سيرة ذاتية: خربشــات على جدار حزيـن 08 : حكاية «المزيوي» و «بوعسول» مع غابة الرياحين

.. آه لو علم أني رقية زوجة سي المهدي. كان يوما مشهودا، وكنت عليه شاهدة… لم تكن بيدي حيلة ، ولم يكن لي بد من طرق دار سي الأمين القريبة من المسجد. ادخلني الرجل خفية والاضطراب باد على محياه. لم أخبره عن والدكم شيئا، واكتفيت بأن يقبلنا بين أسرته حتى الغد. لم ينتظر سي الأمين غدا ولا بعد غد… يبدو أنه اعتبرنا وزرا وجب التخلص منه في أسرع وقت. خرج ثم عاد بعد آذان الظهر ليخبرني أنه التقى بأحد شرفاء» القليعة»(مدشر من أجمل وأهم مداشر بني زروال، تقطنه عائلة علوية ) الذي سيعود إلى قريته عند العشي، وأن الشريف وافق على أن نرافقه إلى القليعة، ثم نتدبر وصولنا إلى «غرس علي». قبلت الاقتراح على مضض… لقد فهمت من تصرفات الرجل وزوجته أنه غير مرغوب فينا. كانت الرحلة قطعة من جهنم… ظلام… ظلام … ظلام… على طريق موحلة سرت حافية القدمين… أحمل على ظهري عبد السلام الذي لم يكف عن البكاء… ومنانة في كنف الشريف الذي امتطى فرسا شهباء ترمي الوحل بحوافرها. تمسكت بذيل الفرس وهي تطوي الظلام طيا. والشريف في برنوسه الملكي يشد من عضدي كلما شعر بلهاثي يشتد. لم يكن يا أبنائي من اختيار سوى أن أتشبث بذيل الدابة وأواصل السير وسط العتمة وتحت وابل ليلة ماطرة من ليالي دجنبر، لم أأبه بالطين وقد تجاوز مني الركبتين ولا بالريح العاتية وقد استشرى قرها في دواخلي… أتشبث بذيل الدابة وأخطو وسط الليل البهيم والمكان الموحش واللحظة العصيبة. عند آذان العشاء، كنا قد تجاوزنا « وادي الصباب»، وبدأنا نتسلق المنحدر الذي تعلوه بلدة» القليعة» التي بلغناها بعد ساعة من الخطو أنهك قواي وأدمى قدمي. وصل مني البلل مبلغه وارتوى بدني الارتواء كله، وكذلك بدنك يابني، أما منانة فقد كان برنوس الشريف بها أرحم. استقبلتنا زوجة الشريف وفي عينيها ريب وغيرة. بدت لما أوصاها الشريف بالاعتناء بنا، زاد غيضها. أشارت إلى غرفة جانبية حيث يمكننا قضاء الليلة وأومأت لأحد الخماسين بأن يناولنا كسرات خبز أسود وبعض حبات زيتون. تألمت كثيرا لما صدر عن زوجة الشريف الذي اكتفى بالإشارة على الخماس نفسه بأن يصاحبنا غدا حتى مشارف مدشرنا. لم يراود النوم جفوني تلك الليلة … كانت ليلة ماطرة، لا تسمع فيها إلا رعودا تشق السماء وعواصف تعوي بين الفجاج. رجوت لله ومولاي العربي أن يفتر المطر وأن يكون صباح الغد صحوا، وأن تتيسر رحلتنا إلى حيث الأهل…
ونحن نصغي لحكاية الأم، أقبل رجلان يقود كل منهما بغلا… سلما على كل منا بحرارة، وطلبا منا الاستعداد للرحيل… ثم بدآ في تحميل الدابتين رزمات الأغطية والأواني التي جئنا بها من وزان، بينما اتجهت أمي لدكان سي الأمين لتعود وفي حجرها قالب سكر وعلبة شاي وشمع وعود ثقاب وسلع أخرى… بعد هنيهة انطلقنا نحو غرس علي .مررنا على «بيرو عراب» ( مكتب العرب)، ثم المدرسة إلى أن وصلنا القنطرة راجلين … ثم صعدنا تلالا وتلالا بعد أن امتطت أمي رفقة أخي الأصغر الدابة الصهباء، وامتطيت وصنوي البغل الأسود ذا الغرة البيضاء. الطريق ضيقة ملتوية تخالها من بعيد حية في جلد رمادي تسعى بين حقول وأحراش ومروج تؤثثها أودية رقراقة صافية، وتتراقص في أعاليها وبين غويباتها أسراب طيور الحسون واليمام والخطاطيف الجذلانة ببناء أعشاشها. طيلة الرحلة لم يفارق
«بوبان» و «بنسلام « الدابتين خشية أن تكبو إحداهما فيقع أحد الراكبين ويتعرض لمكروه. كانا يتحدثان إلى أمي بتلقائية، ويجيبان عن أسئلتها بإسهاب، وبصوت يعلو طقطقات حوافر البغال. سئلا عن أحوال المدشر وأهله، عن الأحياء والأموات، عمن تزوج وأنجب… عن كل شيء. ثم تركزت الأسئلة عن منزلنا ب»التغزازة» الذي بنته الوالدة بعد عودتنا الأولى من غفساي، وعن شجيرات التين التي غرستها حول المنزل. بانت علامات الصدمة على الوالدة التي لم تخف حسرتها لما علمت أنه لم يبق مما بنته سوى غرفة واحدة غير قابلة للسكن: سقفها بددته اللقالق، ونوافذها عبثت بشبابيكها أيادي العابثين، وجدرانها بحاجة إلى ترميم. علقت الوالدة على الخبر المفجع:- دعتها لله! العدوة !…»لو كان خلت لي غي داري تدخلت ليها ولادي». خاطبها بنسلام في نوع من المواساة:_ «لله يهديك آرقية، حتى الدار لاخرى ديالكم… بحال بحال … خص شويا دصبر وصافي…»
أبدت عدم موافقتها على تعقيب الرجل، وأردفت:
_ «انت كتعرفها كثار مني آو لا!
قهقه الرجل ثم نخس البغل الذي تباطأت خطاه وهو يهم بالتقاط حشائش خضراء على حافة الطريق. سرنا فوق هضبة تطل على الوادي الكبير، وسط بساتين الزيتون والكروم المورقة، ومررنا بمداشر كثيرة ، إلى أن أطل الموكب عل واد عميق يجري بين سهوب تكسوها غويبات الريحان وبساتين من ليمون ورمان.
_ وراء ذاك الجبل توجد “غرس علي”، نحن على وشك الوصول.
نطق “بنسلام” وهو يشير بقضيب البري إلى ما بعد الوادي حيث تمتد غابة الرياحين التي بدت بساطا مخمليا أضفت عليه أنوار الغروب حلة خضراء داكنة. بعد استراحة قصيرة إلى جوار مسجد عتيق، أتاحت لنا التقاط الأنفاس، نزلنا منحدرا حادا على طريق موحل وملتو، حتى الوادي، ثم سرنا صعودا نتسلق على مهل تلالا لا تسمع بين فجاجها إلا ثغاء قطعان الغنم العائدة من المراعي وترنيمات ناي زادتها ألوان الغسق شاعرية. مررنا بمحاذاة “تلمات”، وهي دشرة صغيرة تتوسط التل، بها رأت رقية النور، وبها دفنت أولى عذاباتها، بعد وفاة أمها. لما تقابلنا مع مقبرة هناك، استأذنت الوالدة الملأ، ترجلت، وتقدمت نحو قبرين متجاورين تلفهما شجرة ضرو كثيفة. وقفت هنيهة عند الشاهدين في خشوع، طالبة الرحمة والغفران لمن يسكنان الرمسين، ثم عادت وفي عينيها الضيقتين دمعتي حزن عريق. كان القمر يطل محتشما على الأعالي، لما دخلنا “غرس علي” في غفلة منها. لا يعكر سكونها سوى نباح كلاب استنبحتهم حوافر البغال، وأصوات تصدح بتلاوة “الحزب” بالجامع الكبير على مقربة من دار بابا سيدي. كان الاستقبال حارا، ودافئا، لكن التعب لم يسعفنا على الاستمتاع أكثر بفرحة اللقاء. تناولنا ما تيسر من طعام، وآوى كل إلى مرقده حتى الصباح.
“غرس علي”، قرية نائية تتوسد جبل “للا الملاة”، وتحفها غابة هيفاء هي غابة الرياحين وتحدها أجراف تطل على حقول وبساتين تسقيها عيون جارية. تبدو بيوتها الواطئة ذات السقوف المعشوشبة ، مثل قرب معلقة على جدارية أبدعتها أنامل عبقري. يحكى عن السلف أن أول من حل بغابة الرياحين رجلان: “المزيوي” و “بوعسول”. عمل الأول على تطويع أطراف الغابة وتحويلها إلى أراض قابلة للغرس والزراعة، بينما تكفل الثاني ، وهو قاض، بتحرير عقود الملكية. هكذا تقول الحكاية، لكن لا أحد يعلم متى جاء بوعسول والمزيوي غابة الرياحين، ولا أصل ولية لله “للا المولاة” التي تحرس أطلال ضريحها قمة الجبل، إلى جانب سلسلة من قبور أولياء لا يعلم الناس عن سيرهم شيئا. إما عائلة “رجاونة” التي ينتمي إليها والدي فتعود إلى جدي الخامس الذي حل ضيفا على أهل المزيوي قادما من قبائل “غمارة” المطلة على البحر. تزوج من أهل المزيوي اللذين خصوه بفدادين محدودة وأقامو له مسكنا على ربوة تتوسط الجبل. استطاب المقام، فأنجب عشر أبناء، تناسلوا وتكاثروا حتى صارت عشيرتنا أكثر أهل القرية عددا، وأقساهم فقرا. فسلك كل منهم مسلكا لكسب الرزق ، وكان من حظ جدي الأول فالثاني إلى أبي سي المهدي قراءة القرآن والتفقه في الدين ، وجعلوا الإمامة مهنة متوارثة، فأكسبتهم رزقا ووقارا.


الكاتب : عبد السلام الرجواني

  

بتاريخ : 09/06/2017