سوسيولوجيا الشيخوخة والاحتضار

 

لاشك أن وباء كورونا الذي اجتاح العالم مؤخرا، ومانتج عنه من تحولات عميقة في مختلف بنيات المجتمع البشري، قد أعاد طرح سؤال الموت والشيخوخة في ساحة الفكر الإنساني.
صحيح أن الموت هو ظاهرة أنطولوجية تشكل الجزء الآخر من الحياة، وصحيح كذلك أن الموت هو آخر تجربة تنهي كل تجارب الحياة مما يستحيل معه الحديث عنها من طرف من تجرعها. إن عودة سؤال الموت في هذه الألفية الثالثة هو م شجع الباحث والكاتب المغربي الأستاذ محمد مرجان على ترجمة كتاب «العالم» السوسيولوجي الألماني «نوربرت إلياس»(1897-1990) الموسوم ب»عزلة المحتضرين: قضايا سوسيولوجية حول الشيخوخة والموت» الصادر مؤخرا عن دار الخيام بمدينة المضيق بالمغرب (يناير2023).
يرى «ميشال دوتش» في تقديم الكتاب أن الموت في عصورنا الحاضرة له معنى يختلف عن الطريقة التي فهم بها الناس هذه الظاهرة في الماضي. فبعد أن كان الموت شأنا عاما يشمل الأقارب والأطفال والمسنين، أصبح اليوم معرضا للقمع ومحاصرا في المجال العمومي بسبب حالة العزلة والانكفاء على الذات التي يعرفها الإنسان المعاصر(ص7).لقد ابتعد الأحياء عن المحتضرين وسعوا إلى إخفاء الموت واختزاله في الجانب الشخصي، ثم انتقل هذا الإخفاء القسري من المجال الجنسي سابقا إلى مسألة الموت اليوم، بحيث ارتبط هذا الموقف من الموت بصيرورة الفردانية حيث يمثل الموت المرحلة النهائية لهذه الصيرورة الطبيعية (ص8).
في هذا الكتاب يسائل نوربرت إلياس تحول السلوكات الاجتماعية، والبنيات النفسية للكائن/الموضوع تجاه الموت، وهذا الاهتمام جزء من اجتهاداته حول التفكير في الترابط بين التحكم في الحوافز والمشاعر، والتمييز في تطور المجتمعات الغربية، بين الوظائف الاجتماعية وبناء الدولة المطلقة.
وإذا كان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنه سيموت، فهو يحاول دائما تفادي هذه اللحظة الحاسمة بأكبر عدد ممكن من طرق المقاومة والحد من خطر الإبادة من خلال تأسيس الجماعات البشرية كالقبائل والدول، كما أن هذه الوظائف الوقائية من الإبادة تؤدي أحيانا إلى تهديد المجتمعات بعضها ضد البعض (ص15). ومن جهة أخرى تدفع الإنسان إلى السعي نحو تعلم كيفية تنظيم سلوكاته تجاه الآخرين، سواء عبر الإكراه أو عبر الانضباط للقواعد الجماعية المحددة.
إن أنماط التواصل والإكراه تختلف من مجتمع إلى آخر، وكذلك تجربة الموت مرتبطة كذلك بالجماعة التي تعتبره طبيعيا وليس مشكلة في حد ذاته، بل المشكلة هي المعرفة حول الموت التي أضحت تشكل صعوبة كبرى بالنسبة للإنسان(ص16).
على مستوى آخر لاحظ المؤلف بأن فكرة وجود حياة أخرى أخذت تتقلص تدريجيا في العصور الحديثة بعدما كانت في الماضي تشكل عنصرا أساسيا في مواجهة فكرة الموت، والتخفيف من حدة النهاية المرعبة. كما أن الاعتقاد في عالم آخر كوسيلة للتخلص من فكرة الموت والفوز بحياة أبدية كان من الأسباب التي أدت إلى الكثير من الحروب والصراعات الطائفية، خصوصا خلال الحروب الدينية التي تجعل المحارب شخصا لا يكترث بالموت مادام سيلتحق بالعالم الأفضل.(ص19). في مقابل ذلك أصبح الإنسان المعاصر يهتم اكثر بالحماية ضد الأمراض والأوبئة والموت المفاجئ، خصوصا مع تحسن ظروف العيش عبر توفير أسباب الوقاية والعلاج الشيء الذي أدى إلى ازدياد متوسط العمر وأصبحت الحياة أطول، ولم يعد الناس يولون أهمية كبيرة للموت والطقوس المصاحبة له. كما أن فكرة نشر السلم داخل الجماعات وحماية الفرد والأسرة من العنف ساهمت بشكل كبير في تفادي الحروب والاصطدامات. لكن المؤلف يرى بأن الإيمان بالعالم الآخر كوسيلة لتوفير حماية ميتافيزقية ضد ضربات القدر وضد الطبيعة، حاضر بقوة لدى الطبقات والشرائح الاجتماعية الأكثر ضعفا في السيطرة على أوضاعها الوجودية.(ص20).
يضيف نوربرت إلياس أن من أهم العوامل النفسية التي تكرس الخوف من الموت هي مشاعر الذنب، واعتباره عقابا للإنسان على أفعاله، وهذا من الأسباب التي تزيد من عزلة المحتضرين وعدم منح المساعدة لهم والتعطف معهم، حيث يظهر موت الآخر كأنه منبه للأحياء ومحرك لدفاعهم الوهمي من أجل تحصين ذواتهم ضد فكرة النهاية(ص26). كذلك من علامات قمع فكرة الموت هو تخوف البالغين من تفسير هذه الظاهرة الطبيعية للأطفال بشكل واضح بحجة أن ذلك من شأنه أن يؤذي الناشئة، ويؤثر على نفسياتهم، لكن الكاتب يرى أن الخطر الحقيقي على الأطفال هو جهلهم بنهاية الحياة البشرية وبالتأكيد حياتهم وحياة آبائهم .
إن فهم الأطفال لفكرة الموت بشكل صحيح يساعدهم على تصحيح الأفكار الخاطئة، ويمكنهم بالتالي مشاهدة المحتضرين وموتهم بصورة طبيعية(ص36). إن هذه المواقف السلبية من الموت أفقرت حتى المعجم الذي يستعمله الناس للمواساة بالنسبة للشباب الذين يجدون أنفسهم عاجزين عن إيجاد العبارات الملائمة للتعاطف والمشاركة. ورغم التطور الهائل في جميع المجالات، لم يستطع الإنسان المعاصر إيجاد طقوس وتعابير بديلة في مثل هذه المواقف. الشيء الذي فسح المجال للروتين المؤسساتي للمستشفيات لمنح وضعية الاحتضار شكلها الاجتماعي رغم فقره من ناحية المشاعر، مما يؤدي إلى عزل هؤلاء المحتضرين، وهذا الموقف يعكس طغيان النزعة الفردانية للحضارة الغربية المعاصرة.(ص42). يشير نوربرت إلياس إلى أن الكثير من الإجراءات التي تتعلق بدفن الميت وإعداد القبر واختياره، انتقلت من أيدي العائلة والأقارب والأصدقاء إلى أخصائيين مدفوعي الأجر، بل حتى المقابر فقدت معانيها كنقطة تتمحور حولها العواطف والمشاعر، في مقابل الميل إلى الصرامة التي تمنع الضحك وإطلاق النكت في فضاء المقبرة احتراما لمن هم تحت التراب، مما باعد بين الأحياء والأموات ووسع الهوة بينهم، بالإضافة إلى أن منع الأطفال من اللعب قرب المقابر فرض فكرة الصمت في هذه الفضاءات أو الحديث بصوت منخفض (ص53).
من أهم الخصوصيات التي طبعت المجتمعات المتطورة هي الدرجة العالية من الفردانية التي تجعل الناس يشعرون بأنهم أفراد مستقلون عن بعضهم البعض، الشيء الذي يؤثر بشكل كبير على تصورهم لفكرة الموت،.(ص82).
إن الكائن المعزول في حياته لن يموت إلا على هذا النحو الفاقد لكل رابط اجتماعي. يقول إلياس:» فالمرء يرى بشكل واضح في الممارسة الاجتماعية، الرباط الموجود بين الشعور الذي يملكه لدى الآخرين والمعنى القائم لدى هؤلاء حول هذه الحياة»(ص86)، لكن الشيء المثير الذي لاحظه المؤلف هو أن الخوف من الموت في هذه المجتمعات ينتقل إلى المحتضرين أنفسهم، حيث تصدر عنهم نفس المشاعر تجاه الأحياء الباقين(ص86).
يختم إلياس هذا الجزء من الكتاب بأن الموت أمر طبيعي، لكن ما يجعله رهيبا هو الأوهام الجماعية والفردية المحيطة بنا والتي تدفعنا إلى الرعب الدائم منه، لذلك ينبغي تهدئة هذه المخاوف عبر الإقرار بالطبيعة البسيطة لنهاية الحياة ومساعدة المحتضرين قبل أن يختفوا عن العالم، والتعامل معهم على أنهم لا يشكلون عبئا ثقيلا علينا، وكذلك اعتبار الموت مجرد نهاية وليس لغزا محيرا أو شيئا غامضا(ص100). ثم يضيف إلياس بأنه بالرغم من أن الدولة اليوم تحمي كبار السن من العنف الجسدي، إلا أنهم أصبحوا ينعزلون بسبب ضعف قواهم الجسدية، وهذا ما أدى إلى تكاثر العديد من المؤسسات التي تستقبلهم، خاصة أمام تراجع علاقاتهم العاطفية مع الأصدقاء وأفراد الأسرة . ورغم أن الولوج إلى دار العجزة يسمح لهم بالتعايش مع أشخاص لا يرتبطون بهم عاطفيا، فإن ذلك لا يمنع «حقيقة فصل المسنين عن الحياة الطبيعية، وجمعهم مع الغرباء، أي الحكم عليهم بالعزلة والوحدة» (ص111).
يختتم المؤلف هذا الكتاب الشيق بالحديث عن ضرورة وضع برامج منظمة تهتم أساسا بالمسنين والمحتضرين في خضم هذا التطور الهائل في العلم، وأساليب العلاج وإطالة مدى الحياة بتحسين ظروف العيش والوقاية، لكن تبقى مسألة الاهتمام بهؤلاء على رأس جدول الأعمال حتى لا يغادروا هذا العالم وهم يتألمون ليس فقط من آلامهم و اقتراب أجلهم، بل من عزلتهم وابتعاد الأقارب عنهم.

المصدر

نوربرت إلياس: عزلة المحتضرين: قضايا سوسيولوجية حول الشيخوخة والموت» ترجمة محمد مرجان /دار الخيام /المضيق بالمغرب/الطبعة الأولى (يناير2023)


الكاتب : محمد مستقيم

  

بتاريخ : 21/06/2024