إنها قصة جديرة بالحكي: نهاية الخمسينات بادر «سي محمد لعور»، أحد الفقهاء المتنورين ب»أولاد صالح» إلى تأسيس جميعية :»إخراج الطفولة من الجهل إلى النور»، تركز هدفها في إحداث مدرسة ابتدائية. واستطاع الفقيه المجدد أن يقنع أعيان القبيلة بالفكرة، فتعبأ الجميع لإخراجها إلى الوجود. كان للفقيه لعور مشروع متكامل من شطرين: إحداث فصلين دراسيين بضريح الولي الصالح سيدي يحيى وبقاعة المحكمة التي شيدت في عهد الحماية، ثم بناء حجرات أخرى بتمويل ذاتي ينظم بشأنه اكتتاب. استحسنت اللجنة الاقتراح في مجمله وتحفظ البعض على اقتحام حرمة الضريح من قبل أطفال لن يلتزموا حتما بقواعد التوقير والإجلال. وبعد نقاش طويل ومضن، استطاع سي محمد أن يقنع سواه من الفقهاء بجواز التدريس بالضريح شريطة أن لا تدرس به سوى اللغة العربية، وأن يلجه الأطفال حفاة،حليقي الرؤوس، وأن يرتادوا جلابيب تقليدية. تلك كانت النواة الأولى للمدرسة، التي كان عدد المقبلين عليها يتجاوز بكثير طاقتها الاستيعابية. وكان ذلك أقوى محفز على إكمال المشروع. ورد في رسالة/شهادة، بعث لي بها سي «محمد لعور الصالحي» سنة 1990م، تلبية لطلب معلومات عن ظروف نشوء المدرسة، التي اخترتها مجالا لبحث أكاديمي في علم اجتماع التربية: « … لما كان الإقبال عظيما، قررنا بناء حجرات أخرى، وفكرنا في تنظيم جولة في القبيلة على الطريقة التي يعمل بها مريدو بعض الزوايا. جندنا لذلك رباعة من «الطبالة» و»الغياطة»، وزمرة من حفظة القرآن الكريم. يتكفل الفنانون بتنشيط الجولة وخلق جو من الفرجة وجلب انتباه الناس، ويتلو الفقهاء آيات أمام كل دار وقفنا عند بابها ويدعون للمكتتبين والمكتتبات بالبركة وحسن الخاتمة. أبان السكان عن جود غير منتظر فجمعنا ما يكفي لتحقيق المشروع. وهكذا بدأنا في بناء أربع حجرات بدل اثنتين. وأصبحت جاهزة للاستعمال بداية بالموسم الدراسي 1960، وكنت من أول أساتذتها. ومما يسر المأمورية، تطوع الشباب للعمل مجانا، استلهاما لتجربة طريق الوحدة. ومن القواعد التي وضعتها اللجنة، وباركتها « الجماعة»، ولم يعترض عليها القائد، أن التسجيل في المدرسة سيكون محصورا على أطفال «أولاد صالح»….»
بعد عشرين عاما على حديث «بابا سيدي»، فهمت مغزى ما ذهب إليه، وأدركت مصدر نفوذ الأعيان، وخلفية قرارهم المشروع. لم يتهاون «بابا سيدي» في السعي للوفاء بعهده، فثابر على الذهاب وإياي ل «أولاد صالح» كل ثلاثاء قصد الاتصال بأعيان القبيلة ورجالاتها النافذين. فاتح كل من ظن به خيرا في الموضوع، مبررا إلحاحه بأنه سبق لي أن دخلت المدرسة، وأن ألأمر يتعلق بابن رجل ساهم في تحرير البلاد. وأعرب عن استعداده بأن يساهم في الاكتتاب أضعافا مضاعفة. وعده بعضهم خيرا.
انقضى ما تبقى من ذاك الصيف البغيض، مرت أيامه بدون طعم … فالدار الكبيرة أضحت شبه خالية بعد رحيل «المدينيين»، وصرت الطفل الوحيد إن استثنينا فاطنة التي تكبرني بكثير وغادرت قبل الأوان عالم الطفولة. «ونانا» غادرت لبيت جديد… والقطيع اندثر تاركا وراءه باحة رحبة كئيبة… وخالي «سيود» ودع بحثا عن مستقر آخر رغم إلحاح بابا سيدي عليه بالبقاء. أسهمت هذه التحولات المتسارعة في تغير الأجواء التي أصبحت أكثر هدوء وسكينة، لكن أقوى رتابة وقنوطا. للتخفيف من ثقل الزمن وغمة المكان، اشترى بابا سيدي أول جهاز حاكي عرفه المدشر، وعشرات الأسطوانات ،أغلبها لشيوخ الطرب الجبلي، وبعضها لرابح درياسة ومازوني. ما أن تميل الشمس غربا وتبسط الأشجار ظلالها على «الدكانة» الفسيحة اللصيقة بالدار الكبيرة، حتى يصدح الحاكي بروائع العيطة الجبلية التي تملأ الفضاء، فيهب الجيران نساء ورجالا وأطفالا للاستمتاع والترويح عن النفس بعد يوم متعب وشاق. بعد المغرب أرافق «بابا سيدي» كما العادة إلى البيدر حيث نمكث إلى ما بعد العشاء، وأحيانا إلى منتصف الليل. من هناك تتراءى، قبل أن يخيم الظلام، قبة سيدي يحيى . يشير إليها «بابا سيدي « قائلا:
– جوار ذاك الضريح، تقع المدرسة…
يصمت قليلا ثم يضيف واضعا إياي أمام تحد حقيقي:
– هل ستقدر على السير راجلا كل هذه المسافة صبحا وعشية؟
– سأقدر، وسأصبر على كل شيء. لكن لابد أ ن يساعدني رجل على عبور الوادي أيام الشتاء.
– لا تعر اهتماما لذلك، يمكنك أن تنزل عند «نانا» طيلة فصل الشتاء، ومتى تعذر عليك الرواح إلى غرس علي. لقد حدثت زوجها في الأمر ، وقبل.
لم أعد بعدها إلى «المعمرة»، بل رجعت إلى محفظتي القديمة، أخرجت كراسة «إقرا» وسرت أحفظ نصوصها وأنجز التمارين على نفس الدفتر الذي كتبت على صفحاته بمدرسة «العادر» بوزان الجميلة.
مضت أسابيع معدودة فصاحبني جدي إلى مدرسة «أولاد صالح» التي فتحت أبوابها بداية أكتوبر: أربع حجرات متراصة بنيت من حجر، وسقفت بقرميد أحمر باهت، طليت أبوابها ونوافذها بلون أخضر قاتم، ذات ساحة معشوشبة مفتوحة على بساتين التين والزيتون شرقا، وتحفها أشجار الأوكاليبتوس من باقي الجوانب. تحدها غربا رحبة السوق الأسبوعي، وشمالا المقبرة. يجاور المدرسة من جهة الجنوب، بيت صغير سكنه أحد المعلمين، ودكاكين، وطاحونة. تقع المدرسة في قلب قبيلة «أولاد صالح» على مسافات متقاربة عن كثير من مداشرها، وعلى المسلك الطرقي الرابط بين «غفساي» و»تابودة».
عشرات الأقران توزعوا على صفوف أربع تمثل ثلاث مستويات ( التحضيري ، الابتدائي الأول والابتدائي الثاني)، ما أثارني، مقارنة مع مدرسة وزان، تقدم سن بعض التلاميذ وسحناتهم الرجولية من جهة، وندرة البنات اللواتي لم يتعد عددهن ثلاثة من جهة ثانية. ولج كل فوج حجرة مصحوبا بمدرسه. سبحان لله، قلتها سرا وأنا أنظر للسي عبد لله. أجل قد يخلق الله من الشبه أربعين، وها هو سي عبدلله على صورة معلمي الأول بوزان، أو قل: هاهو سي امحمد يبعث في «أولاد صالح». استبشرت خيرا، وتمنيت أن يكون المعلم الجديد شبيها بالسابق، علما وتربية ومحبة. لم يخب ظني. سرعان ما اكتشف الرجل الطيب الأنيق تمكني من القراءة والكتابة وحفظي التام لنصوص المطالعة. وعلم، لما سألني عن سر تفوقي، بقصتي، فحباني بمعاملة خاصة من تجلياتها أن يسمح لي بمغادرة المدرسة قبل الخامسة نظرا لما ينتظرني من خطو، والعودة لغرس علي قبل أن يسود الظلام . كانت الطريق موحشة، تتخللها سهوب وشعاب وواد عميق وغابة هيفاء، ما كنت ألج أدغالها حتى تحاصرني أشباح وأشباح في صور المخلوقات الخرافية التي طالما وردت في أحاديث عجائز القرية: تنينات وغيلان وعفاريت. يغمرني الخوف الرهيب، فأسرع الخطى وألتفت إلى كل جانب لعلني أرى في الأفق آدميا أو مجرد حيوان أليف يخفف وجوده من روعي. وتزداد رهبة الطريق الطويل الملتوي كلما قصر النهار وغزته جحافل الظلام قبل وصولي مشارف المدشر. في الصباح الباكر ، توقظني جدتي من نوم عميق، تناولني فطورا دسما من بيض وسمن وحليب طبيعي، تحشو جرابي بخبز وزيتون وتين مجفف وزبيب، تناولني علبة من قصدير بها وجبة قطاني قد تكون «بيصرة» أو عدس، ثم تصاحبني حتى الكدية المطلة على « واد ميزان»، فأنطلق عبر مسلك ضيق وسط غابة الرياحين إلى أن أصل الوادي، فأسير على ضفته اليسرى فاليمنى، ثم أتجه يمينا متسلقا جبلا صعب المراس إلى أن أطل على مدرستي. وأنا قي بداية رحلة الفجر، تؤنسني نداءات جدتي من فوق الكدية العالية، وهي تشجعني على مواصلة المسير. أصل المدرسة وقد أغرق العرق جبيني… أصل متعبا للغاية… عندما يتجه زملائي لبيوتهم المجاورة عند الظهيرة، أرابط، صحبة نفر من التلاميذ، جوار المدرسة تحت شجرة الكاليبتوس الظليلة. نتناول ما حملناه من زاد، ثم نجري لعين قريبة نروي عطشنا ونعود للعب في انتظار الحصة المسائية. في الذهاب والإياب، شغلت نفسي بأشياء ساعدتني على مغالبة رهبة الفضاء ووحشة الأمكنة. أول تلك الأشياء تقدير المسافات وقياسها، إذ كنت أعين، انطلاقا من حيث أوجد، معلما من معالم الطريق، ربوة تكون أو شجرة أو ساقية، فأفترض كم خطوات تفصلني عنها، ثم أعد خطواتي إلى أن أصلها، أصيب مرة وأخطأ مرة. كان تمرينا جيدا ألهمني قدرة بينة على تقدير المسافات. كنت أحيانا أتمرن طيلة الرحلة على التسديد، ألتقط حفنة من الحصى فأروح أسددها تباعا في اتجاه أهداف قد تكون طيورا أو صخورا أو جذوع شجر. وأحيانا أخرى كنت أعمل على تذكر مضمون دروس اليوم واسترجاعها، مما أسعفني على تنمية الذاكرة والتفوق في الدراسة. هي آليات من ضمن أخرى لجأت إليها ضمانا لتوازني النفسي وانتصاري على ذاتي. بعد أيام تآلفت مع الغابة وكائناتها ومع الوادي وظلاله ومع مفاجآت الطريق، فتبخرت مشاعر الخوف إلى غير رجعة، ولم تعد جدتي بحاجة إلى مرافقي حتى «كدية عروشة».
سيرة ذاتية: خربشــات على جدار حزيـن 13: الفقيه محمد لعور ومدرسة «أولاد صالح

الكاتب : عبد السلام الرجواني
بتاريخ : 15/06/2017