ستار

مازال ما نزلش الستار آ كلثوم مازال… ظلت هذه الجملة تعاد على مسامعي طوال المسافة التي قطعها القطار من الجديدة إلى محطة الدار البيضاء للمسافرين في ذلك الصباح البارد الذي لم تظهر شمسه بعد.
كانت العبارة غريبة ..لماذا يرددها ذلك الرجل الذي يجلس في المقعد المحاذي لمقعدي بصوت لا يكاد يسمع ..
من يخاطب ومع من يتحدث وعن أي ستار يتكلم ثم من يقصد بكلثوم ! ..
كان أغلب الركاب نياما، أو يحاولون اقتناص غفوة لذيذة قبل وصول كل إلى وجهته ..إلا هذا الرجل وأنا طبعا ..كنت أحاول ألا أنصت إليه، لكن صوته كان يصلني واضحا فالمسافة بيننا قريبة جدا والضوضاء التي تحدثها عجلات القطار وهي تحتك بالسكة الحديدية لم تستطع حجب تمتماته عن مسامعي..استرقت نظرة إلى وجهه، كان متوسط العمر ممتلئ الجسم، ملابسه عادية وميكة****، لم يكن فيه ما يريب.. يحملق في الظلام الدامس في الخارج ويحرك رأسه كما لو كان يخاطب عفريتا عبر زجاج النافذة .. كنت أحاول أن أفهم لماذا يردد ذات العبارة بين الفينة والأخرى..هل هو مستغرق في مكالمة هاتفية مع كلثوم هذه، أم أن النوم استبد به وأدخله عالم الهلاوس والأحلام أم هي مخيلتي تتلاعب بي كالعادة. كان شيطان النوم الذي مازال يقبع فوق أجفاني يراودني يحاول إغوائي بكل ما أوتي من أدوات الإغراء كي أسرق دقيقة تحملني إلى عالم الأحلام .. لكنني أقاومه ..لا أريد أن أصل العمل ولما يغادر النعاس بعد جفوني ..سأبدو مثل الضفدع نؤنؤ ..بعينيه الجاحظتين المنتفختين الناعستين . .التفت صوب الرجل لأخاطبه «واش لاباس» لم يسمعني طبعا فكلامي لم يغادر شفتي.. لا أحب التطفل على الغرباء..
جبانة أنت بل ليست لديك الشجاعة لتسأليه عن الستار الذي لم ينزل وعن كلثوم ..أدخل في مشادة كلامية معي، مع نفسي، تنعتني بشتى الصفات وأنا أحاول الدفاع عن فكرتي..لا أعرف الرجل. لماذا سأساله عن أشياء لا تهمني..بل تهمك.. ألم تسمعي ما يقول؟ ألم يزعجك؟ ألم يصبك الفضول..شش.. اسمعي ها هو يرددها مرة أخرى.. اسأليه هيا ..
أويلي لا يمكن …
أوووف…
محطة بوسكورة.. يستيقظ بعض الركاب على صوت توقف القطار وتعلن المذيعة عبر مكبرات الصوت أن القطار لن يتجاوز دقيقة توقف، ينتفض الرجل وينظر إلى ساعته ثم يعود للانزواء في ركنه القريب ..يكمل الوحش الحديدي، كما كان يسميه المغاربة قديما، طريقه وأنكمش على نفسي تحت الشال الذي يحميني بعض الشيء من برد»الليالي» القارس..الله يرحمنا.. ..أسمع نفسي وأنا أجيب.. آمين .. أويلي.. مع من أتحدث؟؟ أفتح عيني لأجد جاري ينظر إلي وشبح ابتسامة ساخرة تتراقص على زاوية فمه …واقيلا كتحلمي.. قال ثم عاد لينظر من النافذة .. أنا لي كنحلم ولا أنت..أردت الصراخ في وجهه لكني لم أفعل طبعا.. بدأت أشعة الشمس تتسلل إلى الداخل في خفر..لكنها لم تطرد بعد الجو الصقيعي المخيم داخل العربة ..سمح لي أزعجتك !
لم يلتفت إلي حتى ..عاد إلى قوقعته .. وعدت أصارع فضولي ورغبتي الجامحة التي استبدت بي، لا بد أن أعرف هل هذا الرجل الذي يجلس جانبي في كامل قواه العقلية أم أن لوثة أصابت عقله..يعود ليردد نفس الجملة «مازال مانزلتش الستار آ كلثوم «.. يحرك أصابعه كأنه يمسك سبحة ويردد الجملة في خشوع صوفي يحسد عليه. لقد كان في عالم آخر خاص به.. ترى ماذا يدور في خلده.. ما زلت أتساءل …محطة الوازيس ينهض فجأة ..يتجه صوب الزاوية التي يضع فيه الركاب أمتعتهم، يأخذ حقيبة كبيرة سوداء من تلك الحقائب ذات العجلات ..يحاول جرها نحو الباب لكنها تعلق بين الحقائب الأخرى، القطار توقف والدقيقة على وشك الانتهاء لكن الحقيبة تأبى مغادرة مكانها، أثب لأساعده شكرا يقول ثم يجري ليلحق الباب قبل أن يقفل..
أعود إلى مكاني متحسرة .. غادر دون أعرف من هي كلثوم .ولماذا لم تُنزل الستار ..سأظل أتساءل طوال أيامي المتبقية عن قصة كلثوم مع جاري الغامض ….يصل القطار محطة الدار البيضاء المسافرين ..أسرع الخطى في اتجاه زنقة الأمير عبد القادر ..أصل عند الزاوية المحاذية للجدار الذي يفصل السكة الحديدية عن الشارع..هناك حيث يجلس بائع
السجائر..كان يجلس كعادته دون حراك كأنه صنم قد من الحائط الذي يتكئ عليه…بالقرب منه مذياع وكأس شاي ، الهواء البارد يحمل معه نغمات موسيقى شرقية من مقام السيكا، «فات الميعاد»، كم أحب هذه الأغنية ..أمضي في طريقي وألج الجريدة ..بتردد في رأسي مقطع من الأغنية..»ستائر النسيان نزلت بقالها زمان».. مقطع معبر فعلا ، كم من ذكريات تبتلعها الأيام وننزل عليها ستائر النسيان من زمان ، والعهدة على أم كلثوم !


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 04/01/2024