البطاقة التقنية للفلم
العنوان: سرير الأسرار
السنة: 2013
المدة:87 دقيقة
سيناريو: جيلالي فرحاتي عن رواية للبشير الدامون
مدير التصوير: كمال الدرقاوي
مهندس الصوت: كريم الروندة
توليف: كريم بوحمو
موسيقى: لوي مونكو
الممثلون: فاطمة الزهراء بناصر (الزاهية)، ماجدولين الإدريسي (وفاء شابة)، غيثة بلخدير (وفاء طفلة)، راوية (مي رحمة)، جيلالي فرحاتي (البشير)، حسناء الطنطاوي (إيطو)، ادريس زيطان(قريقش)، مصطفى حوشين(صرطحة)، نرمين الجبلي(سعيدة)، العربي اليعقوبي(الروخو)، سناء الركراكي(مليكة)، سيسيليا فرنانديز سوسور(كارمن)، أحمد بلخدير(جميل)، نعيمة طيب(شاطة)…..
إهداء: إلى بائعة الجنس التي جعلت مني رجلا مقابل دريهمات بئيسة.
ملخص الفلم
يتم استدعاء وفاء، امرأة شابة مسؤولة عن دار للأيتام ، من قبل الشرطة لتحديد هوية الجثة التي كانت وفاء لسنوات تظن أنها أمها. إنها جثة الزاهية بائعة الجنس. وتلك كانت مناسبة لوفاء لتغوص في ماضيها عندما كانت تقطن رفقة الزاهية بالدار الكبيرة والتي هي في نفس الوقت مكان للتجارة الجنسية.
عملية الاقتباس
عندما نقتبس عملا أدبيا للسينما فهو يفقد الكثير من مميزاته حيث لن نجد في الفلم لا أسلوب الكاتب ولا الوصف الذي يقوم به ولا الأحاسيس التي تخلقه فينا قراءة الرواية. هكذا إذن يمكن القول أن لا وجود لشكل فني قادر أن يترجم بدقة شكلا فنيا آخر.
كثير من المتفرجين الذين شاهدوا الفلم ولم يقرؤوا الرواية بل سمعوا فقط عن قيمتها الأدبية سيرجعون تفوق الفلم لاتكائه على الرواية ناسين أن استخدام الأدب، خاصة الأعمال التي لاقت استحسانا لدى القراء، لخدمة السينما لم ولن ينجح إذا كان المخرج لا يتوفر على عوالمه الخاصة ورؤيته الخاصة للعالم والسينما.
أضف إلى ذلك أن فرحاتي(أو غيره) مهما حاول فلن ينقل لنا عوالم «سرير الأسرار» الرائعة أدبيا وخاصة الصور الشعرية. ما يستطيع فعله فرحاتي هو استعمال موضوع الرواية وهذا ما قام به.
ثمة حذوفات هائلة قام بها فرحاتي حيث من قرأ الرواية وشاهد الفلم سيصاب بالذهول إذا ما حاول المقارنة. فقد حذف فرحاتي الجزء المتعلق بالبادية بكامله وهو جزء هام الرواية. فرحاتي أيضا قام بالعديد من التغييرات حتى يحافظ على عوالمه الخاصة كمخرج مؤلف. فيما يلي بعض من التعديلات الكثيرة التي أنجزها:
الرواية تبتدئ بالحديث عن صعوبة النسيان وكيف تجتاح ذاكرة الراوية صور من طفولتها وإن كانت مشتتة. في الفلم يقدم لنا فرحاتي محفزا أساسيا لحضور صور الماضي وهو موت الزاهية.
في الرواية ابن الجيران يوسف هو من نهر أخته كي لا تلعب مع وفاء لأنها ابنة «عاهرة» أما في الفلم فأم سعيدة هي من تقوم بذلك وهذا الاختيار الثاني هو الأقرب للصواب لأن الأطفال أبرياء لا يعترفون بعد بالنظام الرمزي للمجتمع.
السي الأمين في الفلم لا يستند عكازا ولا تلف رأسه عمامة كما في الرواية. إنه رمز المسلم المستنير والمنفتح ولذا فتعديلات فرحاتي في محلها.
مي رحمة في الرواية لها أخ صغير غير شقيق يدعى علي، كان يحضر بين الفينة والأخرى لزيارتها. في الفلم لا وجود له وهذا الأمر يتماشى مع العوالم الفرحاتية : بموت السي الأمين زوجها، تجد مي رحمة نفسها وحيدة دون سند ذكوري كما حال النساء في أفلام فرحاتي.
الاسترجاع الفني
إذا كانت السينما الحكائية تعتمد على توالي الأزمنة فإن فلم فرحاتي يكسر هذه القاعدة ما دام الحاضر والماضي يتزامنان وكأن الحاضر غير قادر على التحرر من الماضي وبالتالي يمنع الزمن من أن يتقدم، يوقفه. الاسترجاعات الفنية إذن متكررة في الشريط وهي بذلك تخلق نوعا من الانفصال الذي لا يتماشى مع ما عهدناه في السينما عن شخصيات تتذكر وتحكي لنا ما تتذكره بشكل مسترسل.
لقد ترك الماضي عند وفاء آثارا يصعب التخلص منها أو نسيانها. عندما نكون أطفالا يصعب علينا إعطاء معنى لبعض الأحداث؛ وسيلتنا الوحيدة لإيجاد المعنى هو أن نحكي هذه الأحداث وعبر المحكي ينبلج المعنى. مع موت الزاهية حان الوقت بالنسبة لوفاء كي تسائل ماضيها وتحاول تركيب أجزائه قصد فهمه على الأقل ولربما تجاوزه. مرتدية بذلة سوداء، تتذكر وفاء الشابة ماضيها وكأنها تحاول أن تقيم عليه الحداد أيضا مثلما تقيمه على الزاهية.
المكان ذاكرة تحفظ ذكرياتنا الشخصية ولكن أيضا العائلية والمجتمعية وهنا يكمن تفوقه على الذاكرة الفردية. وفاء لا تتذكر ماضيها فقط ولكن ماضي الشخصيات التي أثثت فضاء الدار الكبيرة.
لكن الذاكرة في سرير الأسرار هي ذاكرة مجزأة، مشتتة، متشظية لا تعرف الاسترسال كما في الأفلام الكلاسيكية حيث يتم الاسترجاع الفني بشكل مسترسل. الاسترجاع الفني يتم وفق محفزات ( علامات ترتبط بالماضي تحفز الذكرى) محددة نتعرض لها فيما يلي.
في بداية الفلم أول تذكر يتم عبر نظرة وفاء الشابة عبر النافذة ونحو الأسفل. في اللقطة الموالية التي هي بداية الاسترجاع الفني حافظ جيلالي فرحاتي على نفس محور النظرة وعلى نفس وجهة النظر. فعبر حركة كامرة من الأعلى إلى الأسفل ننتقل إلى صور الذكرى مع وفاء وهي طفلة وكأن وفاء الشابة تنفصل عن الحاضر لتغوص في ذاتها بحثا عنها قصد فهمها.
في زنقة بالمدينة العتيقة تظهر وفاء الشابة وهي تأكل بسكويتا. تظهر مباشرة سعيدة وهي تطلب من وفاء الطفلة قطعة من البسكويت. تظهر وفاء الشابة في المستوى الأول من الصورة مؤطرة من الظهر وفي المستوى الخلفي وفاء الطفلة وسعيدة. هنا يتداخل الحاضر بالماضي لكن عندما تستدير وفاء الشابة نحو الكامرة تختفي الفتاتان. هناك اختلاف بين وجهة نظر وفاء الشابة (وجهة نظر ذاتية) ووجهة نظر المخرج(وجهة نظر موضوعية). عندما تكون وفاء الشابة مؤطرة من الظهر تظهر لنا الكامرة ما تراه الشخصية، شخصية تعيش في الماضي لكن عندما تستدير نحو الكامرة تختفي الفتاتان لأننا فعلا في الحاضر.
في المقبرة يظهر الروخو ( أداء الراحل العزيز العربي اليعقوبي) يمتطي كرسي متحرك ويقوده شخص. يتقاطعان مع طفل يرتدي ملابس أكبر من حجمه (قريقش). يتهكم عليه أطفال متوجهون نحو المدرسة. تظهر وفاء الشابة في المقبرة ونظل نسمع صوت أقدام وضحكات الأطفال. نحن إذن أمام صورة تنتمي للحاضر وأصوات تنتمي للماضي.
تظهر وفاء الشابة خلف جدار وهي تنظر ثم تمر أمامها مي رحمة. تختفي وفاء لكن كامرة فرحاتي تتكفل بإظهار ما تراه وفاء ذهنيا.
تقف مي رحمة وزوجها في شارع يطل على إحدى الدروب وتؤطرهما الكامرة من قاع الدرب المظلم. ينادي الزوج على الزاهية ويطلب منها أن تترك الطفلة وفاء تصاحبهما فتفعل. هذا التأطير لوحده يعرفنا على العوالم المعتمة التي تعيش فيها الزاهية. فضاء الشارع يشع نورا عكس قاع الدرب. نحن أمام تضاد بين الضوء والعتمة. يمكن الإقرار إذن أن مي رحمة وزوجها السي الأمين هما من عملا على إخراج وفاء الطفلة من عوالم الزاهية وساعداها على الدراسة.
بالدار الكبيرة وهي خراب تمسح وفاء بيدها المرآة فتعكس هذه الأخيرة صورتها وهي طفلة وهي صورة تلغي الزمن ما دامت تلغي الحواجز بين الحاضر والماضي.
قرب سينما مغلقة ومهترئة تمر وفاء الشابة. تقف أمام باب القاعة فنسمع صوت أغنية هندية، صوت ذاتي طبعا يذكر وفاء بالأفلام الهندية التي كانت تشاهدها رفقة البشير والأطفال.
يعمل فرحاتي على تذكير المتفرج من حين لآخر بأن ما يشاهده مجرد ذكريات لوفاء الشابة. في إحدى المشاهد مثلا عندما تغادر وفاء الطفلة وصديقتها سعيدة بيت الزاهية تصعد الكامرة نحو الأعلى فتظهر وفاء الشابة وكأن ما رأيناه تم من وجهة نظرها.
تتحرك وفاء الشابة من مكان لآخر فتتحرك الكامرة زمانيا مع الحفاظ على نفس الأمكنة. إنه تحرك ثابت إذا جاز هذا التعبير المتناقض والذي من تبعاته أن الماضي يتداخل مع الحاضر في ذهن وفاء الشابة. الاسترجاع الفني في سرير الأسرار له طابع خاص فهو ليس نتاج عملية طوعية، إرادية كما هو معمول به بالسينما بشكل عام. الاسترجاع الفني في فلم فرحاتي يتم بشكل غير إرادي عن الشخصية ذلك أن الماضي في جبروته أقوى من إرادة وفاء ، وهو كذلك لأن الفضاء هو من يحيله على الواجهة، هو من يجعله يطفو على السطح.
فرحاتي يحترم إذن اشتغال الذاكرة. فهذه الأخيرة لا تنظم مراحل الحياة وفق شكل أفقي بل تظهر متزامنة أحيانا في نفس المكان.هكذا إذن يتعايش، في نفس الصورة، الحاضر والماضي وكأن الزمن الحاضر مسكون بالماضي ولربما المستقبل إذا اجتهد المتفرج قليلا في تأويل ما سيؤول إليه مستقبل وفاء انطلاقا من ماضيها وحاضرها.
في سرير الأسرار ترتبط عملية التذكر بالمكان فهو من يثير الذكرى وكأن الأمكنة، حتى لو كانت خالية، تحتفظ بالذكريات/الأسرار التي شكلت صدمات لوفاء الطفلة. المكان ذاكرة، ذاكرة تحفظ ما جرى.
هيمنة الماضي على الحاضر تؤكدها حتى المدة الزمنية التي يستغرقها المحكي الإطار والمحكي المتضمن فالمحكي الأخير تفوق مدته الزمنية مدة المحكي الأول.
وفاء بسبب ظهور ذكريات الماضي وهيمنتها على الحاضر تبدو كشخصية غير سوية. لكن عملية التذكر تساعد، في حد ذاتها، على التحرر من هوس الماضي وتساعد وفاء على تحديد نفسها انطلاقا من غوصها في ماضيها.
مهمة المتفرج إذن هي أن يستجمع في النهاية هذه الأجزاء ليضفي عليها وحدة وتناسقا وتماسكا تفتقده على مستوى الفلم.
أهمية الفضاء
أظن أن جيلالي فرحاتي في سرير الأسرار يولي للفضاء أهمية تفوق أهمية الزمن. ما يفرض نفسه على وفاء ليس استعادة فترات من زمن ولى بل أمكنة تمنت وفاء لو أنها شكلت مصدر راحة نفسية بالنسبة لها. المنزل، هذا المكان الضارب في أعماق الذاكرة والمرتبط في الفلم بالمراهقة، هو مكان يحمينا من مخاطر الخارج، لكن عندما يدخل الخارج عندنا فالأمر لا يطاق. في المتخيل المغربي لا يجوز اقتحام المنزل دون إذن؛ إنه فضاء شبه مقدس لكن وفاء تلاحظ أن هذا الفضاء الحميمي بالنسبة لها يدخله زبناء لا تربطهم به سوى رابطة تلبية الرغبة الجنسية.
يحتل فناء الدار الكبيرة حيزا مهما في الفلم لأنه فضاء نصف خاص. أما الغرف(غرف العلاقات الجنسية) فتظل فضاءات خاصة وبالتالي موصدة في وجه وفاء الطفلة وكذا المتفرج. قلعة النساء هاته وإن كان الرجال يقتحمونها فإن كامرة فرحاتي تمتنع عن فعل ذلك لأنه سيشكل مسا بالحياء كما هو متعارف عليه في ثقافة الجمهور العريض بل هو انتهاك للغز يجب أن يستمر.
منزل مي رحمة والسي الأمين يمكن اعتباره مكانا عابرا لأنه ليس مكان الأم( تظن وفاء أن الزاهية هي أمها).
الإحساس بالمكان وليس بالزمان لأن المكان يشكل مصدر وجودنا، مصدر هويتنا ودونه الضياع. المكان تجسيد للوجود، للجسد. يمكن اعتبار وفاء كائنا دون جسد ما دامت دون مكان. فالغائب الكبير في «سرير الأسرار» هو منزل وفاء وكأن الدار الكبيرة هي المنزل الوحيد الذي لم تنعم بالعيش فيه سعيدة وبالتالي لن تعرف السعادة.
يحتل فضاء المقبرة هو الآخر في الفلم حيزا هاما. في كل المشاهد التي تظهر المقبرة، تبدو هذه الأخيرة في المستوى الأول في حين تظل المدينة في الخلفية. بل إن اللقطة النهائية من الفلم التي هي لقطة ثابتة تبدو فيها إيطو في المستوى الأول والمقبرة في المستوى الثاني والمدينة في الخلفية. في ثالث ظهور للمقبرة ثمة لقطة للمدينة لكن عبر حركة بانوراميك خلفي تظهر المقبرة في المستوى الأول وتتوارى المدينة في المستوى الخلفي من اللقطة. فرحاتي عبر تكوين الصورة هذا يضع تقابلا بين عالم الأحياء والأموات. وكأن الشخصيات التي تعبر المقبرة ميتة رغم أنها حية.
يوضح المشهد، الذي تناجي فيه مي رحمة زوجها السي الأمين، أن المقبرة هي أيضا فضاء للذكرى بالأساس وإحساس بالضياع في غياب الزوج بالنسبة للمرأة. إنه مشهد يذكرنا بمشهد شبيه في شريط فرحاتي «عرائس من قصب» حيث تزور عايشة قبر زوجها كملاذ أخير.
المقبرة هي أيضا فضاء يتواجد به الروخو، هذا الشيوعي السابق الذي أصبح عاجزا عن المشي وسيلته الوحيدة للتنقل كرسي متحرك. فهل ماتت الشيوعية؟
مكان مهم بالفلم هو الدار المهجورة حيث يقطن المخنث. عندما يدخل الأطفال إلى دار مهجورة، يتلصصون على شاب مخنث وهو يضع ماكياج. يطلب منهم أن يكتموا ما عاينوه ثم يبكي.
الدار المهجورة تشكل ملاذا بالنسبة للمخنث لكنها في نفس الوقت تعبير عن عزلة خانقة. إنه مكان مفتوح على الخارج وبالتالي فهو غير آمن لأنه سهل الاختراق (دخول الأطفال إليه). هذا الاختراق يعكر صفو الحميمية التي يمكن أن تنعم بها شخصية المخنث خاصة وأنه كان يستعمل أحمر الشفاه (يتقمص الأنوثة) عندما باغته الأطفال، ممارسة غير مألوفة لدى الأطفال. المخنث يعيش بدار مهجورة توجد بمكان هامشي أي أنها بعيدة عن المركز وبالتالي فال مخنث غير معترف به (ليست له عائلة) سوى من طرف الزاهية، هامش آخر. وحده الهامش قادر على الإحساس بالهامش والتالي الاعتراف به ومساعدته.
اللباس والماكياج هي وسائل المخنث للتنكر تماما كما يفعل الممثل عند تقمصه لدور مختلف عن كيانه. مأساة المخنث هو أن المجتمع لا يعترف بهذا النوع من «المسرح» الذي يمكن فيه للمخنث أن يلعب أدوارا مختلفة. المجتمع يعترف بك عندما تكون ذكرا أو أنثى. إحدى التهم التي يوجهها الشرطي للمخنث (التهمة الأولى حيازة علب سجائر وخمر) هي الملابس النسائية التي يرتديها.
المخنث يتلاعب بالحدود المرسومة للذكورة والأنوثة وهذا ما تؤكده الزاهية عندما تصر لوفاء الطفلة بأن الدار المهجورة مسكونة تارة برجل وتارة بامرأة.
شكل وهيأة المخنث تثير فينا عادة شعورا بالاشمئزاز لأن القاعدة رسخت فينا شكلا رسميا للرجل والمرأة وكل خروج عن القاعدة أصبع مدعاة للضيق والحرج. فالمخنث في الفلم يعاني من التحرش والعنف لدرجة أصبح معها يرفض الخروج إلى الشارع.
بورتريه كارمن
عادة ما تتم جلسات رسم الجسد العاري داخل قاعات مخصصة بمدارس الفن. مرسم البشير هو هذه الغرفة بأعلى المنزل ( في سينما فرحاتي مكان الفنان دائما بالأعلى) وكأن رسم العري يقتضي الانعزال عن العالم الخارجي ما دام الأهم هو نظرة الرسام للجسد العاري، جسد معزول عن محيطه الاجتماعي، في حميمية بالأساس مع الرسام.
يتخذ الجسد مع البورتريه مكانة محورية حيث لا وجود لشيء آخر في اللوحة يشوش عليه. بفضل البورتريه يصبح للجسد حضور مكثف، طاغي لا شيء سواه يشوش على تفكيرنا ما دام موضوعا للتأمل، الموضوع الوحيد للتأمل. البورتريه، وهذه ميزته، يحتفظ بذاكرة الشخص، يخلده وهذا أكبر اعتراف.
عن طريق إنجاز بورتريه لكارمن بائعة جنس من أصول إسبانية يعيد فرحاتي الاعتبار للفنون التشكيلية وكأنها من بين الفنون الفن الذي له دور المرشد تماما كما كان الحال عليه بالنسبة لجيل التكعيبيين المستقبليين في بداية القرن العشرين علما أنه في عصرنا الحالي تتموقع الفنون التشكيلية في حيز صغير مقارنة مع الأفلام.
لا يمكن الحديث عن البورتريه العاري دون الحديث عن الملابس ذلك أن الجسد العاري يتخلص منها وكأنه يحن إلى مرحلة ما قبل اكتشاف الملابس، مرحلة البدايات، مرحلة آدم وحواء قبل ارتكابهم خطيئة أكل التفاحة، مرحلة لا مكانة فيها للمحرمات التي أثقلت بها كاهلنا حضارة الكبت.
لكن ما يلاحظ على بورتريه البشير هو أنه لم يخلع عن كارمن كل ملابسها بل وحده ظهرها عار وكأنه نصف بورتريه عار. وهنا يمكن أن أتساءل مع القارئ عن السر وراء ذلك.
بورتريه كارمن هو بورتريه جد مركز على الشخصية. على مستوى التأطير لجأ البشير إلى رسم عيني كارمن فقط . على مستوى التأطير لجأ فرحاتي أيضا إلى تأطير اللوحة كما هي وأظهر هو الآخر العينين عبر لقطة جد مكبرة. لا متسع لرؤية شيء آخر سوى العينين. لا شيء في الصورة أو في اللوحة يثنينا عن رؤية العينين ما دامت الصورة لا تتوفر على عمق. لا شيء يظهر في خلفية اللوحة وبالتالي لا شيء يشوش على النظر في وجهها. عندما تحضر الخلفية تصبح الشخصية لاعبة لدور معين في هده الخلفية وتنتفي مركزيتها. فالبورتريه إذن هو تمثيل للشخص في حد ذاته دونما اعتبارات خارجية.هدا البورتريه عندما يعم الشاشة تحضر الشخصية كامرأة بعيدة عن أي محيط، عن أي مكان وزمان، عن أية أخلاق. إنها امرأة وكفى، امرأة جميلة لا نملك ،نحن أيضا كمتفرجين، إلا أن نصبح، على غرار زبنائها، من عشاقها.
بإضافة البشير للشامات على ظهر كارمن يوهمنا فرحاتي أن البورتريه الذي سينجزه البشير يشبه بورتريهات النحاتين اليونانيين القدامى الذين كانوا يضفون بعدا جماليا على البورتريه يفتقده الشخص المرسوم في الواقع. لكن ما سيرسمه البشير ليست له علاقة بظهر كارمن بل بعينيها والعينان لهما علاقة بروح الشخص أو بدواخله وليس بالشكل الخارجي. البورتريه الحقيقي لا يكتفي إذن بالمظهر ولكن أيضا بالدواخل. للأسف، في تعاملنا مع بائعة الجنس بشكل خاص ومع المرأة بشكل عام، نختزل هذا الكائن في مظهره الخارجي لنجرده بالتالي من إنسانيته.
تشكل العينان في البورتريه الموتيف الأساسي. فالبشير يرسم عيني كارمن والعيون هي أقرب إلى الروح أو إلى الفكر منها إلى الجسد. ألا يقال بأن العيون هي «مرايا الروح» وبالتالي فإن ما يميز شخصا عن آخر هو نظرته.إنها صورة عاكسة للمتفرج الذي هو الآخر في قاعة مظلمة لا يستعمل سوى عينيه لا كل جسده.
أظن أن الجواب عن كيفية التعامل مع بائعات الجنس يأتينا من فن الرسم.
مشهد الاستحمام
مشهد النساء عاريات غالبا ما يشكل مصدرا لرغبتنا وغالبا ما يستفز غرائزنا نحن الرجال لأنه يذكرنا، في ظل وضعنا داخل قاعة السينما، بالخصاص(ملئ الخصاص يتم عن طريق الإشباع الجنسي ).
لكنني أظن جازما أن هذا المشهد لن يثير غرائز أي رجل تابع الفلم منذ البداية بعقله وعاطفته. أما إذا تمسك البعض بوصف هذا المشهد بالفاحش فيمكن القول أن الفاحش الحقيقي هو المجتمع الذي أنهك هذه الأجساد وجعلها سلعة تباع وتشترى. هذه الأجساد العارية، إذا ما أضفنا لها كلمات الأغنية التي تبرئها من كل مسؤولية، لا يمكننا إلا أن نلقي عليها نظرة إيجابية. إذا ما كان لا بد أيضا من الحديث عن الفحش في هذا المشهد فهو موجود في أعين بعض المتفرجين. أمام أجساد نسوية شبه عارية تشعر كمتفرج إنسان بأن أحاسيسك الجنسية شبه معطلة.
مشهد الاستحمام هو مشهد صور من وجهة نظر الطفلة التي تتلصص على المستحمات وبالتالي هي نظرة طفولية لهاته الأجساد وكأن جيلالي فرحاتي يدعونا كمتفرجين لأن تتطابق نظرتنا مع نظرة الطفلة. لتعزيز هذا النزوع من طرف المخرج فإنه يقطع مشهد الاستحمام مرتين ليرينا الطفلة وهي تتلصص.
أكثر من هذا، عن طريق الكادراج تظهر الزاهية في لقطة مكبرة تغني ودمعة تسيل من عينيها؛ فأية رغبة جنسية تثيرها هذه الأجساد؟
يمكن القول أن الجسد الفاحش هو الجسد الذي أصبح سلعة وهذا الأمر لا ينطبق على أجساد بائعات الجنس في المشهد؛ بل على النقيض من ذلك هذا المشهد يعيد لهن، هن المعروف عنهن بيعهن لأجسادهن، إنسانيتهن المفقودة في مجتمع أصبح كل شيء فيه بضاعة. عري الجسد السلبي من منظور المجتمع تتم مقابلته هنا بعري إيجابي من منظور الإخراج السينمائي لفرحاتي ما دام يعيد للأجساد كرامة سلبها إياها المجتمع الرأسمالي ويفتح النقاش حول الجسد الذي لا يفتح حوله نقاش ما دام موضوعا للاستهلاك ليس إلا.
إن فرحاتي كمخرج مؤلف لا يقترح علينا صورا الهدف منها الاستفزاز بل صورا لها سبب وجودها وهذا فرق جوهري. فالعري أثناء الاستحمام له ما يبرره.إنها صور عبر الغناء، تخلق تلك المسافة اللازمة بين المتفرج والأجساد التي يرى، صور تغيب فيها تلك المناطق المهيجة من الجسد، صور وإن كان الجسد العاري حاضرا فيها فهو حضور يخدم الإخراج السينمائي في آخر المطاف وليس حضورا في حد ذاته. أضف إلى هذا أن كامرة فرحاتي في هذا المشهد تحتفظ لنفسها بمسافة فيها الكثير من التعفف تجاه هذه الأجساد شبه العارية.
مشهد العري يعني أن الجسد هو الآخر يشكل مادة خام بيد المخرج يطوعها وفق تصوره الإخراجي لكن هذا المشهد وكون بعض الممثلات داخل الحمام بثيابهن يدل أيضا ربما عن رفض الخضوع لإرادة المخرج( بغض النظر عن الرقابة وعن موقف فرحاتي من مسألة العري في السينما). العري في السينما له دائما ما يبرره لأن الثقافة السائدة عودتنا على الأجساد المرتدية للباسها. عندما تتعرى الشخصية في الفلم ننساها ونفكر في الممثل الذي تعرى.
ولكي يعضد تماهي المتفرج مع الشخصيات لجأ فرحاتي إلى توظيف أغنية شعبية لها ارتباط شديد بالوجدان المغربي مما قد يساعد المتفرج المستمع على الإحساس بالانتماء إلى ثقافة بلاده.
تقول كلمات الأغنية الأولى:
حنيو نلالة حنة وحناني حنة من الجنة أيا بياطي
وهي أغنية لها ارتباط بالعرس الشمالي. وكأن هؤلاء النساء يتهيأن لعرس نعرف كمتفرجين أنه أمر غير وارد وأنهن يتطهرن فقط للزبناء.
الأصوات الغنائية المصاحبة لهذا المشهد تعبر عن دواخل هذه الأجساد، عما يدور بخلدها عكس المشاهد الإباحية حيث الكلمة الأولى للصور وحتى في حال حضور الحوار فلدعم الصور. تقول كلمات الأغنية التي تؤديها الزاهية:
ما ناشي زاهوية ربي قدر عليا
وراني فوق النخلة ريح الهوى يديني
وعيني على كل طريق آش من خبار يجيني
يا السالف يا المدفور يا المدفور على ثلاثة
وبيك ننعس وبيك نفيق وبيك نسيت حبابي
فرحاتي من خلال مشهد الاستحمام يعطينا مثالا حيا على أن ما يهم هو وجهة نظر المخرج مما يصوره وليس ما يصوره؛ ما يهم هو كيف يرى فرحاتي هذه الأجساد العارية وليست الأجساد العارية في حد ذاتها؛ المبتغى هنا ليس إظهار الأجساد عارية وإنما دفع المتفرج إلى أن يكون له وعي بمعاناة هذه الأجساد، إنه مشهد يعبر عن وجهة نظر حول العالم وليس عن العالم.؛إن فرحاتي لا ينقل الواقع وإنما يمارس الفن.
اللقطات المكبرة في مشهد الاستحمام دعوة لسبر أغوار هذا المجال الحميمي الذي يمثله الوجه وعدم اختزال المرأة في جسد دون رأس، جسد دون لفظ، جسد دون فكر وكأنها حيوان أو دمية على الأصح. فرحاتي عبر غناء بائعات الجنس للتعبير عن الدواخل يجعل منهن ذوات وليس مجرد مواضيع وهذا يخالف النظرة السائدة عن المرأة. اللقطة المكبرة هنا تجعل الجزء يحل محل الكل وكأن الجسد كله يختزل في هذا الجزء أي في الإحساس ولمن لا يفهم لغة السينما أو لم يقتنع بعد يضيف فرحاتي الدمعة والأغنية. هذه اللقطة المكبرة تطلعنا إذن عن نفسية الشخصية، عن معاناتها؛ تمكن المتفرج من الاقتراب من الامرئي، تحيله إلى لحظات متعة الزبائن الذكور التي تشكل سبب تعاسة هؤلاء النساء.
مشهد الحمام والاغتسال دليل على أن مقايضة الجسد مقابل المال، وإن كانت ظاهريا تبدو عن طيب خاطر الطرفين فهي غير ذلك، فهذا المشهد يفند هذا الاعتقاد ما دامت بائعة الجنس امرأة غير سعيدة.
الصورة النهائية
الصورة النهائية للفلم تظهر المدينة في الخلفية والمقبرة في المستوى الثاني وإيطو في المستوى الأول. تبدو هذه الأخيرة مؤطرة وهي تنظر نحو المدينة مديرة ظهرها للكامرة مما يفقدها جاذبيتها لكن إيطو تتدارك الأمر وتدير وجهها نحو الكامرة أي نحو الجمهور. هذه النظرة نحو الكامرة تنتقل بنا من فضاء الشاشة إلى فضاء القاعة السينمائية لتحاور المتفرج أو بالأحرى هي نظرة تلغي الحدود بين الفضاءين وهذه خصوصية من خصوصيات سينما جيلالي فرحاتي: خلق حوار بين الفلم والمشاهد. النظرة إلى الكامرة في نهاية الفلم لها طعم خاص. فهي تذكرنا بالفلم الوثائقي حيث النظرة إلى الكامرة لها ما يبررها وتكون جد مقبولة. ألا تضفي هذه النظرة بعدا وثائقيا على الفلم؟
تأطير الشخصية عبر لقطة أمريكية يضفي عليها دينامية تفتقدها الصورة الثابتة. كونها أيضا واقفة في المستوى الأول بشكل مهيمن يضفي على الشخصية نوعا من القوة بل التعالي تستمده عبر التضاد مع أفقية المدينة المتواجدة في المستوى الخلفي. تكوين الصورة هذا يمنح الشخصية أهمية على حساب المدينة والمقبرة ويجعل منها العنصر الأساس. يمكن القول أن فرحاتي عبر هذا التكوين ينتصر للإنسان على حساب المكان.
خاتمة
الرسالة القوية التي يمكن أن نخرج بها من مشاهدة الشريط هي أن مساعدة الآخرين تعتبر الوسيلة الوحيدة لتجاوز الاكتئاب الذي نعاني منه وأن جراح الماضي المعنوية ليست لها دائما عواقب كارثية. أكاد أقول أننا هنا أمام تحول هائل في سينما فرحاتي الذي تعرف شخصياته بالمكلومة.
وفاء وإن كانت شخصية مكلومة، تظل إيجابية بالنسبة للمجتمع ما دامت تساعد الأطفال المكلومين عبر خيرية اليتامى التي تديرها. ما يحدد توجهاتنا المستقبلية إذن هي صدمات الماضي. الفرق بينها وبين الزاهية هي أنها تبحث عن بنوة بديلة تتربى خارج مكان تطبعه تجارة الجنس وبالتالي بعيد عن الخوف من العار.
عاشت وفاء حياتها كلها تحت وطأة الخوف من العار لأن من كانت تظن أمها، أي الزاهية، كانت بائعة جنس مما جعل وفاء الطفلة تجد صعوبة بالاعتراف بها، صعوبة تتجلى على الخصوص في رفضها زيارة أمها بالسجن أو معانقتها لها بالسجن..لكن في نهاية المطاف تعترف وفاء الشابة بالزاهية كأمها(بعد موتها) عندما تقول: «ما تغوتيش أماما، هانا هنا» كجواب على صراخ الزاهية وهي تطلب من وفاء الطفلة الرجوع إلى بيتها مبررة طلبها كونها فعلت كل ما بوسعها لتربي وفاء كابنتها.