكم الوطنية» في عام 2019 من قبل الكونغرس الأمريكي، والذي يسعى لإنشاء قاعدة قوية لـ»قدرات الحوسبة الكمية» بسرعة في البلاد.
في وقت سابق، أطلقت أوروبا مشروع أبحاث الحوسبة الكمية بقيمة مليار دولار أمريكي يحمل إسم «كوانتوم فلاغشيب» أو «Quantum Flagship» في عام 2016، وبدأت الدول الأعضاء في بناء بنية تحتية ل»لإتصالات الكمية» التي سيتم تشغيلها بحلول عام 2027. في السياق نفسه، تطبق الصين خطة «الخمسية الرابعة عشرة» (2021-2025) التي تعطي الأولوية ل»تطوير الحوسبة الكمية والإتصالات» بحلول عام 2030، حيث استثمرت «الصين» بين عامي 2019 و 2021 ما يصل إلى 11 مليار دولار، نفس الأمر و في نفس الفترة (تقريبا) لكل من «أوروبا» ب5 مليارات دولار، و 3 مليارات دولار بالنسبة للولايات المتحدة، و»المملكة المتحدة» حوالي 1.8 مليار دولار، بهدف أن تصبح قوى كمومية عظمى في الغد القريب.
ونظرًا لأن التطور العلمي لتقنيات الحوسبة الكمية وفيزياء الكم، يكتسب زخما دوليا منقط النظير، فقد تحول بناء «أجهزة الكمبيوتر الكمومية» إلى أولوية للدول التي ترغب في اكتساب الميزة التنافسية التكنولوجية المستقبلية في العصر الرقمي، ساعين إلى هذه الميزة لسببين مختلفين للغاية. ومن ناحية أخرى، ستمارس الحوسبة الكمية سطوتها على كل مناحي الصناعة البشرية تقريبا، من «السيارات» و «الطيران» إلى «التمويل» وصولا إلى «المستحضرات الصيدلانية»، كما يتوقع أن تخلق هذه الأنظمة قيمة سوقية جديدة تتراوح ما بين 450 و 850 مليار دولار على مدى 15 إلى 30 سنة القادمة، وفقًا للتقديرات الإقتصادية الأخيرة.
من ناحية أخرى، ستشكل أنظمة الحوسبة الكمومية تهديدًا كبيرًا للأمن السيبراني في جميع أنحاء العالم، إذ سيتمكن المتسللون من استخدامها لفك تشفير المفاتيح العامة التي تم إنشاؤها بواسطة نظام التشفير «آر-إس-إي» (RSA) لاختراق أمان أي جهاز أو نظام أو شبكة مشفرة تقليديًا، ما سيشكل تهديدًا إلكترونيًا قويًا يعرف شعبياً ب»Y2Q» (السنوات إلى الكم) يهدد الأفراد والمؤسسات وكذلك الشركات و حكومات الدول، سيجبرها (كل الجهات المعنية) على مواجهة هذا التحدي غير المسبوق من خلال «تطوير تدابير مضادة» مثل «تشفير ما بعد الكم»، والذي سيتطلب في حد ذاته استخدام أنظمة الكم.
يبدو، في نفس السياق، أن دول العالم قد تعلمت ب»الطريقة الصعبة» منذ الثورة الصناعية أن التقنيات ذات الأغراض العامة مثل «الحوسبة الكمية» ضرورية للقدرة التنافسية. فعلى سبيل المثال، مجال «تصنيع أشباه الموصلات»، الذي هيمنت عليه «الولايات المتحدة» و»الصين» و»كوريا الجنوبية» و «تايوان» في السنوات الأخيرة، حتى عندما أدت جائحة «كوفيد-19» وعوامل أخرى إلى انخفاض مفاجئ في الإنتاج على مدى العامين الماضيين، مع توقف الإنتاج وزيادة الأسعار في أكثر من 150 صناعة، بما في ذلك «السيارات» و»أجهزة الكمبيوتر» و»أجهزة الاتصالات».
تعرضت العديد من الدول، من بينها المنتمية «للاتحاد الأوروبي»، و معها «البرازيل» و «الهند» و «تركيا» و حتى «الولايات المتحدة» لضربة شديدة بسبب الجائحة (بشكليها المباشر وغير المباشر)، إلا أنها تحاول الآن إعادة بناء «سلاسل التوريد الخاصة بأشباه الموصلات»، وبالمثل، تصنع الصين معظم البطاريات الكهربائية في العالم، مقارنة بالولايات المتحدة المساهمة بحوالي 7٪ فقط من الإنتاج العالمي. لهذا السبب، أعلنت الولايات المتحدة مؤخرًا، عن حوافز مالية لحث رجال الأعمال والمستثمرين على زيادة القدرة التصنيعية للبطاريات الكهربائية على أراضي الولايات المتحدة.
بالنسبة للسيناريو السيء، فقد يكون ذا عواقب وخيمة إذا لم تركز البلدان والشركات على زيادة «سيادتها الكمية» على الفور، نظرًا لأن تطوير مثل هذه الأنظمة ونشرها يتطلب جهود القطاعين العام والخاص، فمن المهم أن تقارن الحكومات جهودها على كلا الجبهتين مع جهود الدول الأخرى.
من المتوقع أن تكون الولايات المتحدة، المرشح الأول عالميًا في مجال الحوسبة الكمومية بالاعتماد على عمالقة التكنولوجيا مثل «IBM» و «Google» لاختراع أنظمة الكم، ناهيك عن الشركات الناشئة التي تعمل على تطوير «تطبيقات البرامج الكمومية» التي تجذب ما يقرب من 50 ٪ من الاستثمارات في الحوسبة الكمية من قبل رؤوس الأموال الاستثمارية وصناديق الأسهم الخاصة، على الرغم من أن الحكومة الأمريكية خصصت 1.1 مليار دولار فقط لهذا الشطر من الورش الكمي الكبير، إلا أنها أنشأت آليات تنسق بشكل فعال جهود جميع وكالاتها مثل «NIST» و «DARPA» و «NASA» و «NQI».
بخصوص الصين، فعملت ذاتيا وداخليا على الحوسبة الكمية، حيث أنفقت على تطوير أنظمة الكم أكثر من أي دولة أخرى، كما عززت هذه الاستثمارات ب»البحث الأكاديمي»، مخرجة أكثر من 10٪ من الأبحاث العالمية في المجال خلال 2021، أي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. ولكي نقيس التقدم الصيني، تمكنت جامعة العلوم والتكنولوجيا الصينية (USTC)، بعد أقل من سنة من إنجاز الحاسوب الكمي الخاص ب»غوغل» من حل مسألة حسابية كانت ستستغرق الحواسيب الخارقة آلاف السنوات لحلها في دقائق معدودة، من حل مسالة حسابية أعقد منها ب3 مرات. و اعتبارًا من شتنبر 2021، لم تكن الصين قد أسست لنفس العدد من الشركات الأمريكية الناشئة في المجال، لكنها كانت تعتمد على عمالقة الرقميين مثل «Alibaba» و «Baidu» و «Tencent» لتطوير التطبيقات الكمية.
يعمل الاتحاد الأوروبي، على الدفع بجهود الدول الأعضاء وكذلك الاتحاد نحو الأمام، من خلال تنسيق العمل على برنامج «كوانتوم الرائد» أو «Quantum Flagship» التابع للاتحاد الأوروبي و المشاريع البحثية في جميع أنحاء القارة العجوز، وبالرغم مما تواجهه من عقبات تعيق سيرها بشكل متواصل وثابت حتى الآن. هناك أيضا، العديد من الجهود المهمة على سبيل المثال من «فرنسا» و «ألمانيا» التي تتعرض لخطر «الازدواجية» أو لا تستغل أوجه التآزر بشكل كافٍ. في حين أن الاتحاد الأوروبي قد أنشأ العديد من الشركات الناشئة التي تعمل على مستويات مختلفة من مثل «IQM» في فنلندا و «Pasqal» في فرنسا، إلا أنه ومن غير المرجح أن تتوسع آفاقها بسبب نقص التمويل في المراحل المتأخرة، بالرغم من اجتذاب الشركات الناشئة في الاتحاد الأوروبي لحوالي «7/1» التمويل مثل نظرائهم الأمريكيين.

*الروافع الأربعة لـ «السيادة الكمية» العالمية!

في الوقت نفسه، يتحول التركيز في «صناعة» الحوسبة الكمومية إلى تحديات تطوير التطبيقات و اعتماد التكنولوجيا بشكل متوسع، يوفر هذا التحول للبلدان، وخاصة الدول التابعة فرصة للحاق بالزعماء في المجال قبل فوات الأوان. ولفعل ذلك، يجب على الحكومات العالمية استخدام أربعة روافع لتسريع سيادتها الكمية:
1- وضع الأسس: يتعين على الحكومات أن تستثمر أكثر مما تفعله حاليًا ،إذا كانت ترغب حقا في تطوير أنظمة كمية قوية وفعالة بمرور الوقت، حتى عندما تعقد شراكات لـ»إعادة» رد التكنولوجيا إليها على المدى القصير. وبمجرد تأمين الأجهزة الأساسية لهذه التكنولوجيا، يجب على الدول إنشاء «بنية تحتية مشتركة لتوسيع نطاق الصناعة»، كما قامت هولندا على سبيل المثال، بإنشاء «Quantum Inspire»، منصة توفر للمستخدمين الأجهزة اللازمة لإجراء الحسابات الكمومية.
2- التنسيق بين الشركاء ذوي المصالح: يجب على الحكومات، كذلك، استخدام التمويل والتأثير (بأنواعه المحمودة) لتنسيق عمل الجهات الفاعلة كانت عامة أو خاصة، كما يفعل مكتب «التنسيق الكمي الأمريكي» على سبيل المثال. بالإضافة إلى ذلك، يجب على صانعي السياسات ربط «الشركاء ذوي المصالح» في ما بينهم لدعم تطوير هذه التكنولوجيا، وهكذا دخلت «وزارة الطاقة الأمريكية» على سبيل المثال، في شراكة مع «جامعة شيكاغو»، و أنشأتا معا «مسرعا» لربط الشركات الناشئة بالمستثمرين والخبراء و العلماء.
3- تسهيل الانتقال إلى الحوسبة الكمية: ينبغي على الحكومات، دعم الانتقال من قطاع الأعمال إلى قطاع الاقتصاد الكمي، من خلال تقديم «حوافز نقدية» و»إعفاءات ضريبية» و «مساعدات مالية لتنمية البنية التحتية» و «التمويل بدون فائدة» أو «منخفضة الفائدة» و «الأراضي المجانية»، حتى يتحول أصحاب الوظائف التقليدية الحاليون إلى التقنيات الكمية بسرعة، كما فعلت المملكة المتحدة على سبيل المثال، وقامت مؤخرًا بتوسيع مخطط «الإعفاء الضريبي الخاص بالبحث والتطوير» لتغطية الاستثمارات في التقنيات الكمومية.
4- تنمية المواهب التجارية و الاقتصادية: بدلاً من تنمية والرقي بالأكاديميين والعلماء فقط، يتوجب أن تحفز الحكومات السياسات الحكومية لـ»إنشاء جيل جديد من المواهب الريادية والتنفيذية» التي يمكنها شغل الأدوار الرئيسية في كل ما يتعلق بالحوسبة الكمية. رأت سويسرا على سبيل المثال، أن تسريع العملية الانتقالية إلى الحوسبة الكمية، يكمن في إنشاء برامج «ماجستير» بدلاً من تقديم برامج «دكتوراه» دراسية و أكاديمية فقط حول هذا الموضوع.
في الختام، لا تؤثر جميع التقنيات ذات الأغراض العامة على أمن أي دولة وسيادتها كما تفعل الحوسبة الكمية، إلا أنها ضرورية لشحن القدرة التنافسية. بينما تتحدث العديد من البلدان عن تطوير القدرات الكمية، فإن جهودها على النقيض من ذلك لم تترجم إلى تقدم كبير كما هو الحال في «الولايات المتحدة» و «الصين».. لذلك، نرى أنه: «قد حان الوقت لتتذكر كل حكومة، وتؤمن بما لا يدع مجالا للشك، أن خسارتها لسباق الحوسبة الكمية الدولي والوطني، سيؤدي باستقلالها التكنولوجي إلى التآكل، وستنتهي معه حياة قدرتها التنافسية العالمية أيضا».
(المصدر: fortune.com)


الكاتب : ترجمة: المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 10/09/2022