سعدي يوسف: البحث عن «المكان» الضائع…

لازم سعدي يوسف الكتابة ولازمته لمدة تلامس السبعين سنة، لم ينقطع عنها يوماً ولم يكلّ، لأنه كان من الذين يؤمنون إيماناً عميقاً بأن للمثقف العربي دورا ينبغي أن ينهض به. وعلى الرغم من أن الألقاب والتصنيفات لم تكن تعجبه، فإن فيه الكثير من المثقف العضوي بالمعنى الغرامشي للمفهوم. ليس لأنه انتمى ذات يوم إلى الحزب الشيوعي العراقي فقط، ولا لأن كتاباته تتموضع على يسار الخطاب العربي فحسب، بل لأنه ظل مشدوداً إلى نبض الإنسان العربي في آماله وآلامه. وقبل ذلك وبعده، فإن سعدي ظل يؤمن بأن الكتابة فعل يمكن أن يغيّر.
هذا الإيمان الراسخ بجدوى الكتابة هو ما يفسر غزارة إنتاجه وتنوعه، فقد راكم خلال تجربته الطويلة التي أعلنت عن نفسها في عام 1952 حين أصدر مجموعته الأولى «القرصان»1، أكثر من أربعين ديواناً شعريا.ً كما ألف في الرواية والقصة2. وله ما يزيد عن اثنين وعشرين كتاباً في المقالة واليوميات والدراسات والمترجمات3 التي نقلت إلى العربية أبدع الآثار العالمية في الشعر والرواية. نحن إذن أمام شاعر وكاتب موسوعي سهّل عليه إتقانه للغتين الانجليزية والفرنسية الانفتاح على الثقافة العالمية بثقة كبيرة في قدرة الشعر العربي على الوصول إلى تخوم العالمية.
ولعل العامل الأساس الذي أذكاه سفر سعدي يوسف الدائم، والتغيير المستمر لمكان إقامته، طبع كتاباته ببعد إنساني يتداخل فيه الخاص والعام والشخصي والغيري، بشكل يرفعه إلى مصاف الكتاب العالميين. وهذه هي الخاصية الأولى التي نلمسها في أعمال سعدي يوسف.
إن تشبعه المبكر بروح الفكر الإنساني متمثلا في الفكر الاشتراكي الذي سمح له انتماؤه إلى الحزب الشيوعي العراقي بأن يطلع عليه منذ كان يافعاً، مكنه من استحضار هذا البعد الإنساني العام في ممارسته الإبداعية والفكرية على السواء. ولكن التركيز على ما هو عام وكوني لا يلغي عنده ما هو خاص وذاتي. ومن ثم نلاحظ في شعره انمحاء المسافة بين الذات والآخر، بين الوطن والعالم.
لم يكن سعدي يوسف في يوم من الأيام منخرطاً في ما هو وطني أو عربي إلا بقدر ما يخدم الوطني والعربي الإنسان وقضاياه الكبرى، ولم يتعلق بما هو إنساني إلا بقدر ما يبرز خصوصية الذاتي والوطني والعربي. هذا يعني أن شعر سعدي لصيق بحياته، فكأنه يكتب القصيدة بجسده المؤطر بالزمان والمكان.
من أجل ذلك فإنه يتيح لقارئه أن يعرف من خلال قصائده تفاصيل كثيرة عن حياته، وعن الأمكنة التي مرّ بها والتجارب التي عاشها، بل إنه يخلق شخصيات يتماهى معها ويحلّ فيها. فمرة هو الأخضر بن يوسف4 ومرة ثانية هو حفيد امرئ القيس5 وثالثة هو الشيوعي الأخير6. ولكن سعدي في كل الأحوال، لا يكتب تجربته بطريقة انعكاسية ولا يجعل من شخوصه أقنعة.
إن تجربة الحياة بالنسبة إليه منطلق لتجربة القصيدة، ومن هنا لامس شعر سعدي يوسف جميع الموضوعات، فكتب عن السجن والغربة والمنفى وعن المرأة والحب وعن الحصار والمقاومة. إنه شاعر واقعي بالمعنى الذي يجعل الواقعي مناهضاً للتجريد ومتعاليا على المبتذل. إن رحلة سعدي الطويلة بحثاً عن القصيدة ليست رحلة عبر الزمان فقط، هي رحلة في الأمكنة أيضاً وأساساً، ما إن يعقد ألفة مع مكان ما حتى يغادره مضطراً. وبين مكان وآخر يرفض سعدي يوسف الكلام عن المنفي، لأنه يلجأ في كل مرة إلى ما يسميه توطين النفس.
هذا على الرغم من أنه لم يتمتع بمشهد نخيل البصرة منذ ما يقرب من ما يزيد عن خمسة عقود. وما فتئ يتأبط قصيدته متنقلاً بين العواصم والمدن إلى أن سجل رحلته الأخيرة. أقام في الجزائر، وتقاسم الخبز والحصار مع الفلسطينيين في بيروت إبان الحصار، وخبر العيش تحت أعين المخبرين في عواصم شتى على طول الوطن العربي وعرضه، قبل أن يحط عصا رحلته الطويلة في لندن. ومن كثرة تنقله الطوعي حيناً، القسري أحياناً، أصبح المكان هاجسه منذ أن ترك مكانه الأصلي بالبصرة مكرها، لذلك أضحى المكان في قصيدة سعدي، اللحمة والسدى.
في نص عميق طافح بالدلالة والمرارة بعنوان «راح الوطن، راح المنفى»7 حدد سعدي يوسف علاقته بالمكان فكتب: «أنا لا أستطيعُ أن أكتب منطلِقاً ممّا هو مجرّدٌ، لا أستطيعُ ذلك مطْلَقاً، عليّ أوّلاً أن أجدَ أرضي، مكاني، مساحتي الواضحة، مَعالمَ خارطتي الفعليّة. بتعبير آخر: عليّ أن أتوطّنَ، وأُوَطِّنَ نفسي».
في كل قصيدة كتبها سعدي، إحساس مرهف بالمكان. هل لذلك علاقة بسنوات المنفى التي طالت؟ إن المتتبع لشعره يدرك دون عناء أن هذا الإحساس تبلور لديه بشكل بارز في ديوان «بعيداً عن السماء الأولى»8 الذي كتبه عندما كان يقيم بالجزائر (1964 ـ 1971). ومنذ ذلك الوقت «ظلّت ثنائية الوطن/المنفى قائمةً، تنخرُ في الروحِ والنصّ» بتعبير الشاعر نفسه. وليست تلك الثنائية سوى تفكير في المكان الذي أمسى هاجسا يسم قصائده.
يصرّ سعدي يوسف على أنه شاعر مادي بكل إيحاءات الكلمة، ولذلك فإنه لا يتواني عن القبض على التفاصيل كي يعيد تشكيلها بطريقة تلم شتات الرؤية. رؤية استشرافية تطل على المستقبل دون أن تشيح عن الماضي. لذلك فإنه في حواراته وكتاباته النقدية يوجه نقداً لاذعاً إلى بعض الشعر الحداثي.
المسألة عنده تختزل في أن يحضر الشعر أو يغيب. ولقد كشف سعدي يوسف في أحد حواراته عن سر هذه العملية المعقدة التي تحول اليومي إلى شعري حين تحدث عن ديوان «قصائد نيويورك». فقد كان يأخذ كراساً ويذهب كل صباح إلى ساحة واشنطن سكوير، يجلس هناك ويرى كيف تبدأ الحياة وحركة الناس وكيف يستيقظ المشردون من نومهم ويقوم بتسجيل ملاحظاته عن كل هذا. وأحياناً يكتب البداية الأولى للقصيدة هناك9.
وهكذا فإن الخطوة الأولى لرسم ملامح القصيدة عند سعدي هي دقة الملاحظة التي تمنحها الحواس. مرة سألته عن القصيدة التي يتمنى أن يكتبها، ولم يكتبها بعد، فأجاب على الفور: «القصيدة التي تجمع الحواس كلها في نص واحد، وبخاصة حاسة الشم. هذه مدوخة، كيف تتوصل إلى رائحة عبر اللغة؟ هي مسألة صعبة لكني أظل أحلم بها، وعندما أحققها في يوم ما سأكون سعيداً».
وفي انتظار تحقيق ذلك الحلم، فإن سعدي يستعيض بالبصر خاصة لاستيعاب العالم شعرياً. من هنا تنبني قصائده على قوة «المشهد» بوصفه كتلة شعرية. وهو بهذا يوظف ثقافته التشكيلية من أجل إعادة ترتيب الأشياء بما يسهم في بناء رؤيته، حيث تتحول التفاصيل الصغيرة إلى موقف. وننتقل من المألوف المعتاد إلى الشعري العجائبي عبر عملية ارتطام شبيهة بتفجير طاقة ما، هي بالتأكيد طاقة شعرية لا يمتلكها إلا الشعراء الكبار.
ليست تلك الطاقة سوى اللغة، التي تتخذ في قصيدة سعدي يوسف لبوس المفارقة نفسها بين اليومي والشعري، فهو لا يستعمل اللغة العامية. ويستخدم أحيانا كلمات لم تعد متداولة، ويلجأ إلى النحت اللغوي. ومع ذلك فإن لغته أقرب إلى اللغة اليومية.
الكلمة في قصائده لا تنطوي على شعرية ما في حد ذاتها إلا في ما ندر، ولكنها عندما تصبح مكوناً من مكونات الجملة، تفصح عن شعريتها انطلاقاً من موقعها. فتتحول الجملة إلى صورة تقوم على التكثيف اللغوي الذي يولد الإيحاء ويفسح الطريق لصورة ثانية وثالثة ورابعة حتى يكتمل المشهد، الذي يقود بدوره إلى مشهد آخر، إلى أن تكتمل القصيدة في بناء عضوي تضفي عليه النزعة السردية مزيداً من التلاحم.
ولعل ارتباط شعر سعدي يوسف بالواقع بالمفهوم الذي ألمحت إليه، واعتماده الجملة النحوية البسيطة، بالإضافة إلى المسحة القصصية، هو ما جعله مقروءاً أكثر من غيره. فهو لا يكتب القصيدة العالمة التي تفلسف الحياة، وإنما ينطلق من الحياة نفسها في بساطتها تارة وتعقيدها تارة أخرى لكي يحولها إلى تجربة تنضح شعراً. وبهذا السمت الشعري الذي دشنه سعدي يوسف منذ وقت مبكر وبلوره عبر تجربته الطويلة، يكون قد حقق نوعاً من المزاوجة بين الشعر الموزون وقصيدة النثر .
لا بد من الإشارة إلى أن الشاعر واكب ولادة قصيدة النثر العربية عن قرب عندما كان ينشر قصائده في مجلة «شعر» في أواخر خمسينيات القرن الماضي وبداية ستينياته. وهذه المرحلة تستحق الوقوف عندها، لأن سعدي كان الوحيد من بين الشعراء الملتزمين سياسياً واجتماعياً الذي كان يكتب في تلك المجلة التي كانت كما هو معلوم تتبنى قصيدة النثر وتدافع عنها. وعلى صفحات مجلة «شعر» نشر سعدي يوسف قصيدته المشهورة «تحت جدارية فايق حسن»10 التي سيعنون بها ديوانا له صدر في ما بعد. وعندما نقرأ تلك القصيدة نجد فيها الكثير من قصيدة النثر. ودون الدخول في التفاصيل، فإن هذه القصيدة تنم عما يمكن أن نسمه بنزعة نثرية في شعر سعدي يوسف، ستصاحبه في مسيرته الطويلة. وعلى الرغم من أنه لم يكتب سوى مجموعة واحدة تندرج في هذا النمط من الكتابة الشعرية هي «يوميات الجنوب يوميات الجنون»11، إلا أن استخدامه لعدة أوزان في القصيدة الواحدة وإكثاره من الزحافات والعلل، واعتماد التدوير العروضي بين الأبيات والتخلي عن القافية، كل ذلك وغيره قلل من شأن سلطة الخليل بن أحمد الفراهيدي عليه، ومكنه من تقريب المسافة إن لم نقل محوها بين القصيدة الموزونة وقصيدة النثر.
وبغض النظر عن الشكل الشعري، فإن سعدي في هذا السياق مهتم بتلقي قصائده. النصُّ عنده لا تكتمل صيرورتُه إلاّ بالتلقِّي، ولذلك يرى في ثنائية الشعر/ الجمهور عنواناً ملتبساً، ويدعو إلى الأخذ بيد القارئ كي يتتبع النص. ولا شك في أن هذا المبدأ مستمد من إيمانه بأن للشعر وظيفة أخرى غير الوظيفة الفنية الجمالية. ومع ذلك فإن سعدي لا يكتب قصيدة سهلة، إن نصوصه مشرعة على تجربة في الكتابة تمنحها خاصية التعدد. وهو ما يجعلها تندرج في ما كان القدماء يسمونه «السهل الممتنع» الذي يتسع لكل القراء على اختلاف قدرتهم على الاستيعاب والتلقي .

(هوامش)

1 سعدي يوسف: القرصان. مطبعة البصري. الطبعة الأولى 1852
2 كتب سعدي يوسف على سبيل المثال في القصة: «نافذة في المنزل المغربي». 1974 وكتب في اليوميات : «سماء تحت راية فلسطين» 1983 وكتب في الرواية : «مثلث الدائرة»، وفي المقالة «أفكار بصوت هادئ» 1987.
3 ترجم سعدي يوسف كثيرا من الأعمال الروائية منها على سبيل المثال لا الحصر: المفسرون لوولي سونكا 1986 والشمس الثالثة عشرة لدانياتشو ووركو 1987 كما ترجم عددا من الأعمال الشعرية نذكر منها «أوراق العشب» لوالت ويتمان 1979 و»الأغاني وما بعدها» للوركا 1981.
4 سعدي يوسف: الأخضر بن يوسف ومشاغله: مطبعة الأديب. بغداد 1972
5 سعدي يوسف: حفيد امرئ القيس. دار المدى. دمشق 2006
6 سعدي يوسف: الشيوعي الأخير يدخل الجنة. دار المدى. دمشق 2007.
7 سعدي يوسف: ثلاث مدن، ثلاثة أسابيع في الصين. دار ميزوبوتاميا
8 سعدي يوسف: بعيدا عن السماء الأولى. دار الآداب. بيروت 1970
9 سعدي يوسف: أوراقي في المهب. دار التكوين دمشق 2019. ص 48
10 سعدي يوسف: تحت جدارية فايق حسن. مجلة «شعر» خريف 1996
11 سعدي سوسف: يوميات الجنوب، يوميات الجنون. دار ابن رشد. بيروت 1981


الكاتب : حسن مخافي

  

بتاريخ : 18/06/2021

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *