عند الضحى، عندما يتجاوز ظل الحائط شفير البئر، نستظهر فرادى ما وجب علينا حفظه، فيمحو المجدون منا ألواحهم تحت شجرة التوت الباسقة، فرحين باجتيازهم الصراط العظيم، بينما يجبر الكسالى على العودة للمعمرة لاستكمال الحفظ حتى الظهر تحت مراقبة الطالب الذي يفوضه الفقيه حق التصرف مع من تخلفوا بين يديه. نمحو الألواح ونسندها لحائط المعمرة في اتجاه أنوار الشمس الحارقة بعد طلائها بصلصال في لون الرماد. حين تجف نعيد سطرها ثم نعود إلى الفقيه الذي يتلو علينا في جلسة واحدة مضمون اللوح الجديد. يكرر كل متعلم بصوت مسموع آخر سورة كتبها فيجيب الفقيه على كل طالب بالسورة اللاحقة. يتناوب المتعلمون على ذلك في ترتيب معلوم ونظام بين وتناغم تام. تعجبت لطريقة الفقيه التي تختلف كل الاختلاف عما تعودت عليه في «مدرسة العادر» بوزان الجميلة، كما اختلاف الفقيه نفسه، صورة وهنداما وطقوسا وتعاملا، مع معلمي الأول. وشتان بين الفضاء ينّ . ما أروعك يا وزان ، وما أطيبك يا سي أحمد، إليك يسكنني الحنين، وإلى المدينة تحملني الذكريات. لكن ما باليد حيلة سوى التكيف مع واقع بئيس في انتظار عطلة الصيف لعل الوالد يزور البلدة كما وعدنا ويرجعنا إلى المدية، أية مدينة، ولو في آخر الدنيا.
بحلول الصيف كنت قد حفظت حزب «سبح»، في حين تعلم أخي الأوسط القراءة والكتابة وتجاوز طور «التحناش»(التخطيط). في ذات الوقت تخلصنا من ملابسنا الرومية وعاداتنا المدينية، واندمجنا في حياة أطفال القرية الجبلية. سرت أرافق أمي إلى الحقول للحصاد وجمع الكلأ وما إليها من أعمال ، وأصاحب أختي إلى عين «تبودة»لجلب الماء، وللبساتين لجني العنب والتين الجبلي. تعلمت نصب الفخاخ لاصطياد الطيور على مشارف غابة الرياحين، ورافقت أقراني إلى الوادي أسبح في غدرانه عندما يشتد القيض. رميت بالجوارب والحذاء وجريت في البراري حافيا أقفز بين التلال والشعاب التي استبدلت في غفلة من الناظرين خضرتها بحلة ذهبية رائعة؛ موجات سنابل راقصة على نسائم يونيو تغري مناجل الحصادين، وأسراب صغار الحجل تتطاير بين السهوب والأحراش، وسحابات طائشة في لون العهن تذكرنا بفوات الربيع.
أقبل الفلاحون، نساء ورجالا، على حصاد الغلال الوفيرة، فتحولت الحقول والجنان إلى ساحات مترامية للفرح. تحت قبعات جبلية مطرزة بالحرير، تصدح النساء بأهازيج محلية رائعة، وهن يتنافسن في سلب الأرض غلالها، ومن ورائهن الرجال يجمعون باقات الزرع ويحملونها أكواما فوق ظهور الدواب إلى البيادر .هنا وهناك، أطفال يحملون قربا ملأوها ماء زلالا يطفئ ظمأ الحصادين، وهم يتابعون في حبور تحليق الطيور في الأجواء الزرقاء.توقفت الدراسة بالجامع، فودعنا، غير آسفين، المعمرة ورمادها. انغمست في أجواء القرية زمن الصيف: باكرا أشد الرحال مع أمي ونساء الحومة إلى الحقول راكبا بغلا أشهبا، خدوما، طيعا، لا يجفل أبدا، ولا يسعى إلا لفعل الخير. حينما ينصرف الكبار للحصاد، يتلهى الصغار بممارسة ما تيسر من ألعاب، منها ما يخص جنسا لوحده، ومنها ما يشترك فيه الذكور والإناث. كان الذكور ميالون إلى لعبة «الشارة» والمصارعة و»الركلة»، وهي ألعاب شبيهة بفنون الحرب، تربي الطفل على التسديد والمبارزة، وتنشئته على الندية والمواجهة. وكانت الإناث أميل إلى ألعاب «البحار» و»طبيث» و»غميضة»، وهي ألعاب تنمي مهارات متصلة بالعمل المنزلي وتدبير شؤون البيت. لما نتعب قفزا، وجريا، ومبارزة، ننسحب في خلسة إلى الوادي، فنغطس في غدرانه، قبل أن ننتشر في الجنان نبحث عما نقتات عليه، عنب وتين متعدد الأشكال والألوان، وبطيخ وحبات خيار وتوت بري وجميز، وما شابه من فواكه وثمار نضيفها لكسرات الخبز الحافي التي لا يخلو منها «قب» جلباب. كنا نغزو كل الجنان غير آبهين ب «الرباط»( حارس البساتين المكلف من الجماعة) الذي كثيرا ما فاجأنا ونحن نمارس سرقاتنا اليومية في حبور وسعادة، فيطاردنا محاولا أن يمسك بأحدنا لينزل به العقاب، عربونا على نهوضه بمهمته التي يعوض عنها نهاية الموسم. لا يفلح الحارس إلا لماما، فيكتفي بشتمنا وهو يلوح في اتجاهنا بعصا سرعان ما يتكأ عليها، صاعدا من أعماق الوادي في اتجاه الأعالي مرصده المفضل، بينما نعود لأمهاتنا فنقدم لهن بعض حبات التين وما تيسر من حبات العنب. عند الهجير، تعود أسراب الحصادين من الحقول، فأقفل راجعا صحبة الوالدة إلى الدار الكبيرة، حيث التحق ببابا سيدي في ورشته الأبدية. قلما يكون وحيدا، خاصة في موسم الحصاد الذي يشهد إقبالا متزايدا على مصنوعات الورشة ،من مذرات وروافع وغيرها من أدوات الدرس والذر، فضلا عن أعمال النجارة والنقش على الخشب التي كان الرجل مبدعا فيها، شغوفا بممارستها. ومن علامات شغفه بفنه، ولا أقول بعمله، أنه لم يكن يولي اهتماما يذكر لثمن منتجاته، وكان يشترط على المعوزين من زبنائه توفير المادة الخام وكفى… ويقنع بما يجود به الموسرون منهم. كثيرا ما كان يؤكد أنه يكفيه أن يدعى له بالبركة في صنعته والخير في متاعه. والحقيقة أن الرجل كان موسرا، وان داره لم تكن تخلو من ضيوف وعابري سبيل، يقصدها الشرفاء وطلبة القرآن ورجال المخزن، وكل من حل بالمدشر أو مر به. كان «المعلم الخمار» من أعيان القبيلة وكبار رجالاتها، وهي مكانة تبوأها في عشيرته بعد أن خبر أيام «السيبة»، فكان من صعاليكها،ثم جاهد في صفوف المقاومة الريفية مع «بنعبد الكريم» وأحسن الجهاد، قبل أن يصير «جاريا» أيام الحماية. لم يكن للرجل إخوة يشدون من عضده، ولا أبناء ذكورا يقوون جانبه، لذلك جعل من صناعته وكرمه دعامة لمكانته ووسيلة لحلفه، خاصة وأنه كان طيلة حياته متطلعا لولوج دوائر السلطة والنفوذ، فخاض من أجل ذلك صراعات قوية تعددت وسائلها. وكان من أعتى أعدائه خال والدتي المعروف ب»ولد عمر» الذي ينتسب بدوره إلى عزوة من عزوات «رجاونة». بعد الغذاء الذي يلي صلاة الظهر، ينبري بابا سيدي لنجارة الخشب ونقشه، وهو يتجاذب أطراف الحديث مع مجالسيه، أو يستمع لصوت العرب من القاهرة. وإن كان لوحده ترنم بقصائد الملحون وبالموشحات الأندلسية، أو انطلق يحدثني عن حياته الماضية ومتمنياته الآتية. طالما عبر لي عن أمله في أن أصبح رجلا، فيورثني ما يملك، ويزوجني أجمل فتيات القبيلة، ومن أعز بيوتها. ما ناداني يوما بغير «ابني» و»حبيبي» و»العازري ديالي»، وكان حريصا على إرضائي مهما كانت طلباتي، منتصرا لي ضد كل من خاصمني أو عارضني، متشبثا بأن أصاحبه أين ما حل وارتحل، وأن أحضر كل مجالسه وإن كانت مجالس «رسمية» مخصوصة للكبار.رافقته لكل الأسواق والمواسم، وحضرت لجانبه أعراسا وحفلات الأعياد الوطنية، فنشأت بيننا علاقة قدسية مشبعة بالحنان الوطيد والرحمة البليغة. آنسته في وحدته، وكان أحسن بديل عن الأب الغائب. وكانت أجمل لحظاتي تلك التي أقضيها معه ليالي الصيف بالجرن الواقع على ربوة تطل على الدار الكبيرة. نقصده بين المغرب والعشاء بعد أن يكون أحد الخماسين قد هيأ الجلسة بكل مقوماتها، وأحضرت جدتي وجبة العشاء… ينهمك الخماسون في ذر التبن وفرز الحبوب، مرددين الصلاة على النبي، وبابا سيدي يرقب ما يفعلون حينا، ويرنو إلى السماء المرصعة بالنجوم أحيانا أخرى… وبين الفينة والفينة يشير إلى تشكيلات من النجوم والمجرات ويخاطبني بيقين العالم الفلكي:
– ذاك برج الثور… انظر جيدا إلى تلك السلسلة من النجوم التي تتقاطع نهايتها بثلاث أخرى على شكل خط مستقيم….
ويضيف بدون فاصل:
– وتلك هي الثريا… وإلى اليمين منها برج التبانة…
يسأله الخماسة عن حركة النجوم وأسماء الكواكب، فلا يتردد في الإدلاء بإفادات دقيقة تخص علاقة حركاتها ومواقعها بالنوازل، وبمواسم الخصب والسنوات العجاف، وباتجاهات الرياح ودرجات الحرارة. اطمئن لأحاديثه العجائبية، فأحن لركبته أتوسدها والسهاد يلتف على رموشي النائمة. بعض المرات، يفضل بابا سيدي أن يودعني أحلامي على حكايات خرافية تمتح من الأساطير القديمة وتستلهم الأزليات وحكايات ابن المقفع، خرافات وحكايات ناطقة بالحكمة والعبر، منها حكايات عن مدينة النحاس وبحر الظلمات وخوارق الإنس والجن، ومنها قصص عن بطولات عنترة وسيف ابن ذي يزن وسيدنا علي في مواجهة رأس الغول، وأقاصيص عن حياة الحيوانات والطيور… خرافات، حكايات وقصص، يحكيها على مسمعي بأسلوب شيق جعلني ألح عليه أن يعيد حكيها إلى أن حفظتها في تفاصيلها إلى الآن. من أعز زواره إلى نفسي سي البهالي ، وهو شيخ سامق القامة، طويل اللحية ، يلبس على شاكلة هداوة، ويعيش على ما يجود به الفلاحون كل موسم. يصاحبه حمار ذليل، ثقيل المشي، يحمل عليه ما يتصدق به أهل الجود والكرم من حب وزرع وزيتون. يدخل سي البوهالي المدشر مهللا: لا إله إلا الله…محمد رسول الله، كأني به يخبر العموم بقدومه. بعد جولة بحومات المدشر، يروح إلى الدار الكبيرة التي يدخلها مهللا وداعيا لأهلها بالخير والصحة، فيستقبله بابا سيدي بالسقيفة حيث يلتحق بهما «بوبان» وبنسلام والدهبي وآخرون من أصدقاء الجد وأنصاره. وكان للناس في سي البهالي وطران لا ينفصلان: حلق ذقونهم بين يدين مباركتين والاستعلام عن أخبار القبائل كلها من «بني مستارة» إلى «بني ملول»، أخبار يرويها الحجام في قالب شيق يغري السامعين، تتناول أحوال البلاد والعباد، وسير كبار القوم وصغارهم، وعن كل ما شهد وسمع أثناء جولته الموسمية: فلان ما ت رحمه الله بسبب ركل البغل له… وعلان حج إلى بيت الله الحرام… وأبناء فلان قتلوا رجلا من دوار كذا… وفي بني دركول ولدت بغلة، إنها علامة من علامات الساعة… وفي قبيلة كذا انتشر وباء خطير أتى على الأنعام كلها… أكون دوما أول من تحلق رأسه، يخرج الحلاق المتجول مقصا هائلا وموسى حلاقة من جرابه البالي الوسخ، يكفكف أكمام جلبابه المتدلية، يرش شعري بماء دافئ و تبدأ عملية الجز التي ينهيها بنفث ريقه على هامتي وهو يدعو لي بالصلاح. ثم يمر لغيري، فثان، فثالث، إلى أن يأتي الدور على بابا سيدي … عندها يستل الحكيم من جرابه مشرطا يشرط به مؤخرة رأس ال»معلم الخمار»، وقرني ثور مخروطين لمص الدم الخبيث ونفثه في إناء من طين. إنها عملية «الحجامة» التي دأب بابا سيدي على إجرائها مرة في السنة. يقول عنها الحكيم أنها مفيدة للدورة الدموية، وتزيل الغشاوة عن العيون، وتطهر الدم من الطفيليات، ولها منافع جمة على الصحة.)
كذلك مرت أيام الصيف تباعا، حصاد… ومواسم… وأعراس… وحكايات… لم يظهر للوالد من أثر، وبدا القنوط على الوالدة التي سئمت من العيش تحت سلطة جدة ترقب سكناتها قبل حركاتها، وبدأ أملها في رجوعي لحجرة الدرس يخبو. فاجأتها ذات عصر تبكي في صمت على عتبة الباب الخلفي للدار فسألتها في حسرة:
لم تبكي يا أماه؟
عانقتني قائلة: – «ما بي إلا أنت…. قرايتك أولدي»
لم أدرك معنى قولها إلا حين استطردت: «الصيف داز،وبابك ما جاش، وهنا غاد نبقاو عام آخر.»
اجبتها: – «وعلاش ما رجعو لوزان»
ضمتني لصدرها، مسحت دموعها، وعادت لطحن ما تبقى من قمح، وهي تردد بصوت شجي:
اللايهنيك البلاد راني مارجعاشي ( وداعا أيها البلد وإليك لن أعود)
وعدت أنا إلى بابا سيدي في سقيفته لأقاسمه نشوة الشاي المنعنع، وقصائد الملحون، وأحاديثه عن أيام السيبة والجهاد.
لم تيأس الأم من رحمة الله ومن وصول مفاجئ للأب، وكان يوم الأحد بمثابة لحظة ذروة الانتظار، فمن لا يعود يوم السوق الأسبوعي يصعب عليه أن يأتي القرية في باقي الأيام. لذلك، كان يوم انتظار بامتياز، وما أن يلف القرية الظلام حتى تنكسر أحلام معانقة «بذخ» المدينة ومقعد الدراسة. ذات يوم حل «المقدم» بالقرية حاملا رسالة من الوالد، مفادها أنه لم يتمكن من الحصول على رخصة، وأنه أجل زيارة البلدة إلى الصيف المقبل، وقد بعث بما تيسر من مال لكساء الأبناء اللذين يوصي بهم خيرا. تسمرت الوالدة إلى حائط السقيفة، وخنقتها دموعها المتحجرة في مآقيها. حاول بابا سيدي أن يخفف من الصدمة دون جدوى، فانخرطت في نوبة بكاء حاد…
سار الصيف إلى نهايته، وعادت من جهة الغرب سحب خفيفة إلى سماء البلدة، فأسرع الناس إلى شطب البيادر وتخزين التبن بعدما انتهوا من تخزين الحب والزبيب والتين المجفف. وشرع الفلاحون، موازاة مع ذلك، في تنقية الأراضي الفلاحية من الأحجار وشجيرات السدر، وحرق الشوك والنباتات الطفيلية، قبل تسميدها. هي أنشطة كانت تستهوينا نحن الأطفال، فصرت أرافق خالي سيود للفدادين القريبة راكبا الحمار المحمل بالسماد، ذهابا وإيابا؛ وحين حرق الطفيليات أقفز فوق اللهيب صحبة أطفال الحومة دون خوف ولا وجل… نلهو … نتصايح … ونضحك من الأعماق.
اطل الخريف خجولا، بحلته الصفراء الباهتة، على البلدة، فاستأنف بابا سيدي نشاطه الحرفي الذي انصب هذه المرة على نجارة المحاريث الخشبية وقامات المعاول، فدبت الحياة من جديد في السقيفة التي قصدها الفلاحون من كل حدب، كل يسعى إلى إعداد عدة الموسم القادم قبل فوات الأوان…
على عتبات الخريف، بدأ الناس يتفكرون أيام البرد القاسية، فهبت النساء لاحتطاب الغابة وتيبيس ما يكفي من الحطب وتخزينه، وأقبل الناس على «منسج» المدشر، يتوسلون المعلم» الآزمي» للإسراع بحياكة ما حملوه إليه من عهن مغزول جلابيب وملاحف، تقيهم زمهرير الشتاء القادم، حين تتدثر القرية نفسها بجلبابها الطبيعي الناصع.
على عتبات الخريف، انهمرت دموع الوالدة أسفا على عام آخر سينقضي دون أن يجتمع شمل الأسرة الصغيرة، ودون أن أعود للمدرسة. سكنها الأسى ودمر أمانيها الانتظار، وربما استفردت بها الظنون التي تداعب مخيلة كل امرأة طال فراقها عن زوجها، وهو ينعم بالحرية وموفور الصحة. غدت تميل إلى الوحدة، فتقصد أماكن بعيدة عن العيون، تقتعد الأرض وتنظر إلى الأفق البعيد. أحيانا تمسك بعود وتخط به على التراب خطوطا حزينة. كثيرا ما كنت وأختي منانة نلحق بها في خلواتها، نجلس لجوارها، ننظر لوجهها، تبادلنا النظر لبرهة، ثم تمسك بأيادينا ونعود إلى الدار في صمت. إن سألتها جدتي أين كانت، فهي لا تجيب؛ وإن سئلت من غير الجدة تجيب دوما:
– «كنت وصافي… لين عاند بابا فين نمشي».
أيام بعد ذلك، أفصحت أمي عن نيتها في إصلاح بيتنا ب»التغزازة» للاستقرار فيه نهائيا بعيدا عن الجدة وطلبا للسكينة، ورجت بابا سيدي أن يسلمها ما بعث به الوالد من مال قد يعينها على تحقيق أمنيتها. لم يمانع بابا سيدي في ذلك، لكنه أصر على استشارة الوالد، بينما استشاطت الجدة غضبا، فأرغدت، وأزبدت، وأقسمت بالأيمان كلها أن لا يكون للأم ما تتمناه، ووجهت للوالدة أسئلة توحي بالتشكيك في خلقها:
– شنو باذق تما باحدك؟ هذي السيبة وقلة الحياء… والله من هنا لاخرجتي آيلا جا الجرو ديالك..( في ما ستصرفين المال؟إنها الفوضى والقلة الحياء. والله لن تخرجن من هذه الدار إلا أن يأتي زوجك)
عبارات جارحة حقا جعلت الوالدة ترد لأول مرة بعنف على اتهامات الجدة، وتصفها بالساحرة والمشعوذة. آزرها على نحو خجول خالي «سيود» الذي لام الجدة على ما ذهبت إليه ورجا الوالدة أن تصمت.
صباح الغد، أضربت أمي عن العمل، وأقسمت بألا تضع يدها في «الماء البارد»، إن لم تنصف، وأكدت لبابا سيدي طلبها بالاستقلال بأسرتها الصغيرة. وعدها الرجل خيرا. عند الضحى طلبت مني ومنانة أن نرافقها لتفقد ما تبقى من «التغزازة». دار من غرفتين ومطبخ وسور يكمل فناء متربا تتوسطه شجيرة ليمون. تلف الدار أشجار تين ورمان باسقة فروعها، ودالية وفيرة قطوفها،وبقايا أحواض نعناع وبقدنوس إلى جوار بئر ماؤه زلال نمير. طفنا بمرافق الدار المهجورة، نسائل أنفسنا عن إمكانية العيش بين جدران متآكلة، وأسوار متهالكة، ونوافذ استوطنتها العناكب، وجحور تبدو آهلة بالقوارض. لم يدم تفقدنا للخربة طويلا….جلسنا على حافة البئر نستطلع دمنة الدار وما آلت إليه بعد الهجر.انتهزت الأم وحدتنا فصارت تحكي قصتها مع التغزازة:
« بعد التحاق أبيكما بجيش التحرير، وعودتي وإياكم من «غفساي»، عشت نفس المشكل الذي أعيشه اليوم مع جدتكم، فما أشبه اليوم بالبارحة… سبحان الله لم يتغير منها شيء على الإطلاق… فقررت أن ابني فوق هذه الأرض بيتا صغيرا، شمرت على ساعدي فهيأت ما يناهز ألفي لبنة من طوب، وجمعت ما يكفي من الحجارة. بمؤازرة أهل المدشر قاطبة تم بناء الدار الصغيرة في زمن قياسي،منهم من تبرع بأعمدة، ومنهم من ساهم في البناء، ومنهم من تكفل بالنجارة. بعد البناء تطوعت نساء الحومة لتبليط الجدران وتزيين الغرف…. اقبل الناس طوعا، تقديرا للموقف الشجاع لوالدكم الذي ضحى بكل شيء من أجل الوطن. استكمالا لجميل صنيعهم ، أجمع أهل الدوار على تنظيم اكتتاب عيني لفائدة الأسرة المجاهدة، فزودونا من كل الغلال. في تلك الأثناء كانت بني زروال منطقة شبه محررة، يحكمها في الواقع جيش التحرير. استقرنا ب»التغزازة»، فعملت على غرس هذه الأشجار، وسيجت الدمنة ، وعشت في رغد وهناء ووقار. تعاطف معنا الجميع واحتضننا أهل القبيلة جمعاء…. في هذه الدار استقبلت عددا من رجال التحرير، آويتهم وغسلت ثيابهم وسهرت على راحتهم وأمنهم، كانوا يأتون الدار في الليالي الدامسة، ويدقون طاقة الغرفة العالية، فأدخلهم في حفظ الله وأطعمهم ما تيسر، ثم يغادرون قبل انبلاج الصبح… زارنا الوالد مرارا، وكانت زيارات خاطفة وسرية. في هذه الدار، ولد عبد النبي قبيل عودة محمد الخامس….إنها دارنا الحقيقية، ولا بد أن نعود إليها…»
حل الخريف، لم نعد إلى بيتنا في «التغزازة» رغم ترميم بعض جوانبه. استطاع بابا سيدي بحنكته وجميل قوله أن يقنع أمي بالبقاء بالدار الكبيرة بعد أن استجاب لطلباتها الدنيا: استقلالية في النفقة، وشراء بغل ثان يكون رهن إشارتها، وحق التصرف في قسط من حوالة الوالد.
عاد الفقيه الغروضي من عطلته الصيفية، والتحق الأطفال بالمعمرة لتستأنف الحياة دورتها بنفس الطقوس والإيقاع؛ وتوالت الفصول خريفا فشتاء فربيعا إلى أن حل صيف آخر. لكل فصل أعمال وطقوس وأجواء. الخريف فصل الذبول والأمطار الأولى والحرث… والشتاء موسم الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة والليالي الهوجاء والقمم الناصعة وليلة الحكوز المتميزة … والربيع زمن الورود والبراعم والجداول الصافية، تستعيد فيه الأرض دفئها والطيور زهوها… والصيف زمن الخير والعطاء والأفراح… والانتظار…
غير أن ما ميز الحياة بالدار الكبيرة تلك السنة ثلاث أحداث:
زواج «نانا» التي كانت سند الوالدة وعنصر التوازن داخل البيت، كانت تحيطني بعطف خاص وتدللني أيما دلال. كان بابا سيدي يعزها كثيرا، لذا حرص أن يقيم لها عرسا قل نظيره، دعا إليه وجهاء القوم وأشهر الأجواق الجبلية يتقدمها الشيخ محمد العروصي وفريق «التباوردة»، وعبأ لذلك كل ما اقتضته المناسبة من عدة وتموين يليق بسمعة الرجل وقدره. رحلت «نانا»، فودعها الجميع ب»الطبل والغيطة» والزغاريد، ورمت النساء الموكب بما تيسر من حجارة على تخوم المدشر، عملا بطقس متأصل يقوم على الاعتقاد بأن ذاك الفعل الجماعي سيحول بلا ريب دون عودة العروس لدار أبيها.
في غمار الفرحة بزف «نانا» إلى بيتها، ألمت بالدار الكبيرة رزية ما بعدها رزية. بدون مقدمات، بدأت رؤوس المعز في النفوق واحدة تلو أخرى. استدعى بابا سيدي البيطري التقليدي، فلم تفلح وصفاته كلها في وقف النزيف، واستنجدت جدتي ببركة الأولياء والصلحاء، فلم تجد كل القرابين، ودعي الفقيه الغروضي ومن معه من الحفظة لإقامة «السلكة»، والتبرك بالقرآن الكريم فذهبت كل الجهود سدى. استمر الوباء في الفتك بالقطيع،وعجزت كل التمائم والجرعات وزيارة الأولياء واستعطاف الجوامع والأضرحة عن وقف إبادته ، فعاش أهل الدار مأساة حقيقية، خاصة وأن البلاء نفسه لم يمس أي قطيع آخر بالمدشر. انطلقت الألسن في رواية النكبة وتفسيرها: قال البعض أن الرزق تبع «نانا» التي كانت سعدا على الدار منذ أن حلت بها وهي رضيعة. وذهب آخرون إلى أن جنا سكن المكان، أسيئت معاملته، فانتقم بخنق العنزات\. واعتبر آخرون أنها لعنة إلهية لسبب لا يعلمه إلا الله. وقال العقلاء أنها بداية وباء أصاب من قبل قطعان الماشية سرعان ما سيغزو زرائب الناحية. خيمت الغمة على أهل الدار جميعا، وامتزجت مشاعر الأسى بالإحساس بذنب مفترض، وهو إحساس غذته مواقف بعض أهل المدشر الذين نبذوا ما تبقى من ماشية «المعلم الخمار»، وأوصوا الرعاة بتحاشي اختلاط قطعانهم ببضع عنزات أخطأها الوباء. وكان لذلك آثار وخيمة على أختي منانة التي كانت في ما مضى تصاحب القطيع العرمرم إلى المراعي، فرفضت أن تستمر في القيام بنفس الدور جراء نبذها من قبل صديقاتها الراعيات. ومما زاد من محنة العائلة، نفوق البغل الجديد الذي لم يمر على تملكه سوى شهور معدودة، جزعت لفقدانه الوالدة جزعا عظيما، واعتبرت موته علامة مضافة عن تعاسة حظها في الدنيا قبل الآخرة. أما جدتي فقد أصابها كمد عظيم، وكادت أن تفقد رشدها، وتملكها ما يشبه الهذيان، فصبت جام غضبها على الوالدة، واعتبرتها نذر شؤم على الدار الكبيرة، ودعت عليها بالرحيل إلى ما وراء «الماء الأزرق».
استجاب القدر لدعاء الجدة، وربما لتوسلات الوالدة أيضا. ذات أحد من آحاد يوليوز، حل الوالد دون إشعار مسبق ب»غرس علي»، ممتطيا فرسا دهماء اكتراها من أحد الحمالين ب»غفساي». ما أن ترجل حتى تسابقنا إلى معانقته، ودموع الفرح تتفجر رقراقة من عيون أتعبها الانتظار. قبلنا الواحد بعد الآخر على غير ترتيب، وهو يسأل الوالدة عن أحوالنا دون انتظار جواب منها. لم يخف فرح الاستقبال آثار النكبة البادية على الوجوه، والتي فطن لها سي المهدي للوهلة الأولى، فالتفت للجدة متسائلا:
– ياك لا بأس؟
أجاب بابا سيدي، مستبقا جواب الجدة:
– الحمد لله.
ثم بادر بدعوة الوالد للجلوس والتقاط الأنفاس بعد رحلة يعلم الجميع عناءها. تصدر سي المهدي المجلس، وقد أضفى عليه زيه العسكري مهابة وقوة لم تمنعنا من استفساره عن ظروف عمله، وعن سوس، وعن أسباب تأخره في زيارتنا. وسألته في صيغة طافحة بالرجاء:
– هل سنرحل معك إلى المدينة؟
أجاب في اقتضاب : إن شاء الله.
وانصرف في أحاديث متشعبة مع باقي الحاضرين اللذين تزايد عددهم. نساء ورجال قدموا للسلام على الجندي/ المقاوم، وتهنئة العائلة بعودته سليما معافى. أعدت أمي جلسة الشاي، ثم اختفت لتعود بعد فترة في أحسن حلة، بعد أن تزينت بما ملكت يداها من وسائل الزينة التقليدية، كحل وسواك وماء الزهر؛ بينما انهمكت الأخت الكبرى وبعض نساء الحومة في إعداد العشاء بتوجيه من الجدة التي كظمت غيظها إلى حين.
أرخى الليل سدوله فتقاطر أهل المدشر على الدار الكبيرة. كانت من عادات البلدة أن يحمل « الضيوف» في مثل هذه المناسبات ما تيسر من طعام لاقتسامه مع من عاد من دار الغربة. لم ننم تلك الليلة إلا عند الهزيع الأخير، وقد أشرف الوالد نفسه على توديع الزوار الذين ظفر كل منهم بهدية منه.
حينما أفقت صباح الغد، كانت أنوار الشمس قد ملأت الفضاء، لم أذهب إلى الجامع التي حسبتها مجرد ذكرى، فأنا عائد إلى المدرسة بعد أيام، وكذلك فعل أخي عبد النبي. لم يسأل الفقيه الغروضي عن غيابنا لما جاء بدوره للقاء الوالد الذي أكرمه بمقدار من المال فضلا عن رزة من القماش الأبيض الناعم.
دنت إجازة الوالد من نهايتها، أيام قضاها في استقبال الأحبة وأصدقائه القدامى في جيش التحرير، وزيارة من عجز منهم عن القدوم، وارتياد الأسواق المجاورة صحبة بابا سيدي، اتصالات علم من خلالها بلا شك ما أصاب الدار والأهل من ويلات. بانت على سلوك الوالدة أمارات الاستعداد للسفر في نوع من التكتم، تجلى في تنظيف الملابس وجمع ما قل وزنه وزاد ثمنه من مصنوعات الفضة والمناديل المطرزة. وأصبح إهمالها للأعمال المنزلية واضحا. سمعتها ذات ليلة، تسر لخالي «سيود» عزمها على مصاحبة الزوج حيث هو، فأوصاها بأن لا تتراجع عن ذلك. ليلة السبت الأخير من يوليوز، أعلن الأب في جلسة عائلية عزمه الأكيد على أن تصاحبه أسرته الصغيرة إلى بلاد السوس. لم تفلح توسلات الجدة ولا دموعها في ثنيه عن عزمه، لكن بعد أخذ ورد ومفاوضات عسيرة، كان القرار بأن يمكث عبد السلام وفاطنة بالدار الكبيرة لمؤانسة الجدة و»المعلم الخمار»، بينما تصاحب منانة وعبد النبي والعلمي الوالدين. أبدت أمي عدم الرضا، لكنها التزمت الصمت المهين خشية سوء العاقبة، لأن كل اعتراض من جهتها كان من المحتمل أن يكون كافيا ليراجع أبي القرار ويتركها لأحزانها. في الحقيقة لم أتفاعل مع الحدث، في حين اعتبرت أختي البكر الأمر عاديا، فعيشها بالمدينة لم يتجاوز شهرين حين التحقت بنا بوزان لاقتلاع ضرس حاد عن موضعه. قضي الأمر، فانصرف كل إلى مرقده، ومما لا شك فيه أ ن جفونا كثيرة لم تغمض. رحلة الغد ستكون فارقة في حياة الأبناء والبنات من حيث المسار الدراسي، والزواج، ونمط العيش وأسلوب الحياة، وبالتالي في تشكل نفسية كل منا وشخصيته. ربما لم أقدر في تلك اللحظة آثار ما جرى، لكن الأيام ستكشف لي ما كنت له جاهلا. على غير العادة، نمت تلك الليلة إلى جانب الأم والوالد بمبادرة منهما. حاولا معا أن يبررا القسمة:
– أنت هو الابن البكر، وأنت رجل الدار…
– بابا سيدي يحبك، وتمسك بك دون غيرك…. في العام المقبل سترافقنا إن شاء الله…
– لن ننساكما وسأبعث لكما بما تشترون أجمل الألبسة…
لم أحفل كثيرا بتبريرات أدرك اليوم أنهما لم يكونا مقتنعين بوجاهتها، وأن القبول بالقسمة كان من جانب الوالد ابتغاء رضا من يعتقد أن الجنة تحت أقدامها، وتقديرا لمشاعر بابا سيدي الذي لم يخف تعلقه بي.
كانت صيحة الديك الأولى كافية لاستنهاض الجميع دفعة واحدة كأنما نفخ في السور وكان النشور. حمل البغل الأشهب بما اختار الوالد تحميله من زيت وزيتون وزبيب، كما حمل البغل المعار بحقائب ضمت الألبسة وحاجات أخرى. توادعنا في صمت ودموع. انطلق موكب «المدينيين» يرافقهم «بنسلام» في اتجاه «غفساي»، ووقف ا»لبدويون» طويلا يرقبونهم إلى أن غابوا وراء التل. عقبت الجدة:
– الماء والشطابة …
– لعنة الله على الشيطان.
رد عليها بابا سيدي،ثم آوى إلى غرفته، حاملا إياي بين ذراعيه ليناولني قطعة حلوى ألف حفظها عن العيون ب»مرفع» منمق جميل من صنعه. لم يفارقني ذلك اليوم، فرافقته لزيارة «نانا» بدوار «العريبيين» البعيد عن «غرس علي» بما يناهز سبع كيلومترات، قطعناها مشيا على الأقدام. سرت العروس الصبوح بزيارتنا، ورحب زوجها وأهله بقدومنا، وقدموا لنا أطيب الفواكه وألذ المأكولات، في كنف عرصة ظليلة تداخلت فيها أشجار الليمون والبرقوق والسفرجل المثقلة بثمارها الطيبة، على ضفة ساقية ينهمر ماؤها الليل والنهار. في طريق العودة عبر غابة الرياحين، لفت سمعي أزيز شاحنة على الضفة الأخرى ل «واد ميزان». سألت بابا سيدي :
– أقريبة «غفساي» من هذا المكان؟ إني أسمع أزيز محرك…
– «غفساي « بعيدة بما يوازي أربع ساعات من المشي… ما يتناهى لمسمعك يابني ربما لشاحنة قيل أنها تنقل تجهيزات مدرسة «أولاد صالح»،
– وأين توجد هذه المدرسة؟
– بسوق الثلاثاء، وراء التل المقابل.
اقترحت على بابا سيدي تسجيلي بالمدرسة. وعدني بأنه لن يدخر جهدا من أجل ذلك، وأنه سيقوم بالمساعي المطلوبة لدى أعيان «أولاد صالح»، لعله يقنعهم بقبولي بين أطفالهم. لم أفهم ما معنى أن يكون ولوجي المدرسة مرهونا بموافقة الأعيان.
إنها قصة جديرة بالحكي: نهاية الخمسينات بادر «سي محمد لعور»، أحد الفقهاء المتنورين ب»أولاد صالح» إلى تأسيس جميعية :»إخراج الطفولة من الجهل إلى النور»، تركز هدفها في إحداث مدرسة ابتدائية. واستطاع الفقيه المجدد أن يقنع أعيان القبيلة بالفكرة، فتعبأ الجميع لإخراجها إلى الوجود. كان للفقيه لعور مشروع متكامل من شطرين: إحداث فصلين دراسيين بضريح الولي الصالح سيدي يحيى وبقاعة المحكمة التي شيدت في عهد الحماية، ثم بناء حجرات أخرى بتمويل ذاتي ينظم بشأنه اكتتاب. استحسنت اللجنة الاقتراح في مجمله وتحفظ البعض على اقتحام حرمة الضريح من قبل أطفال لن يلتزموا حتما بقواعد التوقير والإجلال. وبعد نقاش طويل ومضن، استطاع سي محمد أن يقنع سواه من الفقهاء بجواز التدريس بالضريح شريطة أن لا تدرس به سوى اللغة العربية، وأن يلجه الأطفال حفاة،حليقي الرؤوس، وأن يرتادوا جلابيب تقليدية. تلك كانت النواة الأولى للمدرسة، التي كان عدد المقبلين عليها يتجاوز بكثير طاقتها الاستيعابية. وكان ذلك أقوى محفز على إكمال المشروع. ورد في رسالة/شهادة، بعث لي بها سي «محمد لعور الصالحي» سنة 1990م، تلبية لطلب معلومات عن ظروف نشوء المدرسة، التي اخترتها مجالا لبحث أكاديمي في علم اجتماع التربية: « … لما كان الإقبال عظيما، قررنا بناء حجرات أخرى، وفكرنا في تنظيم جولة في القبيلة على الطريقة التي يعمل بها مريدو بعض الزوايا. جندنا لذلك رباعة من «الطبالة» و»الغياطة»، وزمرة من حفظة القرآن الكريم. يتكفل الفنانون بتنشيط الجولة وخلق جو من الفرجة وجلب انتباه الناس، ويتلو الفقهاء آيات أمام كل دار وقفنا عند بابها ويدعون للمكتتبين والمكتتبات بالبركة وحسن الخاتمة. أبان السكان عن جود غير منتظر فجمعنا ما يكفي لتحقيق المشروع. وهكذا بدأنا في بناء أربع حجرات بدل اثنتين. وأصبحت جاهزة للاستعمال بداية بالموسم الدراسي 1960، وكنت من أول أساتذتها. ومما يسر المأمورية، تطوع الشباب للعمل مجانا، استلهاما لتجربة طريق الوحدة. ومن القواعد التي وضعتها اللجنة، وباركتها « الجماعة»، ولم يعترض عليها القائد، أن التسجيل في المدرسة سيكون محصورا على أطفال «أولاد صالح»….»
بعد عشرين عاما على حديث «بابا سيدي»، فهمت مغزى ما ذهب إليه، وأدركت مصدر نفوذ الأعيان، وخلفية قرارهم المشروع. لم يتهاون «بابا سيدي» في السعي للوفاء بعهده، فثابر على الذهاب وإياي ل «أولاد صالح» كل ثلاثاء قصد الاتصال بأعيان القبيلة ورجالاتها النافذين. فاتح كل من ظن به خيرا في الموضوع، مبررا إلحاحه بأنه سبق لي أن دخلت المدرسة، وأن ألأمر يتعلق بابن رجل ساهم في تحرير البلاد. وأعرب عن استعداده بأن يساهم في الاكتتاب أضعافا مضاعفة. وعده بعضهم خيرا.
انقضى ما تبقى من ذاك الصيف البغيض، مرت أيامه بدون طعم … فالدار الكبيرة أضحت شبه خالية بعد رحيل «المدينيين»، وصرت الطفل الوحيد إن استثنينا فاطنة التي تكبرني بكثير وغادرت قبل الأوان عالم الطفولة. «ونانا» غادرت لبيت جديد… والقطيع اندثر تاركا وراءه باحة رحبة كئيبة… وخالي «سيود» ودع بحثا عن مستقر آخر رغم إلحاح بابا سيدي عليه بالبقاء. أسهمت هذه التحولات المتسارعة في تغير الأجواء التي أصبحت أكثر هدوء وسكينة، لكن أقوى رتابة وقنوطا. للتخفيف من ثقل الزمن وغمة المكان، اشترى بابا سيدي أول جهاز حاكي عرفه المدشر، وعشرات الأسطوانات ،أغلبها لشيوخ الطرب الجبلي، وبعضها لرابح درياسة ومازوني. ما أن تميل الشمس غربا وتبسط الأشجار ظلالها على «الدكانة» الفسيحة اللصيقة بالدار الكبيرة، حتى يصدح الحاكي بروائع العيطة الجبلية التي تملأ الفضاء، فيهب الجيران نساء ورجالا وأطفالا للاستمتاع والترويح عن النفس بعد يوم متعب وشاق. بعد المغرب أرافق «بابا سيدي» كما العادة إلى البيدر حيث نمكث إلى ما بعد العشاء، وأحيانا إلى منتصف الليل. من هناك تتراءى، قبل أن يخيم الظلام، قبة سيدي يحيى . يشير إليها «بابا سيدي « قائلا:
– جوار ذاك الضريح، تقع المدرسة…
يصمت قليلا ثم يضيف واضعا إياي أمام تحد حقيقي:
– هل ستقدر على السير راجلا كل هذه المسافة صبحا وعشية؟
– سأقدر، وسأصبر على كل شيء. لكن لابد أ ن يساعدني رجل على عبور الوادي أيام الشتاء.
– لا تعر اهتماما لذلك، يمكنك أن تنزل عند «نانا» طيلة فصل الشتاء، ومتى تعذر عليك الرواح إلى غرس علي. لقد حدثت زوجها في الأمر ، وقبل.
لم أعد بعدها إلى «المعمرة»، بل رجعت إلى محفظتي القديمة، أخرجت كراسة «إقرا» وسرت أحفظ نصوصها وأنجز التمارين على نفس الدفتر الذي كتبت على صفحاته بمدرسة «العادر» بوزان الجميلة.
مضت أسابيع معدودة فصاحبني جدي إلى مدرسة «أولاد صالح» التي فتحت أبوابها بداية أكتوبر: أربع حجرات متراصة بنيت من حجر، وسقفت بقرميد أحمر باهت، طليت أبوابها ونوافذها بلون أخضر قاتم، ذات ساحة معشوشبة مفتوحة على بساتين التين والزيتون شرقا، وتحفها أشجار الأوكاليبتوس من باقي الجوانب. تحدها غربا رحبة السوق الأسبوعي، وشمالا المقبرة. يجاور المدرسة من جهة الجنوب، بيت صغير سكنه أحد المعلمين، ودكاكين، وطاحونة. تقع المدرسة في قلب قبيلة «أولاد صالح» على مسافات متقاربة عن كثير من مداشرها، وعلى المسلك الطرقي الرابط بين «غفساي» و»تابودة».
عشرات الأقران توزعوا على صفوف أربع تمثل ثلاث مستويات ( التحضيري ، الابتدائي الأول والابتدائي الثاني)، ما أثارني، مقارنة مع مدرسة وزان، تقدم سن بعض التلاميذ وسحناتهم الرجولية من جهة، وندرة البنات اللواتي لم يتعد عددهن ثلاثة من جهة ثانية. ولج كل فوج حجرة مصحوبا بمدرسه. سبحان الله، قلتها سرا وأنا أنظر للسي عبد الله. أجل قد يخلق الله من الشبه أربعين، وها هو سي عبدالله على صورة معلمي الأول بوزان، أو قل: هاهو سي امحمد يبعث في «أولاد صالح». استبشرت خيرا، وتمنيت أن يكون المعلم الجديد شبيها بالسابق، علما وتربية ومحبة. لم يخب ظني. سرعان ما اكتشف الرجل الطيب الأنيق تمكني من القراءة والكتابة وحفظي التام لنصوص المطالعة. وعلم، لما سألني عن سر تفوقي، بقصتي، فحباني بمعاملة خاصة من تجلياتها أن يسمح لي بمغادرة المدرسة قبل الخامسة نظرا لما ينتظرني من خطو، والعودة لغرس علي قبل أن يسود الظلام . كانت الطريق موحشة، تتخللها سهوب وشعاب وواد عميق وغابة هيفاء، ما كنت ألج أدغالها حتى تحاصرني أشباح وأشباح في صور المخلوقات الخرافية التي طالما وردت في أحاديث عجائز القرية: تنينات وغيلان وعفاريت. يغمرني الخوف الرهيب، فأسرع الخطى وألتفت إلى كل جانب لعلني أرى في الأفق آدميا أو مجرد حيوان أليف يخفف وجوده من روعي. وتزداد رهبة الطريق الطويل الملتوي كلما قصر النهار وغزته جحافل الظلام قبل وصولي مشارف المدشر. في الصباح الباكر ، توقظني جدتي من نوم عميق، تناولني فطورا دسما من بيض وسمن وحليب طبيعي، تحشو جرابي بخبز وزيتون وتين مجفف وزبيب، تناولني علبة من قصدير بها وجبة قطاني قد تكون «بيصرة» أو عدس، ثم تصاحبني حتى الكدية المطلة على « واد ميزان»، فأنطلق عبر مسلك ضيق وسط غابة الرياحين إلى أن أصل الوادي، فأسير على ضفته اليسرى فاليمنى ، ثم أتجه يمينا متسلقا جبلا صعب المراس إلى أن أطل على مدرستي. وأنا قي بداية رحلة الفجر، تؤنسني نداءات جدتي من فوق الكدية العالية، وهي تشجعني على مواصلة المسير. أصل المدرسة وقد أغرق العرق جبيني… أصل متعبا للغاية… عندما يتجه زملائي لبيوتهم المجاورة عند الظهيرة، أرابط، صحبة نفر من التلاميذ، جوار المدرسة تحت شجرة الكاليبتوس الظليلة. نتناول ما حملناه من زاد، ثم نجري لعين قريبة نروي عطشنا ونعود للعب في انتظار الحصة المسائية. في الذهاب والإياب، شغلت نفسي بأشياء ساعدتني على مغالبة رهبة الفضاء ووحشة الأمكنة. أول تلك الأشياء تقدير المسافات وقياسها، إذ كنت أعين، انطلاقا من حيث أوجد، معلما من معالم الطريق، ربوة تكون أو شجرة أو ساقية، فأفترض كم خطوات تفصلني عنها، ثم أعد خطواتي إلى أن أصلها، أصيب مرة وأخطأ مرة. كان تمرينا جيدا ألهمني قدرة بينة على تقدير المسافات. كنت أحيانا أتمرن طيلة الرحلة على التسديد، ألتقط حفنة من الحصى فأروح أسددها تباعا في اتجاه أهداف قد تكون طيورا أو صخورا أو جذوع شجر. وأحيانا أخرى كنت أعمل على تذكر مضمون دروس اليوم واسترجاعها، مما أسعفني على تنمية الذاكرة والتفوق في الدراسة. هي آليات من ضمن أخرى لجأت إليها ضمانا لتوازني النفسي وانتصاري على ذاتي. بعد أيام تآلفت مع الغابة وكائناتها ومع الوادي وظلاله ومع مفاجآت الطريق، فتبخرت مشاعر الخوف إلى غير رجعة، ولم تعد جدتي بحاجة إلى مرافقي حتى «كدية عروشة».
أقبل الشتاء مزمجرا، فأمطرت السماء بلا هوادة، وهدرت السواقي والوديان، واشتد البرد، وقصر النهار. أصبحت الرحلة لا تطاق ومحفوفة بالمخاطر. خيرني بابا سيدي بين الإقامة عند أخته حليمة ب»عين حديد»، أو عند «نانا» ب»العريبيين «، فاخترت «نانا» طبعا رغم بعض الفرق في المسافة.
ودعت «غرس علي» على مضض، رافقني بابا سيدي إلى «العربيين» حيث استقبلتني «نانا» وزوجها بحفاوة. كانا نعم الحاضنين العطوفين … كرم وجود وحنان وحسن معاملة رغم محدودية الإمكانات وضيق ذات اليد. أسكناني ذات الغرفة التي سكناها، واقتسما معي الفراش والرزق، بل آثرانا على نفسيهما، ولم يبخلا علي يوما بما ملكت أياديهما الندية. اطمأنت نفسي للعروسين وألفت العيش بينهما.
« العريبيين « دشرة صغيرة تقع أسفل جرف يتفجر عيونا سخية ، وسط بساتين غنية تكسوها أشجار مثمرة من كل صنف، وتحيط بها مروج تغرقها المياه شتاء ويعمها الكلأ ربيعا وصيفا. ليست الدشرة الصغيرة الهادئة بعيدة عن المدرسة. لذا لم أعد أحمل معي زادا، فالوقت كاف للذهاب والإياب أربع مرات في اليوم رفقة تلاميذ جعلت من بعضهم أصدقاء: البركة والمنير والبقالي الملقب بالشريف، وخاصة الخالدي الذي ينتمي لقبيلتي، واستفاد من نفس الامتياز الذي خول لي حق التسجيل بمدرسة «أولاد صالح»، ونزل ببيت مجاور لبيت «لنانا».
في هذه الدشرة الوديعة ، قضيت الشتاء وجزءا من فصل الربيع، وتوطدت علاقاتي بأبنائها المتمدرسين الطيبين، أرافقهم في الغدو والرواح، وألعب معهم أوقات الفراغ. منذ أن ولجت المدرسة سار بابا سيدي مواظبا على ارتياد سوق الثلاثاء حيث أكون في انتظاره. يأتي «نانا» بمؤونة الأسبوع، ويناولني خمسين سنتيما لأشتري حلوى ومملحات. وبالمناسبة يسأل معلمي عن سلوكي وعملي الدراسي. كان يروقه تنويه سي عبد الله بقدراتي ونتائجي فيجزل العطاء ويودعني بعد أن يوصي بي المدرس ثم «نانا» خيرا. إن انقشعت الغيوم، وتراجعت السيول نهاية الأسبوع، أقوم بزيارة «غرس علي» ولو لليلة واحدة، شوقا لحضن الجد وتدليل الجدة.
مرت الدورتين الأولى والثانية، تبوأت فيهما المرتبة الأولى، وحلت عطلة الربيع التي قضيت شطرها الأول ضيفا لدى عائلة صديقي الخالدي الذي بادلني الزيارة وقضى ب»غرس علي» الشطر الثاني من العطلة ذاتها. صار الخالدي صديقا حميما وحليفا وفيا، فقررنا بعد العطلة ألا نمكث ب «العريبيين»، وأن نعود كل مساء معا إما ل «غرس علي» أو ل»شهريرة». وهكذا أكملنا السنة الدراسية الأولى بين المدشرين واستمر تبادل الزيارات أثناء عطلة الصيف المديدة.
مر الصيف سريعا… أعراس، وأسواق، ومواسم … ولهو، ولعب، وسمر… انتظرت زيارة الوالدين كما وعداني، فلم يفيا بالوعد. يهزني الحنين أحيانا لأخوتي فأذرف دمعا دافئا في صمت.
عدت ثانية إلى المدرسة: نفس المدرس ونفس التلاميذ بنفس الحجرة. على نفس الإيقاع الدراسي والوتيرة التعليمية سارت السنة الجديدة. جد وعمل ومثابرة من قبل المدرس والتلاميذ على السواء. ما غاب سي عبد الله يوما رغم قسوة المناخ وإكراهات الطبيعة، ليس خشية من أحد، وإنما تقديسا للرسالة وحبا للمهنة. وكان آية في اللطف والحنان والحياء.
لكن مهما تشابهت الأيام، فهي لا تتماثل، ولا ينسخ بعضها بعضا. ألم تعلمنا الحكمة اليونانية أنه لا يمكن أن نسبح في النهر مرتين. الحياة ديمومة وسفر دائم مفتوح على كل الاحتمالات، وسفر نخط كل لحظة على صفحاته ما نشتهي وما لا نشتهي. ما ميز السنة الجديدة ثلاث مستجدات، أولها التحاق تلميذين من مدشرنا بالتحضيري الأول، صارا لي أنيسين دائمين شجعاني على الاستقرار بغرس علي ولو في الشتاء رغم كل الصعاب؛ وثانيها إحداث المطعم المدرسي الذي خلصني من جراب الزاد، وثالثها التصويت عل أول دستور عرفه المغرب المستقل.
كنت وصاحبي نودع «غرس علي» في كنف الغسق. نلتقي بعد الفجر عند البوابة الجنوبية للمدشر فننطلق راكضين مرحين نحو «أولاد صالح»، نتحاكي الخرافات، ونتبادل الألغاز، ونتداول أخبار الناس، ونتسابق نحو أهداف نحددها، إلى أن نصل المبتغى. شتاء ذاك العام كان عاصفا وماطرا لحد بعيد، أغرقت مياهه الطرقات فأصبحت موحلة، وغمرت الوديان والشعاب فأضحت جارفة يصعب على فتيان مثلنا المغامرة بعبورها، وكست الثلوج القمم والسفوح. أصبحت رحلتنا اليومية شاقة: أرغمنا الوحل على التخلص من أحذيتنا المطاطية الرديئة أصلا والسير حفاة فوق قضيض لاسع أدمى أقدامنا العارية، واضطرنا البرد القارس والمطر المنهمر إلى حزم جلابيبنا بحبال من دوم حتى لا تغرق أهدابها في الوحل، وتلفعنا بأطراف من البلاستيك للحد من البلل والتخفيف من لسعات الريح الباردة. لم تعد الأحوال الجوية تسمح بالركض والمرح والثرثرة… نمشي مهرولين في خط مستقيم، لا نتكلم إلا لماما، نتحدى الشعاب والسيخان وعواء الذئاب الجائعة. تسرب التعب لنفسي رفيقي، وبدت مقاومتهما تتهاوى ورغبتهما في التعلم تخبو. انقطع «البريق» بداية دجنبر ولحق به «الكاس» نهاية الشهر ذاته، فعدت اضطرارا إلى «نانا»التي عاتبتني على غيابي وشجعتني على الاستمرار. اقتصادا للجهد والوقت، كنت أتناول وجبة الغذاء بالمطعم المدرسي: حليب، وخبز أبيض ناعم محشو بزبد أمريكي أو بسردين مصبر لذيذ، وبيسكوي وشاي دافئ، وعدس. وجبات شهية كنا نتهافت عليها، ونقبل على بلعها بنهم عظيم، وكنا متأهبين للعراك من أجل الظفر بقطعة خبز إضافية، لولا الحضور الدائم للمدرسين الذين كانوا يتناوبون على الحراسة.
أتاحت لنا التغذية المدرسية متسعا من الوقت للمراجعة وممارسة بعض الألعاب الجديدة على البلدة، خاصة البلي وكرة القدم. كانت الفرق تتشكل حسب المداشر، وبما أنني وحيد مدشري ، غالبا ما كنت عنصرا احتياطيا ومكملا لإحدى الفرق عند الحاجة. إنه وضع مذل وصعب على النفس ومحبط. لذلك عندما كنت ألحظ أن لا مكان لي في الملعب أنسحب منذ البداية، وأعوض اللعب بإنجاز تمارين إضافية ومعاودة قراءة نصوص «إقرأ» للمستوى الثاني. مرات أخرى أصر على اللعب وألج رقعة الملعب غصبا على المتبارين، فأصطدم ببعضهم وأتعارك معهم فأفسد عليهم فرحتهم على الأقل. إن توفقت أحس بالانتصار، وهو إحساس أقرب إلى مشاعر الانتقام ممن حرموك من حق الانتماء وفرح الطفولة. قاتلت طويلا ليكون لي بين أقراني مكانة، وسلكت في ذلك كل السبل: وعد ووعيد، وصداقات، وتحالفات، مسخرا كل ما ملكت يداي وأتاحه لي الزمن. لقد كنت مثلا أتبرع بالخمسين سنتيما التي يمنحني إياها بابا سيدي لشراء كرة للفريق، وكنت أساعد بعضهم على إنجاز التمارين، وإن استعصى علي أمر أشكوه لل «سي عبد الله» فيوصي الرواد بإنصافي. مرات كثيرة، عرضني إصراري على اقتحام الجماعة لعنف جسدي من قبل الأقران. ذات مرة، وبسبب خلاف حول قواعد لعبة البلي، دخلت في عراك قوي مع أخوين انتهى بشق مؤخرة رأسي التي نزفت دما حتى الإغماء لما هوى علي أحدهم بحجر صلد وأنا أمسك بتلابيب أخيه. لما استعدت وعيي وجدت نفسي بين ذراعي «نانا» بباب شيخ القبيلة. كانت تلك المعركة عبرة لي، فامتشقت شفرة سارت لي منذئذ أقوى سلاح للدود عن العرض والشرف، وأقسمت أن أنتقم ممن شق راسي وأسال دمي. وانتقمت فعلا، فكان عقاب معلمي شديدا استحملته عن طيب خاطر.
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
انتهى الموسم الدراسي على إيقاع حدث غير عاد شغل الناس جميعا أو هكذا بدا لي. حدث بدت ملامحه الأولى في الأسواق حيث وزعت أوراق بيضاء تحمل «نعم» وأخرى زرقاء تحمل «لا»، وتحلق الناس حول أشخاص يشرحون لهم معنى الكلمتين والفرق بين الورقتين، ويذكرونهم بالسياق، ويوضحون لهم كيفية التعامل، ثم يحثونهم على التصويت بالورقة البيضاء لأنها رمز الصفاء والوفاء وسبيل إصلاح البلاد والعباد. إنها طريق الجنة والخير والنماء. أما الورقة الزرقاء فهي حسب الخطباء لسان الشيطان وطريق الفتنة وشعار المساخيط. فابتعدوا عن «البركاويين» يبعدكم الله عن الآفات. سألت بابا سيدي، ونحن عائدين من السوق الأسبوعي الذي شهد تجمعا حاشدا دعي له أعيان القبيلة طرا، أن يفهمني ما يجري. شرح لي أنه الدستور. أمعنت في السؤال:
– ما معنى الدستور؟
– من صوت ب»نعم» فهو مع الملك، ومن صوت ب»لا» فهو مع بنبركة.
– هل بنبركة هو من اختار اللون الأزرق وكتب «لا»؟
– بنبركة شوري، وهو ضد الدستور.
كررت السؤال:
– وما هو الدستور؟
– هذه أمور لا يفهم فيها سوى المخزن. اهتم بدروسك والعب مع أقرانك.
لم أفهم شيئا، وربما لا أحد من الفلاحين فهم شيئا، وما كان في الإمكان أن يفهم أحدهم شيئا. غير أن إقبالهم على التصويت كان كبيرا بعد أن طاف الشيوخ والمقدمين صحبة المخازنية بالدواوير، يأمرون الناس بالتصويت ب «نعم» المرضية، وانطلقت أصوات « البراحين « تحث السكان على أداء الواجب الوطني. صبيحة يوم الاقتراع، حل ب»الجامع الكبير» شخصان يرتديان زيا عصريا أشرفا على عملية التصويت، استقبلهما أهل المدشر بحفاوة وكرم، وودعوهما بعد أن أنهيا المهمة ، وأهدوهما زيتا صافيا وسمنا وديكة. شارك سكان الدوار عن بكرة أبيهم في الاستفتاء ، بما فيهم «عبود» الخبل و»فطيطم» الحمقاء. سئل عبود على سبيل المزاح عن الورقة التي أسقطها في الصندوق فقال أنه سلم الورقة الزرقاء للمراقب الأول والبيضاء للثاني، وكلفهما بوضع الورقتين معا في الصندوق الخشبي، وأردف:
– أنا رجل جدي ولا أحب التمييز بين الناس ولا أفضل لونا على آخر، الألوان كلها عزيزة عند الله
أما «فطيطم» غريمة «عبود» فقد احتفظت بالورقتين معا وصرخت في وجه المراقبين:
– سأشتري بهما دملجا يوم السوق… وريحية.(حذاء نسائي تقليدي محلي ، يصنع من جلد ونعل)، ألا تعلمون أني سأتزوج «بوغداج» قريبا.؟
بعد أيام، سمعت عن الناس، الذين سمعوا عبر الأثير، أن الدستور نجح. سالت جدي كما العادة:
– بأي معدل نجح «سي الدستور»؟
– وما شأنك وشأن الدستور؟ اللهم احفظ هذا الطفل.
– مما يا جداه؟
– من عين أبناء الحرام.
انصرفت فعلا للعب مع أقراني ، أستمتع بمرافقة الرعاة ومشاركتهم رغيفهم وألعابهم نهارا، وأحن للبيدر ليلا، أتثقف على يد بابا سيدي الذي لا يتوقف عن الحكي عن ياجوج وماجوج، والعملاق، وسيدنا الخضير، وعن كرامات سيدي احمد التيجاني مروض الأسود،ومولاي العربي درقاوي دفين بوبريح … إلى أن استؤنفت الدراسة وفق نفس الدورة الزمنية وعبر نفس الفضاءات.
شيئان جديدان طبعا ذاك العام، أبرزهما بداية تعلم اللغة الفرنسية وتتلمذي على مدرس جديد للغة العربية. أستاذان على طرفي نقيض في كل شيء: سي عامر أستاذ الفرنسية، أنيق ، لطيف ، مبتسم، وبشوش، رقيق القسمات، أعزب، قريب إلينا، يمازحنا ويشركنا لعب الكرة بعد الحصة المسائية. سمات لم تنقص من جديته وحزمه. لم يدخر جهدا في تعليمنا أبجديات اللغة الفرنسية ونطق حروفها وكتابتها. وسي المفضل، ابن القبيلة، صعب المراس، غضوب وعنيف. جدي في عمله لكن إلى حد القسوة. لا يتردد في اقتطاع أغصان الأكالبتوس ليجعل منه عصيا ينهال بها على أجسادنا لأتفه الأسباب. لذلك سميناه «الجزار». بقدر ما كنا نقدر ونحب سي عامر ونسعى إلى حصته في غبطة وسرور، كان امتعاضنا من سي المفضل وعلمه ، نفرح لمرضه وندعو عليه بما يتمناه الإنسان لألد أعدائه. أسعفتني تجربة وزان، وما تعلمته على يد مسيو حاتمي، على أن أتقدم زملائي في اللغة الفرنسية، وأن أنهي السنة في الرتبة الأولى.
كان للسنة أحزانها أيضا، في غضونها فقدت صديقي الأعز. إنه «هتير»، وهو طفل رقيق العواطف، دمث الأخلاق، عاش يتيما منذ ولادته وتربى في حضن أب مغلوب على أمره ، وزوجة أب ظالمة، ما رحمت يتمه ولا أشفقت لمرضه. فعاش عليلا، سقيما، شاحب الوجه، منخور القوى. كان يأتي المعمرة في صباه إلى أن بلغ منه الوهن الزبا، فلزم البيت. كان يقضي أطراف النهار متكئا لحائط مقابل للجامع الكبير. أوقات الفراغ كنت أتفقده، وأحيانا كنت أستضيفة لأيام بدار بابا سيدي، أشركه طعامي وملبسي وألعابي. يرافقني متى استطاع لجمع البلوط أيام الشتاء، ولاصطياد الطيور في محيط الدار أياما أخر. لم يعرض المسكين على طبيب، ولم تنفع في علاج سقمه تمائم الفقيه ولا ترياق الصالحين. تدهورت أحواله أواخر الربيع إلى أن رحل. رافقت جثمانه إلى لحده، وصليت له راجيا من الله أن يلحقه فورا بجنة النعيم ليحلق في سمائها الواسعة، وينعم بفضائلها بعد أن حرم في الدنيا من الصحة والحنان ووجه الأم الرؤوف.
في عز الصيف، قدم والديٌ من سوس، صحبة عبد النبي والعلمي، دون منانة التي تعمدت أمي إبقاءها مع الخالة محجوبة، خشية أن «تسرقها» منها جدتي كما سرقت أنا وفاطنة. في الحقيقة، لم أحفل كثيرا بقدومهم، لكني غبطت حالهم. طفلان صبوحان يرتديان قمصانا وسراويل عصرية قشيبة، وشعور ناعمة مصفوفة، وأم ذات قد معتدل ووجه بهي باسم، وقميص من حرير، ومنديل من الخز الناعم، وخف صقيل؛ وأب عريض المنكبين ، فارع القامة، كثيف الحواجب، نافر الأنف، حاد النظرات. يعاملهم الجميع معاملة متميزة، ويسعى الناس لخدمتهم واستضافتهم، يسألهم كل من غاب عنه قريب أو حبيب إذا ما كان لهم به علم. كانت «منانة البكاية» لا تكف عن استعطاف والدي أن يدلها على مكان ابنها الذي يقال أنه شارك في حرب فيتنام، انتظرت عودته لمدة عشرين حولا. لم يعد، ولم يرحم دموعها التي ذرفتها بسخاء آملة أن يعود يوما لأمه وأرضه الحبيبتين.
عاودني سؤال طالما دار بخلدي: لم ذهبوا دوني إلى المدينة؟ وكيف تمت القسمة، وعلى أية معايير؟ في أعماقي، كنت أخشى أن يكون المعيار هو الحب الذي يكنه الأبوان لكل منا. ما أن استراح القادمون من عنت السفر حتى بدأ الإعداد لعرس أختي فاطنة، التي لحقت ب»نانا « بأولاد صالح، وتحديدا بمدشر «أحمار» القريب جدا من المدرسة. كان العرس حفلا رائعا قل نظيره في مستوى سمعة أهل العريس ومكانتهم في قومهم. دامت أفراحه ثلاثة أيام :غناء ورقص وبارود. من طرائفه أن جدة أبي من أمه ، وهي عجوز تجاوزت حينها العقد الثامن، قدمت من مدشر بعيد، ولما أطلت على «غرس علي» ألحت على أن تستقبل بالزغاريد والبارود، وإلا فستولي الأدبار وتعود من حيث أتت. صباح الجمعة الموالي طلبت مني أمي أن أرافقها لزيارة قبر والديها ب»تلمات». في الطريق سألتني عن تفاصيل حياتي في غيابها فحكيت لها عن كل شيء، عن الجميل والسيئ، عن لحظات الفرح ولحظات الأسى والألم، عمن أحسن إلي ورعاني بحنانه، وعمن أساء معاملتي وألحق بي الأذى، عن خصوماتي ومعاركي، وعن أساتذتي ومساري الدراسي. أنا أحكي وهي تعلق حسب المعلومة والسياق:
– مسكين ولدي… – لعنة الله على…- الله يرحم فلان… الله يرضي عليك يابني…
لما أشبعت فضولها، سألتها:
– أريد أن أعلم علم اليقين إن كنتم تكنون لي الحب الذي تكنوه لأخوي؟
توقفت، ضمتني إلى جسدها وقالت في جزع:
– وأكثر يابني، يعلم الله كم أنا حزينة لفراقك… لكن كما تعلم لا سلطة لي ولا قوة.
وصلنا المقبرة عند الضحى، خلعت الخفين، وجلست بين قبرين تكسوهما حشائش يابسة، ثم راحت تدعو للدفينين بالرحمة والمغفرة، إلى أن لحق بنا أحد حفظة القرآن الذي جلس على الطرف الآخر من الرمسين وصار يتلو سورة الرحمن. ناولته أمي دراهم قبل أن تطوف بضريح «سيدي أحمد الحداد»، وقفلنا راجعين إلى المدشر. سألت أمي أن نزور أهلها ب»تلمات»، فأبدت تبرما أتبعته حديثا مسهبا عن طفولتها البئيسة وما أصابها من أذى من أخيها الأكبر.
– لن أغفر له غدا يوما القيامة… استولى على ما تركه والدي من متاع… الأرض والأنعام… وبساتين الزيتون… لم تكن القسمة منصفة… كنت وخالك «سيود» طفلين، فاقتسم الكبار الإرث، وكان «نصيبنا» الفتات، بضع شجيرات مقرورة وقطعة أرض نائية.
– أين هي بالضبط؟ سألت أمي.
– باعها والدك بمناسبة عقيقة منانة. وصرف ما تبقى على عشيقته.
– وهل كان للوالد عشيقة؟
– بل عشيقات.
وهي تقص علي سيرة الوالد مع خليلاته الكثر، لحق بنا « بوغداج» الذي سلم على الوالدة مسائلا إياها:
– من أين؟
– زرت قبر الوالدين للترحم عليهما.
– وفي ذلك أجر عظيم. متى جئتم من المدينة؟
– منذ أسبوع.
والسي المهدي ، ما أحواله؟
– بخير. وأنت ، كيف حالك؟
– الحمد لله
– ألم تتزوج بعد؟
– تزوجت، ولكن….
– بمن؟
– فطيطم…
«بغداج» رجل غريب عن «غرس علي»، حل بالقرية «عام البون»، عام «الجوع والنوع»، قادما من الريف، فأقام عند أسرة «شلود» بحومة الرياحين. وضعه لا يختلف عن وضع الأقنان، يمارس كل الأعمال الشاقة من حرث ودرس ورعي وبناء. يشتغل ليلا ونهارا بلا أجر ولا تعويض، يشتغل طي بطنه. يرتدي الأسمال ويمشي حافيا ولا يقتات إلا على الفضلات.ينام في ركن بحظيرة البهائم… يفترش حصيرة، ويتوسد الطوب، ويتلفع أسماله الوسخة النتنة. يعمل سقاء في الأسواق لاسيما في فصل الصيف، ويطوف على الحصادين طلبا لما تيسر من غلة. قصير القامة، متجعد الوجه ، نحيف، ذميم، لم أر في الخلق أذم منه وأبأس. تزوج من «فطيطم الحمقاء» ولم يرزق منها ذرية. يهاب جانبها وهي لا تتردد في تعنيفه إن تمرد.
رحلت فاطنة… وشد «المدينيون» الرحال إلى سوس القصي… وعدت مجددا إلى المدرسة. إنه المتوسط الأول، عتبة أخرى على مدارج السلم التعليمي تجاوزتها في يسر وبتفوق. كانت سنة عادية قضيتها بين «غرس علي» و»العريبيين»،»وأحمار»، حسب الفصول والأحوال، ولكن أيضا حسب الخاطر والمزاج. المدرسان هما المدرسان مع تحسن ملموس في معاملة سي المفضل الذي أضحى أقل قسوة. إبان السنة نفسها علمنا أن سي عامر تزوج من إحدى تلميذات الفصل الخامس التي انقطعت عن الدراسة، وأن سي المفضل خطب تلميذة أخرى من نفس الفصل وسيعقد عليها القران في الصيف القادم.
تحسنت قدراتي اللغوية في الفرنسية ناهيك عن العربية، وبدا الناس يعودون إلي لقراءة ما يتوصلون به من رسائل أو وثائق باللغتين، من قبيل إشعار بأداء ضريبة، أو استدعاء من المحكمة أو الدرك الملكي، أو أي مطبوع باللغة الفرنسية. لم أتوفق دوما في فك رموز تلك الوثائق، فأحمل ما استعصى علي منها للسي عامر وأعود بالخبر اليقين. استحسن أستاذي هذه الممارسة وأهداني قاموسا في اللغة الفرنسية من الحجم الصغير لأستعين به على شرح ما خفي علي معناه من الكلمات. ذات صباح ،دعاني سي عامر إلى بيته حيث وجدت فقيها ما رأته عيناي من قبل. شرح لي المدرس أن بيته الجديد تعرض لسرقة، وبما أنه يأبى أن يظلم أحدا، ارتأى أن يستعين بالفقيه للكشف عن الجاني. وطلب مني أن أكون رهن إشارة الفقيه. كانت المفاجأة قوية وصادمة، وظننت بالفقية سوء الظنون، غير أنه هدأ من روعي وشرح لي دوري، ثم وضع في راحتي اليمنى نقطة صمغ كبيرة، ورمى بالموقد بخورا، وصار يتمتم بألفاظ غامضة، محدقا في راحتي. بين الفينة والأخرى يأمرني بالنظر إلى كفي، ويسألني سؤال المتيقن:
– من هو؟
– لا أرى شيئا.
– انظر جيدا، لا تخف، ألا ترى شيئا؟
– لا أرى أي شيء.
يبدو على الفقيه شيء من الارتباك والقلق. يعيد نفس الطقوس ثم يسألني نفس الأسئلة، فأجيبه نفس الإجابات. لما يئس من تواطئي معه، طلب من المعلم إحضار تلميذ آخر لكوني طفل منحوس وترفض العفاريت التواصل معي. أوصاني سي عامر أن لا أفشي سرا. كتمت السر ولم اطلع أحدا على ما حدث.
قبل أن تغلق المدرسة أبوابها، ودعنا سي عامر وأخبرنا أنه سينتقل إلى مدينة الأصلية: تازة. حز في نفوسنا أن نفتقده، فهو لم يعلمنا القراءة والكتابة فحسب، وإنما أنشأنا على ما هو أجدى وأنفع. ربانا على النظافة والعناية بالهندام ولعب الكرة واستعمال القاموس، وغيرها من فنون العيش. فطوبى لك أيها العامر حبا وعلما وموعظة حسنة.
صار كل إلى عطلته، ونحو غاية في نفسه. لم تبق إلا سنة واحدة وأحصل على الشهادة الابتدائية. صار بعض الأقارب ينادونني بالسي عبد السلام. لقد أصبحت مشروع معلم أو دركي أو كاتب ضبط. لا أقل ولا أكثر. أما باقي الوظائف والمهن فلم يكن للناس بها علم، وكانت تبدو لمن سمع بها بعيدة المنال. سرت أجالس الفقهاء وأعارضهم في قضايا كانت بمثابة مسلمات، من بينها شكل الأرض وطبيعة الكواكب والنجوم، ومصدر الرياح وأسباب اختلاف الليل والنهار، ودورة الفصول الأربع، وغيرها من الظواهر الطبيعية. من المعتقدات السائدة بين الناس آنذاك، أن الأرض أديم منبسط يطفو فوق بحر لا قرار له ، ويرسو على قرن ثور هائل إن تحرك زلزلت الأرض؛ وأن الشمس تدور حول الأرض، و تجري نحو مستقر لها فتغرق في لجة البحر لتبزغ غدا شمس أخرى تلقى بعد الغروب نفس المصير؛ وأن القمر سراج منير تحرسه النجوم التي تزين قبة السماء وجعلها الإله رجوما للشياطين، وان الرياح والعواصف تعبير عن غضب الآلهة. في مقابل هذه التصورات كنت أحاول إقناع من يجالسني بما درسناه في مادة الجغرافيا: الأرض كوكب إهلليجي الشكل، يسبح في كون لا حدود له، ويدور حول نفسه فيتوالى الليل والنهار، وحول الشمس التي هي مركز المنظومة الشمسية، وفي ذلك سر تتالي الفصول وتحولات المناخ، وأن الأرض قارات خمس تفصل بينها محيطات وبحور تخضع لحركتي المد والجزر. يستمع السامعون في دهشة وارتياب، ويردد بعضهم مستنكرا:
– إنه الباطل بعينيه، ربنا ما سمعنا من قبل بهذا، واجعل لنا من أمرنا رشدا.
ويعلق سي العياشي في سخرية:
– هذا كلام النصارى والمشركين، فلا تنصتوا لهذه الأباطيل.
أقسم بالله أن هذا ما تعلمناه عن أساتذتنا بالمدرسة، وهم مسلمون يقيمون الصلاة ويومنون بالله. أحاول ما استطعت أن أشرح استنادا لمجسم الكرة الأرضية الذي اعتمده سي المفضل وسيلة للإيضاح. ينتهي الجدال إلى الباب المسدود . يعلق الخمسي: – راوي الكفر ليس بكافر.
أواخر غشت، اهتز المدشر لجريمة بشعة تمثلت في قتل أحد التجار المعروفين بالقبيلة جاء لزيارة زوجته الثانية القاطنة «بغرس علي». ما أن علم الناس بعثور الرعاة على جثة رجل بخندق على الطريق المؤدي إلى «لغواولة»، حتى هبوا إلى المكان، وعم الصياح والعويل ، وأقبل أهل القتيل يتوعدون القتلة بالثأر والثبور، واستنفر كل دوار شبابه ورجاله استعدادا لكل تطور وخيم للصراع. ولولا حضور فريق ثالث محايد فرق بين الجمعين لوقعت الواقعة. وما هي إلا لحظات حتى حضر شيخ القبيلة،ثم بعده الدرك الملكي. بعد المعاينة ، حمل القتيل في تابوت خشبي إلى غفساي قصد التشريح الطبي وتحديد أسباب الوفاة، بينما باشر الدركيون التحقيقات الأولية. خيم على المدشر رعب شديد وانطلقت الإشاعات والتخمينات، واتجهت أصابع الاتهام لمجموعة من الشباب ينتمون لعائلة ممتدة واحدة، بناء على قرائن وراءها قصة حب قدر لها أن تنتهي بمأساة حقيقية: مطلع السنة، مات « خالي المهدي»، العدو اللدود لبابا سيدي، وخلف ذرية كثيرة و أملاكا واسعة، وكانت أصغر بناته طفلة حسناء مدللة رزق بها من آخر زوجاته الأربع. قيد حياته تعهد أن يزوجها لابن عمها ، الطالب بكلية علوم الدين بتطوان. وطبقا للعرف والعادات، كان العهد بمثابة عقد النكاح، فتوطدت بين الطالب الأنيق وابنة عمه وشائج حب عذري سارت بحكيه الركبان، وأنشدت فيه «ارحيمو» ،شاعرة الدوار قصيدة تغنت بها الغوادي بين الحقول. وحدث ما لم يكن في الحسبان. تزوجت أم الخطيبة التاجر القتيل الذي سعى بدوره إلى تزويج أحد أبنائه من البنت الحسناء المدللة، غصبا عنها، وضدا للأعراف، ونكاية في ابن عمها، وتحديا للعائلة بأسرها.
لم يرض الطالب الأبي بكسر عرضه والتطاول على شرفه وشرف ابنة عمه المتيم بحبها، فأقسم أمام الملأ أن لا يتم للتاجر وزوجته ما يسعيان إليه. ومما عجل بالانتقام أن كبير العائلة وعالمها الجليل جمع حوله شباب العائلة وخاطبهم:
– والله، لن أحسبنكم بعد اليوم رجالا، إن تم هذا الزواج …
هذا ما كشف عنه التحقيق وتضمنه محضر الدرك الذي حصر لائحة الاتهام في الطالب واثنين من بني عمومته. حكم على الأضناء ب12 سنة سجنا، وحكمت الأقدار على الطفلة الحسناء بلعنة العنوسة ، وعلى زملاء الطالب/ السجين من أبناء المدشر بالانقطاع عن الدراسة. لم يأسف أهل الَأضناء لما وقع، وإنما عبروا عن اعتزازهم بشهامة الفاعلين وعزة نفوسهم.
كتبت بالمناسبة أول رسالة لأسرتي لأخبرهم بالفاجعة وما أنزله الدركيون من تنكيل بالمتهمين، وكيف حشروا في البداية أكثر من عشرين نفرا في قبو لا يتسع لنصفهم، قبل أن ينتقوا ، بناء على تصريحات واعترافات، خمسة أشخاص اقتادوهم مكبلين إلى القيادة الجهوية للدرك. وعاد الدركيون صبيحة الغد، فاقتادوا الفقيه كبير العائلة وزوجته أم الطالب المتهم، إلى مخفر الدرك، بعدما نكلوا بهم تنكيلا أمام الأبناء والأحفاد. وأخبرت الوالدة أن بين الضالعين في الجريمة زوج أختها، وابن خالها، وثالث يتحدث الناس عن براءته. في نفس الرسالة، رجوت أبي أن يبعث لي بمحفظة جديدة وبقدر من المال لأشتري ملابس وحذاء استعدادا للدخول المدرسي.
لم يبعث لي أبي مالا، واختار أن يبعث لي مع جندي قدم في إجازة، محفظة جلدية في حجم محفظات الدركيين، وبملابس عصرية ميزتني عن الأتراب والأقران، من ضمنها قميص صوفي ، لونه أزرق غامق، وخطوط أفقية وردية، من صنع أختي منانة، أرفقها برسالة تفيض أسفا عما عرفه المدشر من حوادث مؤلمة، ويطلب فيها أن نزوده بمزيد من المعطيات، وأن نبلغ مواساته لكل المتضررين.
« هذه سنة مهمة، وعليكم أن تجتهدوا أكثر، وان تبذلوا جهودا مضاعفة من الآن لكي تنالوا الشهادة إن شاء الله وتلتحقوا ب»قرية با امحد» لاستكمال دراستكم إسوة بمن سبقوكم، فمن جد وجد، ومن زرع حصد…» بهذه العبارات المحفزة خاطبنا معلم العربية الجديد الشريف مولاي أحمد، بلكنة طنجاوية بينة في حضرة أستاذ الفرنسية الجديد مسيو «عدني» الصنهاجي، والذي أكد ما عبر عنه زميلة بلغة فرنسية محكمة وبنبرة حازمة. على عكس السنة الماضية، كان أستاذ اللغة العربية لينا، متسامحا، دعوبا، بينما كان أستاذ الفرنسية عصبيا، قلقا، عنيفا إلى درجة العدوانية. عملت بتوجيهات معلمي فقلصت من أوقات اللعب وعكفت على الحفظ والمطالعة آملا في نتيجة طيبة تفتح أمامي أفقا أرحب. كان التنافس بين نجباء القسم قويا ، خضت غماره بعزيمة وإصرار،لدرجة أنني حفظت عن ظهر قلب نصوصا كاملة من «إقرأ» و Bien lire et comprendre، وأنجزت كل التمارين الملحقة بها، وحصلت على أعلى الدرجات في الدورة الأولى والثانية . توالت الفصول على غرار سابقاتها إلى أن حل الربيع الطلق المزهو بأقحوانه وخرير مياهه وترانيم أياكيه. حدث يوما من أيام أبريل، بعد أن ولجنا حجرة الدرس إثر استراحة الحصة المسائية، أن صرخ «سي عدني» في وجوهنا والشر يتطاير من عينية الضيقتين:
– Conards ! C’est tout ce que je mérite de votre part. Vous n’avez pas honte d’écrire ceci sur le tableau. Dites moi qui a osé de le faire. Vous devez savoir que personne ne quittera la classe avant que je découvre l’imbécile qui me considère pédé. Allez prenez une feuille et écrivez.
أصاب الذهول الفصل كله وساد الترقب. سي عدني يملي جملا بعربية ركيكة ونحن نكتب ما يملي، ثم يمر بين الصفوف ليقارن بين خط كل منا والخط الذي كتبت به تلك العبارة اللعينة على السبورة. بعد مقارنة وتمحيص وتدقيق، يسرح من تأكد من براءته، ثم يعيد التمرين إلى أن تقلص عدد المتهمين إلى خمسة. تملكني الخوف من أن أكون كبش الفداء، وتخيلت استفراد «عدن» بي، واستحضرت قسوته وعدوانيته التي طالما فجرها في أجساد طرية لأسباب تافهة مقارنة مع النازلة. فكرت ثم فكرت… فقفزت كالسهم من النافذة وأطلقت ساقي للريح، تاركا الجمل وما حمل. وما زادني الخوف إلا فرارا في اتجاه «غرس علي».
لم أخبر جدي بالواقعة وكتمت الأمر عن الجميع، فصرت أرافق الرعاة صباحا إلى الفيافي، وأعود عند العشي إلى البيت. فكرت أن أتنقل في ما تبقى من أيام بين «غرس علي» و»أحمار» و»العريبيين». إن سئلت عن المحفظة ومحتوياتها أجيب أني تركتها هناك أو هنالك. والحقيقة أني وجدت نفسي في ورطة حقيقية بين الرغبة في الحصول على شهادة كانت حينها جوازا نحو مستقبل واعد والخوف من العقاب ألذي لن يكون إلا شديدا. سئمت التسكع في البراري وقررت أن انهي المغامرة، فكان ألعذر أقبح من الزلة. تدبرت قرطاسا وأقلاما ملونة وأعددت بيانا للنقط مرفقا بملاحظات المدرسين كتبتها بالفرنسية والعربية بخط جميل. قدمت «الوثيقة» لجدي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وشرحت له أن الدراسة انتهت، وأني نجحت، وان المعلم رقي إلى مدير، وأن المدير رقي إلى مفتش. أحسست أن الشك في الحكاية كلها ساور جدي، الذي حمل الوثيقة إلى الفقيه لعله يقدم له إيضاحات إضافية بشأنها.
صباح الغد ، ركب البغل الأصهب وغادر المدشر دون أن يفصح لأحد عن مقصده. عاد بعد الظهر والغضب باد على محياه. وبخني أيما توبيخ، دون أن يضربني. سلمني المحفظة. صاحبني غدا إلى المدرسة والتمس لي العذر لدى «سي عدني» الذي تقبل هدية بابا سيدي وعفا عني، وما كنت أبدا مخطئا، « وما ربك بظلام للعبيد».
أوشك يوم الامتحان، يوم يعز فيه المرء أو يهان. اخبرنا المعلم أننا سنجتاز امتحان الشهادة الابتدائية بمركزية غفساي البعيدة بما يناهز 17 كيلومتر، وأن الرحلة ستكون جماعية وبتأطير من المدرسين، وأن مصورا سيأتي يوم السوق المقبل ليأخذ لكل منا صورة فردية تلصق ببطاقة التلميذ، وأن البطاقة إلزامية ولن يسمح لأحد ولوج قاعة الامتحان دونها. لذلك علينا أن نحضر يوم الثلاثاء في أجمل حلة، وأن ثمن الصورة حدد في درهم ونصف.
كانت الرحلة إلى «غفساي» جماعية، يتقدمها «مسيو عدني» و»مولاي أحمد». انطلق الموكب التلاميذي على الرابعة صباحا. بعض التلاميذ رافقهم أولياؤهم، وقد رافقني زوج «نانا» على صهوة فرس جميلة. طوال الرحلة، قدم لنا أساتذتنا ما يكفي من توجيهات تتصل بالامتحان، وأوصونا بالتأني والتفكير جيدا في كل سؤال قبل الإجابة، وتمنوا لنا التوفيق. «عدني « نفسه تعاطف معنا، وأثنى على عملنا، ولمح إلى أن قسوته علينا لم تكن سوى بدافع الغيرة وحبه لنا. بمركزية غفساي استقبلنا المدير سي السبتي، صحبة مفتشين ومعلمين مكلفين بالحراسة. كان الحجيج عرمرما، قدم من كل الفرعيات: من «الرتبة» و»المكمل» و»بابت البير» و»عين باردة».
وزعنا على حجرات حسب الأرقام الترتيبية، وخصص لكل ممتحن مقعدا مستقلا. كان رقم امتحاني 1013، الحجرة 9. كانت الحراسة حازمة، وتضمن الامتحان ثلاث اختبارات. « إلياس في مجلس القضاء» كان عنوان القطعة التي طلب منا شكل بعض مقاطعها والإجابة عن أسئلة تتعلق بالفهم وشرح المفردات والإعراب والصرف فكتابة إنشاء، بينما كانت قطعة « القط والمرآة»(Le chat et le miroir » النص المرجعي لاختبار اللغة الفرنسية الذي تضمن نفس كفايات اللغة العربية. وكان اختبار الحساب والهندسة عبارة عن تمارين تتضمن العمليات الأربع وقياس الزمن وحساب مساحة المستطيل. من مسرات ذلك اليوم أننا استمتعنا بوجبة لذيذة : «كميرة» محشوة بسردين مصبر وقارورة بيبسي الغازية. مضت أيام وأعلنت النتائج، فكنت من بين الثلاثة الذين اجتازوا الامتحان بنجاح بمدرسة «أولاد صالح» من بين ثمانين مرشح. أن تحصل على الشهادة الابتدائية في ذاك الزمن حدث عظيم وبشر خير أكيد. حدث يحتفى به، ويشهر فوق الأعلام. أقام بابا سيدي حفلا بالمناسبة دعيت له «نانا» وفاطنة والفقيه الغروضي وكل الأقارب والجيران، امتزج فيه الغناء والطرب بتلاوة القرآن والأمداح النبوية.
هكذا انقضت السنوات الخمس بمرها وحلوها، بمسراته وأحزانها، بصداقاته وخصوماتها. ودعت أساتذتي وخلاني ،ودعت الطريق والرفيق، والشمس والقمر، والسقيفة والبئر والبيدر. ودعت الجدة والجد، و»نانا»، وغابة الرياحين، غادرت كل شيء ورحلت… إلى حيث لا أدري…
ونحن نحتسي قهوة العشي بسقيفة الدار الكبيرة، جاءنا مرسول من مدشر « النقلة» حاملا رسالة من الوالد. قرأت الرسالة ، وهذا مضمونها:
سلام تام بوجود مولانا الإمام
وبعد،
يسلم عليكم ابنكم المهدي بن عمر وزوجته رقية وأبنائه منانة وعبد النبي والعلمي ونعيمة وثورية. وأبلغ سلامي الحار إلي أمي فضيلة وعمي الخمار وفاطنة وعبد السلام وإلى أبناء عمومتنا أحمد الرجواني وحمو الرجواني ومحمد سلام وخالي المشابط وكل من يسأل عنا. إننا بخير وعافية ولا يخصنا إلا النظر في وجهكم العزيز واللقاء بكم في ساعة الخير إن شاء الله. وأخبركم أن عبد النبي نجح وكذلك العلمي، وأن منانة خطبت. وأطلب من أمي أن تشملني برضاها. إذا نجح عبد السلام وتوصلتم بهذه الرسالة فالمرجو أن ترسلوا عبد السلام مع حاملها. وفي الأخير أخبروني عن قضية زوج فطوم أخت رقية، وفي أي سجن هو الآن. والسلام عليكم ورحمة الله».
أقرأ الرسالة ومن حولي ينصتون باهتمام وترقب. تنهد بابا سيدي والدمع يترقرق في مقلتيه فنطق:
– آخر العنقود يودعني… سأشتاق إليك يا بني، فلا تنساني… لولا الدراسة لما فارقتك.
وخاطبته الجدة في انفعال:
– «المكسي بمتاع الناس عريان».
قبل الفجر غادرت صحبة المرسول الدار الكبيرة التي ولدت بها عام نفي محمد الخامس. غادرتها على أمل العودة الوشيكة. فكم مرة غادرتك أيتها الدار فعدت. إلى غفساي، وتافوغالت، والرباط، فوزان، وها أنا أرحل بعيدا إلى أرض تجاور المحيط وتطل على الصحراء. وداعا، وإليك حتما سأعود.
رحلة طويلة ومتعبة، لكنها لم تكن مملة. دامت يوما كاملا ، وكانت على مراحل. ب»الكراج» امتطيت رفقة أسرة «العياشي النقلي» حافلة عتيقة كتب على جانبها ألأيمن:» الخطوط الشمالية الجنوبية، نقل الغزاوي». لونها أحمر مخطط بالأخضر، مقدمتها بارزة، يسوقها رجل ضخم، قصير القامة، عظيم البطن، تتصبب جبهته عرقا، يناديه الناس ب «بنعيسى». ويساعده رجل آخر، قوي البنية، أسمر، هو الآمر والناهي، يستقبل الركاب ويوزعهم على المقاعد الممزقة وغير المرقمة، ويحشر من لا مقعد له في الممر واقفا، أو مقتعدا قطعة خشبية أو برميلا، أعدا لذلك. يحصل واجبات السفر دون أن يسلم للمسافرين تذاكر… سارت الحافلة، وهي تئن من ثقل حمولتها على مهل، في يوم بدت حرارته مفرطة منذ الصباح. تدحرجت حتى «واد أولاي»، واتجهت تشق التلال ثم السهول في اتجاه «فاس». دخان… وعرق… وصراخ… وغثيان … وثغاء خراف … وتوقف مستمر عند كل مدشر، وكلما لاح في الأفق أدمي يلوح بيديه جنوبا.
مررنا ب»غدير الزرقاء» وتذكار الجندي المجهول ف»ورتزاغ «، وتذكرت رحلة العودة من وزان.ثم قنطرة سبو حيث استفاد الركاب من فترة استراحة انتهزوها فرصة لإطفاء الظمأ وتناول سمك «الشابل» اللذيذ. عرجت الحافلة على ا»لشقوبيين»، فقرية «بامحمد»، إلى أن وصلت «جبل زلاغ» المطل على فاس. بدت لي المدينة مترامية الأطراف، أكبر بكثير من وزان، تلوح وسطها قباب خضراء ومآذن شماء. بباب «أبي عجيسة» رست الحافلة وأفرغت حمولتها الزائدة عن اللزوم، وهنأ المسافرون بعضهم بعضا على سلامة الجميع. لم ندخل فاس التي ودعناها للتو على متن حافلة أخرى من نفس الصنف وتحمل نفس العلامات، لكنها أحسن تنظيما وأقل اكتظاظا وأكثر سرعة. جلست إلى جوار نافذة فتحتها قليلا، لأتفرج على الخارج. كانت الرحلة نزهة حقيقية، اكتشفت عبرها أن البلد أرحب مما كنت أتصور، وأن أرض الله واسعة فعلا، وربما أن الدنيا لا نهاية لها.على جانب الطريق علامات تذكر المسافر بالمدن والمسافات، حرصت على قراءتها تمضية للوقت واستجابة لفضول غمرني واستبد بي: مكناس، الخميسات، الرباط، الدار البيضاء. كلما دخلنا مدينة، عدلت من جلستي، واستنفرت حواسي للإحاطة ما أمكن بما أشاهده وأراه. شوارع فسيحة، وسيارات، وشاحنات، ودراجات نارية، ومقاهي، ودكاكين، وزحام، وتدافع. حركة دائبة في هرج ومرج. سالت «الأقرع» الجالس إلى جانبي عن المدينة المقبلة، فأخبرني أننا على وشك الوصول للدار البيضاء. كنا قد اجتزنا قنطرة حديدية على واد عميق تحفه غابة ظليلة، حين بدا المحيط بأمواجه المتكسرة على شاطئ موحش، امتدادا أزرقا لا حد له. الطريق مستقيم وسرعة الحافلة زادت. وما هي إلا هنيهات، حتى بدت مداخن مصانع البيضاء تنفث دخانها في سماء الصيف الصافية… انحرفت الحافلة يمينا ،فابتلعتها شوارع أوسع مما رأيته بفاس ومكناس، يؤثثها أسطول رهيب من الشاحنات والحافلات والسيارات وغيرها من الآليات، التي تسير بسرعة جنونية . همست لصاحبي:
– يوجد بهذه المدينة اثنان من أبناء عمي حمو، محمد وعبد الله. هما خياطان بسيدي معروف. ليتني ألقاهما.
تبسم دون أن يكلف نفسه عناء الإجابة.
لما دخلت الحافلة محطة «بنجدية»، كان الليل قد أطبق بظلاله على الساحة التي سادها لغط عظيم (مراكش، مراكش، أكادير أكادير، أكادير تزنيت… بني ملال….)، وصدحت في أجوائها منبهات حافلات حاولت عدها، واقبل علينا وسطاء يعرضون علينا خدماتهم. ركبنا بتوجيه من الرقيب العياشي حافلة زرقاء، مخططة بالأبيض، كتب على مقدمتها: «نقل آيت مزال». غادرنا البيضاء ليلا. الرؤية مستحيلة، والتعب تمكن من كل حواسي. تكومت في جلبابي الأزرق وغطت في نوم عميق . ب»سبت جزولة»، أفقت على نداء السائق :
– نصف ساعة ونعود.
دكاكين واطئة، ومقاهي ضيقة ووسخة، وعربات مجرورة، وأطفال مشردون، وحمقى تتدلى شعورهم الوسخة على أكتافهم الضامرة، وشحاذون يعترضون الركاب… أضواء شاحبة وأرصفة متربة … وبائعو الديطاي (السجائر بالتقسيط)، وشاحنات قادمة من الجنوب محملة بالخضر والسمك. حجزنا ركنا بمطعم شعبي، وتناولنا سمكا مقليا، وصحنا مشتركا من اللوبيا البيضاء، وشايا منعنعا. وقضى بعضنا حاجته وراء سور هناك يطل على مطرح للأزبال. ثم عدت لمقعدي وأحلامي التي لم تنل منها منعرجات «اسميمو» و»طابوقة» ( وهي أسماء قرى وأماكن اكتشفتها وتعرفت أسماءها لاحقا).
« كلمين، تزنيت، تارودانت، بلاصا، بلاصا، يات، سين ، منشك…»( تعني بلأمازيغية واحدة، اثنتان، كم…)، كان يصيح الوسيط لما أفاقني الرقيب منبها إياي أننا وصلنا. من محطة « القامرة» بإنزكان، سرت و»الأقرع»راجلين حتى منزل ب»تكمي أوفلا»، أحد دوارير الدشيرة الذي سبقنا إليه الرقيب العياشي وزوجته وابنتهما شهرزاد على متن دراجة نارية. منزل سفلي من غرفتين ومطبخ ودورة مياه، بزقاق ضيق لا يتسع لمرور شخصين، إلى جوار بيوت قديمة وبعض أطلال لم يمهلني الرقيب لاستطلاعها. ما أن وطئت قدماي المكان حتى أركبني الرجل دراجته النارية واتجه بي لمحطة المسافرين الصغيرة الواقعة بساحة «أسايس» بإنزكان. ناولني تذكرة سفر وأوصى السائق بألا أغادر الحافلة حتى تزنيت. لم أكن قد تناولت الفطور، فاشتريت بدريهمات منحني إياها بابا سيدي عند الوداع، عنقود عنب وعلبة بيسكوي من نوع «هنريس»، ولزمت مقعدي بحافلة ما زلت أذكر أنها ل عبد العزيز الماسي. غدت الحافلة تطوي سهل سوس طيا. عبرت واد سوس عند قرية «آيت ملول» ، كان الوادي جنة غناء ، ماء وخضرة وبجع وصيادون، وأبقار ترعى على الضفاف. وتوقفت ب»ماسة» النائمة في خمائلها على واد تخاله الكوثر يجري بين حقول الذرة والبرسيم وأشجار من كل صنف. تطوف بأرجائها نساء تدثرن بملاحف سوداء وتزين بأقراط الفضة وأحجار اللبان، لا تكشفن من أجسادهن سوى عينا واحدة. لاحت تزنيت في الأفق فخفق القلب للقاء. ولجت الحافلة الباب الشرقي للمدينة المسورة، واتجهت إلى ساحة «المشوار»: المحطة الأخيرة من الرحلة. كنت قد التهمت عنقود العنب وعلبة البيسكوي. دلني السائق على الطريق المؤدي إلى الباب الرئيسي للثكنة العسكرية، سرت بخطى سريعة حتى باب الدائرة ثم انعطفت يمينا بمحاذاة السور إلى أن وصلت باب الثكنة، تعلوها لوحة كتب عليها :» ثكنة الشهيد الحسين بن أحمد». سرت بممر حتى أوقفني جندي يحرس المدخل ممتشقا بندقية. حارس ذو بشرة سوداء، وقفا مكتنزة، وشفاه غليظة، حمدت الله أني لقيته نهارا. سألني :
– ما شأنك؟
– أنا ابن سي المهدي، جئت…
– من البلد؟.
– نعم، أيها العم.
أشار علي بالجلوس إلى كرسي، وأمر أحد الجنود بالمناداة على والدي، فيما راح يسألني عن اسمي، وسني، ومستواي الدراسي، وعن أحوال البلد، وظروف السفر. اكتفيت بإجابات مقتضبة، وأنا أتطلع لوجه الوالد الذي أقبل عدوا، فضمني لصدره، وصار يقبلني بلهفة ما ألفتها منه في وزان. أمسك بيدي إلى أن دلفنا بابا فتح على فناء واسع يضم دورا متراصة على اليمين وأحواضا من النعناع والبقدنوس والحبق والأنسون إلى اليسار. بالفناء الواسع، هبت الوالدة والإخوة والأخوات لاحتضاني في حضور جارات تتحدثن لكنة صحراوية وترتدين زي الجنوب المغربي. انتابتني نوبة بكاء عميق، لم أدر هل أسفا على فراق «البدويين»، آم فرحا بلقاء «المدينيين». كفكفت أمي دمعي، ونادت أختي منانة بأن تسخن الماء وتساعدني على الاغتسال، وطلبت من والدي أن يذهب فورا ليأتيني بملابس جديدة أستبدل بها الجلباب المتسخ والحذاء المطاطي المتآكل. بعد الغذاء، صرت مدينيا، لا قلبا وإنما قالبا، فحق لي أن أصحب الأسرة لسوق عام ب»باب أكلو». كان سوقا سنويا تحج إليه ساكنة أحواز تزنيت قاطبة، من الساحل وأكلو وميرلفت وآيت باعمران ولخصاص ومجاط وآيت جرار والعادر، ومن كل جهات السوس. يأتون للتبضع والترويح عن النفس. خارج باب أكلو، تنصب الخيام، وتعرض كل السلع، وتقدم رقصات أحواش، ويتغنى كبار «الروايس» بروائع الطرب السوسي الأصيل. سوق يأتيه التجار من تندوف ومالي وموريطانيا والسينغال ، محملين بالبخور والتوابل واللبان الحر والأزياء الصحراوية. استهوتني لعبة «الطيارة» و»جدار الموت»، وأثارتني «تشلحيت»، فشعرت بغربة لغوية مستفزة، وقلت لنفسي: – ما السبيل للتواصل غدا مع أهل المدينة؟.
تزنيت ذاك الزمان مدينة شبه مغلقة، يحيط بها سور تتخلله أبواب فوقها أبراج، يخترقها واد غير ذي ماء، وتروي حدائقها ساقية تجري في جموح، تنبع مياهها من «آيت جرار». حدائق «دوتركا» (جوار الساقية) نعيم يرتاح له المتنزهون ويسر به الناظرون. على جنبات المشوار دكاكين يباع فيه كل شيء، أشهرها قيسارية الفضة التي تعرض فيا أجمل الحلي وأنفس المجوهرات. خارج السور، قريبا من الباب الشرقي المحاذي لزاوية ماء العينين يوجد ملعب لكرة القدم، ملعب مترب غير مسيج وليست له منصة. وفي الجانب الآخر للوادي يوجد مسبح، ثم الثكنة، ومن ورائها مضمار التداريب العسكرية. يمكنك أن تأتي تزنيت أو تودعها من جهات أربع: خروجا من باب أكلو في اتجاه إفني وما دونه من قرى وقبائل، أو عبر باب الخميس ، إما نحو تافراوت وويجان شرقا، أو في اتجاه بوزكارن مرورا بالخصاص جنوبا، وإما شمالا إلى أكادير . هكذا اكتشفت خريطة المدينة الصغيرة رفقة زمرة من أبناء العسكر القاطنين داخل الثكنة. نتذرع بلعب الكرة خارج «القاشلة»، فأقود أصحابي إلى جولات تنتهي بنا بعيدا عن المدينة في كل الاتجاهات، نجمع النبق، ونسبح في الساقية، ونجني حبات الصبار والتين من بقايا بساتين أفناها الجفاف، ونشرب من آبار منسية. نقصد أحيانا «دو توركا» حيث نقطف»أبلوح» (رطب لم ينضج) من نخيلات الواحة، ونمد أيدينا إلى أشجار الرمان، فيطردنا الحارس خارج البستان. نخصص يوم الأحد لمشاهدة مباراة في كرة القدم، خاصة عند استقبال «فريق الأمل» فرقا منافسة على ملعبه. يمتعنا «التوادي» بلمساته الفنية، و»تيك» بتسرباته الجانبية، و»المعلم» بقذفاته الصاروخية، والحارس بارتماءاته الانتحارية. نصفق لكل تمريرة ولكل مراوغة أو ارتماءة، ونشاغب ما استطعنا عندما تنتهي المباراة في أجواء غير رياضية. يوم الجمعة، كنا نتوجه إلى ضريح سيدي المختار على جانب الطريق المؤدي لبوزكارن حيث يقام معروف مرة في الأسبوع. لم يكن غرضنا قصاع الكسكس فقط ،بل كنا نسعى للقاء «حليبيزة»، ذلك الأحمق الأعرج الذي لا يتوانى في الجري خلفنا ورمينا بالحجارة كلما ناديناه. يسكن الضريح، ولا يبتعد عنه إلا لماما، ويعيش على صدقات الزوار. يحكى أنه ينتمي لأسرة غنية بدوار ليس ببعيد، وأنه فقد رشده بعد أن «ضربه» جني نصراني ينطقه أحيانا ألفاظا لاتينية. غالبا ما نجول ونركض بعد الزوال، ونخصص الصباحات للعب الكرة أو البلي بساحة مجاورة لمنزلنا، نتصايح، نتسلق أشجار التوت ، نتشاجر، ثم نعود لمباراة لا تنتهي إلا بقرب عودة الآباء من العمل. حينما نبصر القبطان م ،رئيس السرية يركب سيارة «فولسفاكن’ الصغيرة ، نتوقف عن اللعب وعن الصياح، ونفسح له الطريق ليغادر في اتجاه قيادة الحامية مزهوا بذاته وبنياشين تزين بذلته العسكرية الأنيقة. لم يكن الضابط الشاب متزوجا ، مما جعله عروس أحلام «يطو» و»ربيعة»، ابنتا الرقيب الممتاز ع .ق الذي عينه القبطان حارسا عاما للثكنة، يشرف على توزيع المهام على الشعب كل صباح، ويسهر على نظافة الحامية وأمنها ونظام الحياة بها، ويقترح المرشحين للترقية وفق معايير غير نزيهة حسب الوالد الذي لم يرق منذ انخراطه في الجيش الملكي قادما من جيش التحرير، ويحرص أن يكون دوما في خدمة رئيس متكاسل، مدمن ، لا يلتحق بمقر العمل إلا متأخرا ويفضل أحيانا توقيع المراسلات بحديقة الفيلا التي يقطنها. شكلنا فريقا لكرة القدم: ولد عسو، ولد القصرية، يوسف، علي، الأخوان زعزوع والأخوان رجواني، وتجرأنا للعب مع فرق خارج الثكنة. لم أكن لاعبا ماهرا مثل «ولد عسو» أو «زعزوع»، لكني كنت صلبا، سريعا، قوي القذفات، ولا أهاب العراك. كلما حدث شنآن أسرع لالتقاط حجارة أرمي بها الخصوم فيولون الأدبار. ننظم أحيانا غارات سريعة على الملاح فنصلي أبناء اليهود نار الذل مجانا، نسرقهم قلنسواتهم ونمرغها في التراب، ونبصق في وجوههم، ونضرب من استفردنا به، ثم نعود في زهو الفاتحين.
عاد التلاميذ إلى مدارسهم. وما عدت. رفضت إدارة الإعدادية تسجيلي في غياب شهادة مدرسية. بعث الوالد برسالة إلى بابا سيدي يطلب منه أن يرسل له الشهادة في اقرب وقت؛ لم تصل، ولم ألتحق إلا نهاية نونبر بإعدادية مولاي رشيد. طيلة شهرين، بقيت عاطلا عن الدراسة، أرافق الوالدة للمارشي، وأحمل طبلة العجين للفرن، وأقصد كلما دعت الضرورة دكان «بوصلاب» القريب من الحامية لشراء ما تحتاجه أمي لإعداد الطعام أو لغسل الملابس وتنظيف البيت، وأساعد أمي في رعاية أختي تورية. أتلهي، في انتظار عودة أطفال الحي، ومن ضمنهم أخي عبد النبي، من مدارسهم. في المساء أشارك أخي كراساته وواجباته المنزلية. كان عبد النبي تلميذا نجيبا وطفلا مثاليا، يتبوأ المراتب العليا بين أقرانه، وكان ذو حس مرهف، أبي النفس ، ذا كبرياء، غير راض إلى حد ما بالوضع الاجتماعي للأسرة وللرتبة العسكرية للوالد التي تجمدت في درجة عريف أول منذ الاستقلال. حينما تعلن ترقيات الجنود وضباط الصف، ينتابه حزن عميق إلى حد البكاء، وحينما نرقب الحارس العام يعد سيارته من أجل نزهة أسرية إلى شاطئ « أكلو» يوم الأحد، تتصاعد زفراته وتدمع عيناه. انفجر مرة في وجه أبي:
– لم ترقى الناس، وأنت لم تفرحنا يوما؟… لم تحسنت أحوال من هم أقل منك أقدمية ؟ ، وأحوالنا هي هي ….لم يا أبي؟
– الرزق على الله. والله لن أتنازل عن عزتي وكرامتي… لا يترقى في هذه السرية إلا المتملقون… ماذا تريدون… أن تكون أمكم شغالة لدى «الزوفري» لأترقى… أتريدون أن أرشي ذاك العربيد… الراشي والمرتشي في النار…
حجج تعتبرها الوالدة مجرد مبررات واهية، وتقدم في ذلك تفسيرها الخاص:
– إنه عنيد …وسيء المزاج … وسليط اللسان… ويتهرب من المهام الشاقة…
والحقيقة أن مشكلة أبي مع الترقية لم تكن مشكل محسوبية ورشوة فحسب، أو مشكلة مزاج ولسان فقط، وإنما كما وضح لي أبي بعد تقاعده، أنه صنف ضمن الجنود المحسوبين على جيش التحرير ويتعاطفون مع الاتحاد الوطني.
آه. تنفست الصعداء ، والتحقت بقسم الملاحظة بإعدادية مولاي رشيد. واجهتني صعوبات جمة لاستدراك ما ضاع علي من دروس رغم ما بذله معي بعض الأساتذة من جهود. استنسخت ما وجب استنساخه، وحفظت ما لزم حفظه، لكني لم أقدر على استيعاب مواد أساسية وخاصة الفيزياء والرياضيات وبعض دروس النحو البنيوي للغة الفرنسية. أحسست بالغبن وظلم القدر، ناهيك عن شعور بالغربة داخل مؤسسة لا أعرف من تلامذتها أحدا، وينطق أغلبهم «تشلحيت». لا أنكر أن جلهم كانوا ظرفاء، مهذبين ومسالمين، لكنهم لم يبدوا أي استعداد للتواصل مع «أعراب إيجان»، ينظرون إلي نظرة توجس واستغراب، ولا يكلمونني إلا نادرا وعند الضرورة . بذلت ما بوسعي من جهد للتكيف مع الوسط التعليمي الجديد، ولاختراق جدار العزلة، وأساسا لتدارك التأخر في التحصيل الدراسي. اجتزنا امتحانات الدورة الأولى فحصلت على نتائج متوسطة جدا، ولولا تفوقي في المواد الأدبية لكانت الكارثة. رغم ضعف النتائج، أثنى علي بعض أساتذتي ، ومن ضمنهم «مسيو مياسو» أستاذ الرياضيات، وكانت ملاحظتهم إيجابية ومتفهمة . والدي وحده لم يشفق لحالي. لم يضربني، لكنه توعدني بالويل والثبور إن لم يتحسن أدائي في الدورة الثانية، بينما أثنى على أخي الذي تقدم أترابه. قارن الوالد بين النتائج دون أن يتساءل عن الظروف والحيثيات. قلت في نفسي: – «يصبح ويفتح».
لم يصبح الصباح حتى جاءنا الوالد بنبإ الاستجابة لطلبه بالانتقال لأكادير. إبان عطلة رأس السنة، حملنا رحيلنا صوب الحامية العسكرية ل»بنسركاو» بضواحي عاصمة السوس، حيث استفاد الوالد من سكن وظيفي، وأسندت له مهمة الإرشاد الديني داخل الجيش. حمد الله وشكره أن تحققت أمنيته الأولى: الصلاة بالناس والانصراف لعبادة الرحمن. ويعلم الله أمنيته الثانية. تحرر من الزي العسكري ومن شارة العريف الأول، وارتدى جلبابه الجبلي الخفيف. تابع أخواي دراستهما بمدرسة السعديين ب «الدشيرة»، والتحقت أنا بمدرسة الموحدين ب»إنزكان»، التي أحدثت بها نواة أول إعدادية بالمدينة .
الطريق إلى السعديين طويلة وموحشة ، اضطرتني إلى امتطاء دراجة أخي الصغيرة لاختصار المسافة الفاصلة بين الحامية العسكرية وانزكان على مشارف تلال رملية تكسوها أشجار الأوكالبتوس العالية. استأنفت رحلة البحث عن الذات وكسر طوق العزلة الاجتماعية. لم تكن الرحلة يسيرة لطفل جبلي وسط مجتمع مدرسي تشكلت تضاريسه وتوطدت علاقات أفراده الذين التأموا في جماعات متراصة يحكمها الانتماء الجغرافي والاثني: أولاد إنزكان، أولاد الدشيرة، أولاد طراست وأولا بنسركاو، وبين هِؤلاء وأولئك قليل من الأفاقين والغرباء القادمين من فجاج بعيدة. ألحقت بقسم الملاحظة رقم 3 وسط خليط من التلاميذ الذكور المنتمين لمختلف التجمعات السكنية لأنزكان وضواحيها، فاستفردت بالمقعد الخلفي لحجرة الدرس بالطابق الأول للمؤسسة… استطلع وجوه أساتذتي الجدد الذين حرص كل منهم على مساءلتي عن اسمي ومهنة الوالد وموطني الأصلي ومساري الدراسي، وعلى فحص دفاتري ومقارنة مضامينها مع ما أنجزوه في الدورة الأولى. كانت ملاحظاتهم عادية وطفيفة ،ما عدا أستاذ الرياضيات الذي نبهني أن ما درسته في الدورة الأولى من المفروض أن يدرس في الدورة الثانية، وعكس ذلك صحيح. أحسست حينها أن حظي العاثر يتربص بي في كل مكان وحين. لم أتدبر أمري سوى بالصمت والترقب وتعليق الحل إلى أن يشاء الله. لم يكن لي أصدقاء من بين تلامذة القسم يمكنهم مساعدتي على تدارك ما فاتني في مادة علمية لا يسعف الحفظ وحده على استيعابها، وما كان لي قريب أو جار يقدم لي دعما لتجاوز تعثري… ولم أجرؤ عل الحديث إلى والدي بالموضوع لأنه لا حل له سوى التوبيخ والعقاب… ما زالت صورة كلب وزان ماثلة للعين. دفنت معاناتي بين جوانحي واختفيت في لجة مدرسة مكتظة أبحث عن بوادر صداقة هاربة. كلما بدا لي فتى يرتدي غير «الفوقية» التقليدية لأبناء سوس، ويتكلم غير تشلحيت، خلته من «الشمال» ،وحسبته صديقا محتملا. لم أتوفق في ما تبقى من السنة الدراسية من ربط علاقات متينة ترقى إلى الاطمئنان إلى الغير والتآلف معه … ربما لم تكن الحياة المدرسية نفسها تساعد على التواصل الحر بين التلاميذ… يأتون كل صباح من أحياء المدينة وضواحيها، زرافات ووحدانا، راجلين أو فوق دراجات هوائية متلاشية ، فيلجون حجرات الدرس عبر صفوف يخيم عليها الصمت تحت حراسة مدير حازم ومهيب، لا تفارقه مسطرة صقيلة من رصاص، ومساعدين أشداء يسكن التجهم محياهم. وما أن نلج الفصل الدراسي حتى يشرع المدرسون، وأغلبهم فرنسيون، في إلقاء الدرس بجدية وصرامة. أما فترات الاستراحة، فقد تقرر تلك السنة أن تخصص للصلاة الجماعية بساحة المدرسة التي فرشت حصائر بنية وزربية خصصت لمدير المؤسسة وأطرها الذين تبوؤوا الصف الأمامي وراء الفقيه/الأستاذ سي حوسني. كانت الصلاة إلزامية بالنسبة للمؤمنين والفاسقين والملحدين والزنادقة، لذا جعلها البعض منا فرصة للتنكيت، والتندر، ووخز من هو أمامه، وذر التراب فوق رؤوس الأتراب، وإتيان كل أشكال السلوك المنافية لما يتطلبه المقام من خشوع في الركوع والسجود. ذات أربعاء، ولجت حجرة الدرس بعد «صلاة» العصر، ففوجئت بسرقة «منجد الطلاب» من محفظتي التي رمي بها على الإسفلت بعد أن عبثت بمحتوياتها البسيطة أيادي شريرة، سألت أترابي عمن يكون العابث، فلم الق منهم سوى النظرات الشزرة، والإشارات النافية والمستغربة، والابتسامات الصاغرة، وأحيانا عبارات أمازيغية لا أفهمها وإن كانت واضحة الدلالات ضمن سياقها… شكوت الأمر للأستاذ «الباز»، فلم تجد شكواي في استرجاع منجد نفيس اشترته لي الوالدة مما وفرته من مصروف الأسرة، وجعلت منه مرجعا لإغناء قاموسي اللغوي وكتابا للتفرج على صور الحيوانات والطيور والأسماك، وحسبته مفخرة لي بين الأتراب. قلت لنفسي:
– ياويلتي، ما كنت لأترك محفظتي حتى ضاع مني مؤنسي ومنبع معرفتي.
لم تمر الحادثة دون عقاب، لكنه عقاب مختلف عما ألفته. كانت أمي هي من دحتني أرضا وأفرغت غضبها في كل أطراف الجسد، عضا وقرصا وصراخا. لم أبك، ولم يغضني عقابها الذي حسبته مستحقا ومناسبا للخطأ. قيمة القاموس (10 دراهم) لم تكن هينة إذ كانت توازي عشر راتب الوالد.
قبل نهاية السنة الدراسية بقليل انتقلت الأسرة من السكن الوظيفي بالثكنة إلى مسكن جديد ب «إرحالن « بالدشيرة، فكانت بداية مرحلة جديدة من حياة الفتى الجبلي: مراهقة، وفتوة، وشغب، وصداقات، وحب، ودموع، وقمار، وخمر، وجنس، وعقوق، وسياسة، وأحلام أخرى…
إنها الدشيرة البسيطة، الساحرة، البهية، والرائعة. هي مشتل الأحلام وأيك البدايات كلها… حين أستحضر فضاءاتها ، أراها دواوير ثلاث متباعدة، تربط بينها سراديب متربة تحفها حشائش وأشجار، وبينها بساتين التين والرمان، وحقول الذرة والفول، وبعض الخضر ، وأشجار برتقال وصفوف صبار. يتوسط كل بستان بئر، نصبت على جوانبه «ناعورة» ربط لصاريها حمار أو جمل لجلب الماء وصرفه في سواقي تروي المزروعات والأشجار. جوار البساتين البرية ضيعات عصرية تتوسطها فيلات على النمط الأوربي، أغلبها مهجورة. دور الدشيرة مزيج من بيوت واطئة قديمة، موادها من طوب وحجر، ومنازل حديثة، وإن كانت قليلة، شيدت على الطراز العصري من إسمنت وحديد. تنتهي كل السراديب للطريق الرئيسي الفاصل بين «إرحالن» جنوبا، و»تكمي أوفلا» شمالا… على جانبي الطريق، أحدثت متاجر لبيع الملابس والخضر، ومحل لبيع اللحوم، وآخر للميكانيكا ( يد الذهب) وثالث لإصلاح الدراجات إلى جانب «حلاق الشباب» و»مقهى المستقبل»، الذي يقابله من الجهة الأخرى، وعلى بعد أمتار «مقهى إرجا»؛ وبين المقهيين، طاحونة، ومستودع لبيع مواد البناء. بين الحقول والبساتين الفاصلة بين «الدشيرة» والحامية العسكرية، سوي على عجل حي قصديري منظم سيعرف باسم «دوار المعلم إبراهيم» نسبة لصاحب الأرض الذي تنبه قبل غيره لحاجة اسر الجنود الذين قدموا من وزان قبل خمس سنوات لسكن اقتصادي قريب من الثكنة، فبنى أكواخا متراصة في صفوف أربعة متقابلة وزودها بالماء والكهرباء، بعيدا عن سكان الدشيرة الأصليين، ليصير بمثابة «غيطو» لا يدخله إلا أبناء العسكر. وبين «الدشيرة» وإ»نزكان « ممران ضيقان وسط حقول وسواقي تتحول فصل الربيع إلى منتزه رائع للنساء صحبة أطفالهن، وفي الصيف إلى بيادر وملاعب متربة لكرة القدم، يقابلها على الجهة الأخرى للطريق الوطنية بين أكادير وآيت ملول الحي الأوربي المتميز بحدائقة العصرية وساكنته الأوربية وفندق البروفنسال المجاور لمركز الدرك.
ب»إرحالن» قطنت أسرة سي المهدي دارا عصرية تقاسمتها مع أسرة الرقيب الحسين. أصبحت المسافة إلى الإعدادية أقصر بكثير، فتخلصت من عبء دراجة لم تكن تلائمني، ومن أعطابها المتكررة، واستحسنت الذهاب راجلا صحبة أبناء الحي ممن يتابعون دراستهم بنفس المؤسسة، محاولا نسج أواصر الود مع بعضهم. نسير بين الحقول، ثم بين فيلات النصارى الذين تشد انتباهنا سياراتهم الفارهة وكلابهم النظيفة ونساؤهم الشقروات، ونعبر الكثبان الرملية إلى أن نصل المدرسة/ الإعدادية الواقعة على مشارف المدينة. صار طوق العزلة يتفكك ودائرة المعارف تتسع عبر بوابات متعددة.
كانت الدار الجديدة تقع وسط حي آهل بالسكان وقريب من الساحة الرئيسية للمدينة حيث يتجمع فتيان الدشيرة لممارسة لعبة كرة القدم جوار مدرسة السعديين الابتدائية. ++-دأبت رفقة أخي عبد النبي الذي اكتسب أصدقاء من بين زملائه بالمدرسة ذاتها على ارتياد الساحة، ومشاركة أترابنا اللعب والشغب، فشكلنا فريقا مختلطا من «أولاد العسكر» و»أولاد شلوح»، مما أتاح لنا الاختلاط بأبناء البلدة، والاندماج بهم، وتعلم لغتهم، والانغماس في تفاصيل حياة مدينة ناشئة.
في ذاك الزمن كان التلفاز من الكماليات التي لا يقدر على امتلاكها سوى وجهاء القوم أو «المبذرون» من الجنود، فحدث أن أحد ضباط الصف من أصل جبلي، يقطن بحي «لاشالي»، اشترى دون غيره أول تلفاز شاهدته في حياتي، فدأب «جبالة» على السهر جماعة ليلة كل سبت لدا صاحب الصندوق العجيب وزوجته الظريفة التي كانت تستقبل الجميع في بشاشة لم تذبل أبدا. نتفرج مختلطين على سهرات المدن التي كانت تتبارى في تقديم أجمل أهازيجها وأغانيها الشعبية. وكم كان يطربنا العروصي، والسريفي، والشيخة الحمداوية، وحميد الزاهر، وقشبال وزروال، والشيخة الحمونية، وبناصر وخويا. أفادتني تلك الليالي في استنشاق عبير جبالة وفي اكتشاف «أبناء البلد»، ومن ضمنهم «الصديق» الذي فارقته منذ سنين بغفساي بعد رحلة العودة من وزان. وأتاحت لي جلسات السمر تلك أن أكتشف أول طفلة شغلت مني الفؤاد دون أن يتجاوز اهتمامي بها نظرات خجلاء لم تعرها ابنة الدار اهتماما. عبر «الصديق»، تعرفت على كثير من أبناء الجنود، منهم من كان يتابع دراسته بنفس الإعدادية، ومنهم من كان بالمدرسة الابتدائية المجاورة صحبة أخي. صرنا نشكل حلفا جديرا بالاحترام: رهط من الفتيان المشاغبين الذين لا يتوانون في مهاجمة كل من تجرأ بالإساءة لأحدهم. يذهبون جماعة لسينما «كوليزي» كل أحد لمشاهدة أفلام «البنت» و»الولد»، وللتفرج على «الجانكو» و»الرينكو» والقوة الضاربة ل»صمصام» و»لويس دو فنيس» و «شارلي شابلين»، ويتوغلون أحيانا بين أدغال الغابة في اتجاه مصب نهر سوس، ويركبون مرة دراجاتهم الهوائية لاستكشاف سفوح الجبل، ويتسلون مرة أخرى بغزو دور النصارى وسرقة ما يصادفونه من لعب وأثاث بفناءاتها… ويلعبون الكرة في جل أوقات الفراغ… ويتحاكون الحكايات كلها ، الحقيقية والمتخيلة كل مساء، على درج باب منزل مهجور… لا يهابون مقارعة أي رهط آخر، ولا يتراجعون أمام أي خصم. لم نكن حشدا متجانسا في كل شيء، وإن كنا متضامنين، متحدين في مواجهة الغير. داخل الرهط، تشكلت زمر وفئات حسب الجوار والسن واختلاف الطبائع. زمرة الصقور الذين يعود لهم القرار وينهضون بدور الزعامة، وهم الأكبر سنا، وزمرة الأشرار الذين يتقدمون كل الحوادث «السيئة» ويحرضون عليها، وزمرة الحمائم الذين لا يتورطون إلا لماما في ارتكاب «الذنوب» صغيرة كانت أم كبيرة ويواظبون على الدراسة أكثر من غيرهم. لكن، مهما فرقت بيننا الحياة، كان يوحدنا الانتماء إلى مجتمع «أولاد العسكر»، ويجمع بيننا الشعور بأننا غرباء، والغريب للغريب حبيب.
أنهيت السنة الدراسية بنتائج جد متوسطة. نعم، انتقلت للسنة الأولى من التعليم الثانوي آنذاك، لكني لم ارض بما حصلته من نقط، لاسيما في المواد العلمية. أيقنت أنني تراجعت عما كنت عليه بمدرسة أولاد صالح تراجعا لا ينبئ بخير. بدا المستقبل غامضا وراودتني بدائل شتى، من أقربها إلى التحقق العودة إلى الجبل، والعيش بين أهله في أحضان الجدين.
تجرعت خيبة أملي في ذاتي. استغرقني شغب الصيف رفقة الأقران اللذين صاروا أصدقاء النهار والشطر الأول من الليل. نهيم بين جنان الدشيرة وساحاتها المتربة، نتسلى بقطف النبق وتسلق الأشجار والقفز فوق الكثبان والعوم بغدران الوادي. ونلعب الكرة … بلا توقف ولا تعب … نلعب حفاة في أي مكان.عند العشي نتفرج على مقابلات الكبار حتى مغيب الشمس.
ذاك الصيف زفت أختي إلى زوجها… كان حفلا بسيطا وحزينا. لم يحضر الحفل سوى الأقربون ، وما كان حفلا على الإطلاق. فتاة حسناء لم تتجاوز عقدها السابع عشر تهدى في موكب يتصنع الفرجة والفرح لعجوز أكلته التجاعيد وغزا الشيب ما تبقى من هامته الصلعاء وخرب التبغ الأسود منه النواجد. زواج لم أرضاه لأختي، ولم يرتضيه سوى أبي الذي ربما رأى في الزوج البغيض ما لم يره أحد دونه. حرصت على زيارة العروس في بيتها الجديد فكنت أجدها حزينة، كئيبة. إن استفسرتها، تفجرت رموشها دمعا، وهي ترجو ربها أن يخلصها من زواج لم يكن لها فيه رأي ولا مشورة. عاهدتها أن نعمل سويا من أجل الخلاص، مهما كان موقف الوالد، وأيا كان الثمن.
سارت الأيام مسرعة، بين لعب وتسكع وعراك وصلاة وحنين، إلى أن عدت إلى الثانوية. عدت معززا بكتيبة جديدة من أبناء الجند الذين انتقلوا تلك السنة إلى التعليم الثانوي صحبة أخي ع.ن. نسير زرافات في الغدو والرواح ،من الدشيرة إلى الثانوية الجديدة، التي شيدت على مشارف غابة كثيفة تتحول فصل الربيع إلى منتزه رائع. نسير متكاتفين، متآنسين، بين بساتين «تاغزوت». نتبارى في الشعر والنثر… طه حسين، وإيليا أبو ماضي، وجورجي زيدان، وتوفيق الحكيم، والمنفلوطي… والثقافة العامة من قبيل عواصم الدول ورؤسائها… دار السلام، وأديس أبيبا، وبيروت، ومودي بوكيتا، وجمال عبد الناصر ونهرو و… والأحداث التاريخية… واطرلو، والزلاقة، والأرك، وفتح عمورية، والحروب الصليبية، وصلاح الدين الأيوبي… وأسماء العلماء والمخترعين… باستور، وأديسون ،وكوبونيك… وغاليلي. مباريات حفزتنا على المطالعة والبحث والتنقيب في زمن شح مصادر المعلومة والمعرفة، وفي وسط سادته الأمية.
لربح الرهان والفوز بالجوائز الرمزية التي رصدت للمتفوقين، وهي حلويات «خمسة بريال»، وضعت معية أخي برنامجا للمطالعة وحفظ الأشعار والاطلاع على خريطة العالم وتاريخ الإنسانية، فعكفنا على قراءة ما استطعنا إليه سبيلا من كتب ومجلات و»أوراق».
كانت خزانة الوالد بكتبها الصفراء أول منهل وأقربه إلينا. قرأنا «الرحمة في الطب والحكمة»، و «الروض العاطر،» و»سيف بن ذي يزن»، و»أبو زيد الهلالي». فاكتشفت أسماء الفرج والقضيب جميعها، وتشكلت في مخيلتي كل مشاهد الجنس والجماع، وتبلورت في وجداني كل قيم البطولة والشجاعة والإباء، وكل ألوان العشق والتضحية في سبيل المحبوب، وترسخت في أعماقي كل القيم المثالية الجميلة المتسامية. استهوتني الأزلية وبطولات ملك حمير الذي تحدى الإنس والجن، فاستعبد «سعدون الزنجي» و»ميمون الهجام»، وسخر «عيروض» و»عاقصة» و»إرميش المخالف»، وهزم «برنوخ الساحر» و»الكاهنة»، واستصغر «سقرديس» و»سقرديون»، وفتح «مدينة النحاس» وساد «جزر الوقواق» و»بحر الظلمات». كانت أربع ليال متتالية كافية لمصاحبة سيف في ملحمة أسطورية حسبتها وقائع تاريخية حقيقية، فتفاعلت مع البطل الخير، الطيب، الذي عاش أهوالا يشيب لها الصبيان ، وصبر الصبر الجميل على ما لحقه من أذى السحرة والكهان، فانتصر بعون الله على الطغاة. وعلمت بأقوام «ياجوج» و»ماجوج» الذين سيزحفون يوما على الأرض ليجعلوها خرابا، وعلى البحار التي ستصير يبابا.
وكانت خزانة المؤسسة نافذة على عالم آخر من المعرفة. عبرها عشقت «النظرات» و «العبرات» و «النبي»، وحفظت لشعراء المهجر ومدرسة الديوان وغيرهم، أشعارا وأشعارا:
قال السماء كئيبة وتجهما قلت ابتسم يكفي التجهم في السما
لإيليا أبو ماضي.
لقيتها، ليتني ما كنت ألقاها تمشي، وقد أثقل الإملاق ممشاها
لمعروف الرصافي.
ما أكثر الإخوان حين تعدهم لكنهم عند النائبات قليل
لعلي بن أبي .طالب.
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شاد
لشاعر المحبسين أبي العلاء المعري
… ومطالع قصائد كثيرة للمتنبي وأبي تمام والبحتري وحسان بن ثابت وغيرهم من فطاحل الشعر العربي القديم والحديث.
وجعلنا من قمامات النصارى ب» حي العصافير(cité des oiseaux) مرجعا لا ينضب لتقوية ثقافتنا الفرنسية. كلما مررنا بالحي، في الذهاب والإياب، تسابقنا لجمع ما بسلال القمامة من مجلات فرنسية ( باري ماتش)، وروايات مصورة لقصص غرامية بالأبيض والأسود. كنا نتناوب على قراءتها ليلا، وفي خلسة عن أهل الدار. قصص ألهبت مشاعري وحركت في نفسي رغبة جامحة لعناق أنثى شبيهة ببطلات الروايات وصور الحسناوات على صفحات المجلة الفرنسية ذات الورق الصقيل، بقدر ما نميت قاموسي اللاتيني لاسيما في موضوعة العشق والغزل المتهتك:
je t’aime !… je t’adore !…. mon amour !…
Embrasse-moi !…. mon ange !…. c’est vraiment terrible !
عبارات حارقة تذهب الوسن عن الجفون، وتغري بما يطفئ الحريق في الدواخل، تزيد من سعيرها مشاهد جسورة من العناق والقبل والنظرات الساحرة الولهانة بالحبيب، مقبلا كان أم مدبرا. كم من مرة أعدت قراءة الحوارات الغرامية حتى مطلع الفجر، وحفظت ما اعتبرته أروع كلام يمكن أن يخاطب به حبيب حبيبه. إن استعصى علي فهم لفظ أو عبارة، استعنت بقاموس من الحجم الصغير.
صارت القراءة غذاء يوميا للروح والعقل، وعالما للمتعة والسفر عبر أزمنة بعيدة وأصقاع بلا ضفاف … لا أنهي قصة أو مجلة حتى أظفر عن طريق الإعارة أو التبادل بكتاب جديد. وأضحت مجلة» العربي» مرجعا ثابتا، نوفر ما جادت به الظروف من سنتيمات، لاقتناء عدد الشهر. والحقيقة أن «العربي» أسهمت بقسط وفير في تنمية ثقافتي العامة بالنظر لتعدد موضوعاتها التي تناولت التاريخ والجغرافية والفنون والاكتشافات العلمية والأدب والتراث والمعمار. وكانت أعز موضوعاتها على نفسي تلك التي كانت بقلم رئيس تحريرها آنذاك أحمد زكي صاحب مقولات لم أنساها، بالنظر لعمقها وبيان لفظها: « كم من أمة سادت ثم بادت»… « وحدة الله تتراءى في وحدة خلقه»، فضلا غن استطلاعات لأنحاء مغمورة من الوطن العربي والعالم أجمع.
الثانوية بناية جديدة ، حديثة البنيان، فسيحة الجنبات، بها ملاعب وحلبة لألعاب القوى، ألحقت بها داخلية ولجها تلاميذ قدموا من أعماق سوس والصحراء. مدير المؤسسة، الأستاذ حجي، كهل وسيم وحازم، لا يتحدث سوى اللغة الفرنسية، حريص على الحضور إلى المؤسسة قبل الجميع ومغادرتها بعد الجميع. عند افتتاح الموسم الدراسي طاف على الفصول، فشجعنا على العمل الجاد والسلوك القويم، وأهاب بالأساتذة على بذل ما ينبغي من جهد للارتقاء بمستوانا الدراسي. لم تتغير مرفولجية قسمنا إلا قليلا، بينما شمل التغيير كل أساتذتنا. « أسندت مادة اللغة العربية لأستاذ شاب، قصير القامة، وسيم المحيا، بشوش على الدوام، يدرس على مهل ويشتغل بأريحية كبيرة. يقضي جل الوقت جالسا لمكتبه دون مكتفيا بتوزيع الأدوار بين التلاميذ. بقدر رقة سلوكة ومعسول كلامه ، كان شح تنقيطه للفروض والاختبارات. وتكفل باللغة الفرنسية والتاريخ والجغرافية (كانتا تدرسان باللغة الفرنسية) الحاج المهدي»لوكس»، ضابط فرنسي سابق، اعتنق الإسلام، وتزوج مغربية مسلمة، واختار أن يكون مغربيا, وأن يسهم في تربية وتعليم أبناء المغرب. عرف الرجل بدماثة أخلاقه وحبه للعمل، والتزامه بنظام انضباطي صارم، منذ أن كان أول مدير لإعدادية «بوزكارن» بالجنوب المغربي.يأتي الثانوية ممتطيا جواده، في هيأة فارس نبيل قادم من أعالي «لالوار». وفي سحنته ولباسه ومشيته بقايا ضابط مجد وقاس مع جنده. طويل القامة، شاحب البشرة، حاد النظرات، محب للعمل في نظام وانتظام، رحيم بالمستضعفين ممن «خانتهم الصحة» أو غدر بهم الزمن، شديد العقاب تجاه كل كسلان أو غشاش يفسد في الفصل ولا ينصت. الحاج «لوكس»، أطال الله عمره، نموذج بيداغوجي خاص ومتميز بوضوح أهدافه، ونجاعة أساليب التلقين والتبليغ والتدريب، وفي أنماط التتبع والتقويم، وفي أشكال الزجر والعقاب والتثمين والتشجيع. ألزمنا بإتباع توجيهات دقيقة تهم كتابة تاريخ كل درس وعنوانه ومحتواه مع وضع خطوط معدودة الخانات بينها، وترك هوامش إضافية بداية كل فقرة، واحترام علامات التنقيط وختم النص بخط النهاية. وويل لمن أصابه سهو أو غفلة. عندما ننتهي من حصة الإملاء، نضع أقلام الحبر جانبا، ونعوضها بأقلام الرصاص، فيصحح كل تلميذ ما ارتكبه من أخطاء، ويكتب بقلم الرصاص الكلمة الصحيحة بين سطرين، ثم يعد أخطاءه، ويسجل النقطة التي حصل عليها في الخانة المخصصة لذلك. بعدها يعيد الحاج لوكس التصحيح بالقلم الأحمر. إن اكتشف غشا يستشيط غضبا، فيكون نصيب من غش أو حاول ما تيسر من لكمات ترسل على عواهنها، مرفوقة بقولة صارت لدى أستاذنا لازمة:» انت تجر وأنا نجر حتى يتقطع الحبل». لكن الحاج لوكس حرص دوما على أن يبقي حبل المودة متينا مع تلامذته. نهاية كل حصة يطبطب على جبين من عوقب منا ويوصيه بالجد والاجتهاد، ويودعه بكلمته المعهودة: لا بأس. على يديه تعلمنا العمل الجاد ونظام الكتابة واستوعبنا قواعد النحو والصرف، وسافرنا إلى عالم «البِؤساء»: جان فالجان وكوزيت وكافروش. وعلى يديه حفظنا تاريخ المغرب على طريقة حفظ القرآن بجامع «غرس علي». لذلك أحببت الحاج لوكس وأحببت من خلاله لغة موليير، وكتابات فيكتور هيغو، وتعاطفت مع كوزيت ، تلك الخادمة الصغيرة التي ذاقت العذاب لدى آل تينارديي، ولم تنعم بمداعبة دمية. فسرت منذئذ عاشقا للأدب الفرنسي، وتلك حكاية سنأتي على تفاصيلها.
«مدام. غ»، امرأة عملاقة، هيأتها أقرب لهيأة «الكوبوي»، ترتدي بذلات على شاكلة الأزياء العسكرية لضباط الحرب العالمية الثانية، وتتدلى على صدرها سلاسل معدنية تزينها أحجار في لون اللبان والزمرد. غزت محياها تجاعيد لم تنفع كل مراهم العالم في إخفائها أو تليينها، ولم تزدها أظافرها الطويلة المصبوغة إلا ذمامة ما بعدها ذمامة. فضلا عن ذمامة خلقتها ، كانت أستاذة العلوم الطبيعية قاسية، ظلومة، تمقت المغاربة وتحتقر العروبة. تأتي الثانوية على متن سيارة فارهة تزيد من سرعتها كلما اقتربت من باب المؤسسة فتملأ الفضاء غبارا غير آبهة بمن حولها. تسير عبر الممرات بخطى عريضة، فتسمع طقطقات كعبي جزمتها من بعيد. ترمي بمفاتيح قاعة الطبيعيات من مسافة بعيدة اتجاهنا ونحن مصطفين أمام حجرة الدرس، فيكون على من تخلف منا التقاط المفاتيح وفتح الباب قبل أن تصله «عاقصة». وقد يكون سيء الحظ إن سقطت منه المفاتيح أو تأخر في إنجاز المهمة. تسمعه «عاقصة» أسوأ النعوت وتسخر منه طيلة الحصة، ولن تغفر له هفوته إلا إن أتاها مستقبلا بما تضيفه للمتحف الطبيعي الذي أنشأته داخل القاعة: حيوانات وطيور وزواحف محنطة، وجماجم وحوش وبشر ، ونباتات وطحالب وأصداف، وصخور ورمل وأسماك في كل الألوان، ومستحثات، وهياكل عظمية و…و… ودروس مكتوبة بخط رائع بكل الألوان على سبورات متلاصقة كست جدارين متقابلين… كنا نتبارى في تأثيث المتحف وتزيين الدفاتر بصور المخلوقات كلها بغية التودد لها والحصول على أعلى النقط … كانت الأستاذة مهووسة بالصور والكراسات المنمقة، وتميل لمن يسعى لخدمتها من التلاميذ… وما أكثر المتملقين الذين لم يجدوا غضاضة في التقرب ل «عاقصة» ولو عبر الوشاية. لم أسلم من شرها وسوء معاملتها خاصة بسبب إهمالي لدفتر الطبيعيات وعدم انضباطي لتعليماتها وإبداء تبرمي من غطرستها. كنت في الحقيقة أكرهها، وأنتظر يوما أرد لها فيه الصاع صاعين وأكثر… وهو شعور تقاسمته مع كثير من الزملاء.
لم يكن أستاذ الرياضيات أقل من «م.غ» فضاضة وقسوة. ولعل ما ميزه عنها ضعفه المعرفي البين وجهله الواضح بطرق التدريس، فكان يعوض عن تواضعه العلمي والبيداغوجي بالصراخ، وأحيانا بسلوك بهلواني لا معنى له. كان «م.ب» من بين الذين ألحقوا بالتعليم المغربي في إطار التجنيد الإجباري، ولم يسبق لهم أن درسوا ولم تتوفر فيهم المؤهلات المعرفية والتربوية لممارسة التدريس. كان قصير القامة، مدكوك البدن، ذا لحية كثة وشوارب تكسو الشفتين، معتدا بذاته ، مزهوا بعضلاته. يعجبه أن يتحدث عن ذاته بداية كل حصة، عن رياضة الريكبي التي كان يمارسها بفرنسا، وعن عشيقاته هنالك، قبل أن يلقي علينا درس الرياضيات مكتفيا بإعادة كتابة ما يضمه الكتاب من قواعد ومعادلات دون شرح ولا تفسير، وينهي الحصة بمطالبتنا بإنجاز سلسلة طويلة من التمارين. لذلك لم يقدر جل التلاميذ على مسايرته، فاكتفى بتعليم نفر من النجباء لا يتعدون أصابع اليد الواحدة. قلت لنفسي: « إذا عمت هانت». عزفت عن الرياضيات وربيبتها الفيزياء في حين تركز اهتمامي على مواد اللغتين العربية والفرنسية وعلى التاريخ والجغرافيا
أسندت اللغة العربية للأستاذ حسني رحمه الله، رجل وقور، طيب ورحيم، يرتدي جلبابا وطربوشا تقليديا وخفا من الصنع المحلي، ذو ثقافة عربية أصيلة. على يديه درسنا النحو والبلاغة والتفسير والحديث والشعر. ولعل أجمل ما كنا نقدره في أستاذنا، تسامحه وتساهله في تصحيح الفروض وتنقيطها. يخبرنا بيوم الاختبار، ويحدد موضوعه ومضمونه، مما كان ييسر على المجدين التحضير الجيد، وعلى الكسالى «التحريز» المتقن، فتأتي النتائج ممتازة. ومن طرائف أستاذنا الجليل، أنه إذا ما حصل أحدنا على 16/20 ، اعتبر النقطة ضعيفة وأوصاه بأن « يجتهد» أكثر. إن شكونا له صرامة غيره من الأساتذة الفرنسيين، زاد جوده ووعدنا بالمزيد، ولعنهم ودعا عليهم بالرحيل. كان للرجل حساسية مفرطة اتجاه الفرنسيين.
بداية السنة الموالية نفسها غادرني صنوي إلى الثانوية العسكرية بالقنيطرة تاركا وراءه فراغا لم يقو أخي الأصغر على ملإه. ودعته أمي بدموع الفرح، معتبرة ولوجه المدرسة العسكرية بداية مستقبل زاهر. في نفس السنة رحلنا إلى» تكمي أفلا» لنجاور أختي… سكنا دارا جديدة صحبة أسرة العياشي الطنجاوي وزوجته فاطمة. العياشي إنسان لطيف وصموت، لا يلج الدار بعد العودة من الثكنة مساء الا ليغادرها على عجل في اتجاه مقهى «ارجا» حيث يمارس لعبة الورق حتى ساعة متأخرة من الليل، يشاركه في لعبته زمرة من الجنود وبعض رواد المقهى الدائمين من سكان تكمي اوفلا…
بداية أكتوبر 1974، نزلت فاس طالبا بقسم الفلسفة. بدت لي المدينة فضاء رائعا لا نهاية له، فمنيت النفس باكتشاف علومها وحدائقها وأزقتهاالعتيقة. للمدينة في مخيلتي صورة باذخة رسمتها في مخيلتي أحاديث اهل بلدتنا الجبلية عنها: نساء غض، بيض، ضفائرهن من سندس وحناء، ترفلن في ثياب من حرير، وأخفاف من قطن ناعم، ورجال تقودهم بطونهم نحو متاجر الذهب والفضة، يرتادون جلابيب «الشعرة» وتزين هاماتهم طرابيش حمراء. وجامع كبير ذو سواري منقوشة ونافورات ماؤها اصفى من دموع الغوادي، إلى جوار ضريح ولي صالح تحكي أخبار السلف أنه مؤسس هاته الجنة…
نزلت فاس وانا لا أدري عنها سوى ما حكته ألسن الرواة، ولا أعرف من سكانها سوى أسرة عمي عبد السلام. استقبلتني الأسرة بحفاوة بعد فراق دام أكثر من عشر سنوات، حينما ودعنا وزان على متن شاحنة صفراء، حشرت فيه النساء والأطفال وما قدرنا على حمله من أثاث، في اتجاه دواويرنا الجبلية، في حين غادر الرجال وزان في موكب عسكري رهيب نحو السوس بلد السحر والأفاعي.
كان صباحا غائما… الرذاذ يناجي في حنو شجيرات التوت الناعمة… جنود يسرعون الخطى نحو الثكنة… وأطفال من الجنسين يسيرون في حبور نحو شارع السلاوي. صاحبت عمي عبد السلام حتى «باب الغول». دلني على الطريق المؤدي للجامعة وأوصاني بأن نلتقي عند الزوال…
«باب الغول» حي صفيحي يضم اكواخا بسيطة انتظمت في صفوف مرصوصة متقابلة على جوانب ازقة متربة. بعض الدور الواطئة تظللها أشجار التوت والكروم، إلى جانب بعضها الآخر أحدثت أحواض نعناع وبقدنوس وأزهار. بدا لي الحي بسيطا وهادئا، شبيها في هندسته وألوانه وتواضع دوره بحي «العادر» بوزان.
سرت تحت الرذاذ في اتجاه الحي الجامعي… انتصبت بعد مدخله الحديدي عمارة من أربعة طوابق يكسوها سقف من قرميد أحمر… يتوزع الحي إلى جناحين متلاصقين… طلاب وطالبات يتنقلون وحدانا وزرافات بين مرافق الحي ويتجولون في الساحات المجاورة، يتبادلون الأحاديث والابتسامات… يبدو أن بعضهم وبعضهن وصل للتو يحمل متاعه في صف طويل على باب أحد المكاتب… غير بعيد توجد كلية الآداب والعلوم الانسانية: عمارة من نفس الطراز وحركة دائبة للطلبة القادمين من أقاليم مختلفة. كنت وحدي… أمشي وحدي… أفكر وحدي… كل أصدقائي تركتهم هناك في سوس وضفاف المحيط، لم تبق الا ذكريات ووجهها القمري يضيء دروب المستقبل الذي تواعدنا على نسج ملامحه سويا رغم المسافات. كان علي أن أقرر وأختار وأدبر حياتي الجديدة في منفاي لوحدي. اتخذت ذاك الصباح قرارين، أولهما، الالتحاق بقسم الفلسفة؛ وثانيهما أن أقطن الحي الجامعي. الجامعة كما كنت أتصورها فكر وحرية وبحث عن الذات واستقلال عن كل سلطة، ويجب أن تكون إبحارا مع الذات نحو ضفاف مجهولة وساحرة…
سكنت الغرفة 228 بالطابق الثالث رفقة ثلاثة طلاب، ينحدر اثنان منهما من مكناسة الزيتون ويتابعان دراستهما بكلية الحقوق… كأنهما توأمان لا يفترقان الا لماما، يغدران الغرفة معا ويعودان بعد منتصف الليل في حالة سكر غير طافح، فيستغرقان في حديث لا ينتهي عن ذكريات مشتركة بالثانوية، وعن مغامراتهما العاطفية، وعن أساتذة درسوهما، وعن الكوديم (النادي المكناسي لكرة القدم) وأشياء أخرى… أما الطالب الآخر فما أن يلج الغرفة حتى يطفئ الأنوار ويسرقه النوم. حاولا المكناسيان استقطابي لعالمهما، ودعاني يوما الى ليلة خمرية خارج الحي. اعتذرت بلباقة، لا عفة ولا وقارا، وانما احتشاما من خواء الوفاض. ولأن الدراسة لم تنطلق بعد اخترت أن أتسكع عبر المدينة، فصرت أقضي ساعات طوال أتجول بين شوارع «دار دبيبغ الفسيحة»، من «ساحة فلورانس» الى «لا فيات»، وأواصل السير حتى مولاي عبد الله وجنان السبيل فالطالعة الكبيرة إلى أن أتيه بقيسارية مولاي ادريس. فضاءات متنوعة تعج بالنشاط، سحرتني صناعات حرفييها ورموش بنات الحارات المجاورة المتسللات عبر دروب ضيقة متجهات الى مدارس خارج الأسوار… فاس البهاء والرونق والأدب الرفيع، فيه يتنفس التاريخ وتتدلى من مكتباتها عناقيد المعرفة.
لم تطل أيام التسكع، إذ سرعان ما فتحت الجامعة ابوابها، فتغيرت وتيرة الحياة التي توزعت بين زيارات خفيفة لأسرة عمي عبد السلام بباب الغول وفضاءات الحي الجامعي ومحاضرات أساتذة سحروني بأسئلتهم العميقة ورحابة أفقهم العلمي ورزانة الأداء. هكذا بدا لي جمال الدين العلوي وهو يتحدث في هدوء يخفي حزنا عميقا عن الحكماء الأوائل واطروحاتهم حول نشأة الوجود وأصل الكون؛ ومحمد سبيلا في أحاديثه المغرية عن الفلسفة الحديثة وعن ديكارت وشكه المنهجي الذي كان معبرا ضروريا لاستعادة يقينه في العالم قطعة قطعة. لم يكن عدد طلاب الفلسفة يزيد عن المائة الا قليلا، فكان التعارف بيننا يسيرا والتواصل ميسرا. هكذا بدا لي انا القادم من الجنوب النائي والمتطلع لكسر طوق وحدته. تركت ذلك للأيام ومصادفاتها، وركزت اهتمامي على النهل من ينابيع المعرفة الفلسفية ، مسترشدا بتوجيهات أساتذتي الأجلاء.
في احدى امسيات نونبر البارد جلست وحدي جوار الباب الرئيسي للحي الجامعي بعد ان تناولت وجبة العشاء حين بادرني بالتحية زميل لي بقسم الفلسفة. بادلته التحية بأحسن منها، فجرى بيننا حديث عادي. تعرف كل منا على الآخر، عن اسمه وأصله ومساره واهتماماته. علمت أن الصافي ينتمي لمدينة بركان وأنه يقطن الغرفة 158، وبدا لي أنه منشغل بالسياسة، وأنه إنسان لطيف وودود ويدعو الى الاطمئنان. تكرر اللقاء مرات ومرات، صرنا لا نفترق. من خلاله تعرفت على وجوه كثيرة تنتمي في أغلبها للمنطقة الشرقية.