شارل دوفوكو:رجل المسارات المتلبسة

كتاب «التعرف على المغرب» Reconnaissance du Maroc هو قبل كل شيء إسهام علمي وجغرافي وعسكري لا نظير له في مصفوفات التأليف الفرنسي لتلك الفترة؛ عمل ضخم وثري، دسم بمعطياته وفرادة أفكاره. تنتظم أفكاره على هيئة قوس مفتوح وممتد…بأسلوب رشيق يمزج بين البراعة في صياغة الأفكار، والسلاسة في تقديم المعطيات والرحابة في التنقل بين الفضاءات…حتى أن القارئ ليخال نفسه أمام عمل أدبي خالص يعكس عبقرية دوفوكو الإبداعية…عمل استكشافي يصل إلى مستوى التحدي مثلما يقر بذلك روني بازان.
وقبل ذلك، تعرَّف قارئ لغة موليير على هذا الكتاب بحر عام 1888م، وأعيد نشره مرة ثانية عام 1935 بباريس، ثم أعيد نشره مرة ثالثة من طرف دار النشر المعروفة «اليوم» Edition d’Aujourd hui سنة 1986م، كما صدرت له ترجمة إلى لغة الضاد أنجزها الباحث المغربي المختار بلعربي، عن دار الثقافة سنة 1999م. عودة إلى سؤال التأليف عند دوفوكو، يدافع روني بازان عن فكرة أن كتاب استكشاف المغرب لم يكن مُوجها توجيها خاصا إلى جمهرة القراء، بل هو في الأساس عمل ميداني دقيق يهم عسكريي فرنسا في الجزائر، يستحث همهم لبدء غمار الخوض في إحياء المجد الروماني وتكوين الامبراطورية الفرنسية في الشمال الإفريقي …كتاب أتى محملا بأربع صور وزهاء المئة وواحد من الرسومات والأشكال التخطيطية، علما بأن لهذا الكتاب جزءا ثانيا معنونا ب»إرشادات» Renseignement أضفى عليه طابعا علميا.
يتضمن هذا الجزء الثاني معطيات ذات طابع كمي، وجردا إحصائيا دقيقا حول البنادق والخيول والمسالك، والمراحل التي تفصل بين المناطق، مما يجعله دليلا جغرافيا للجهات التي ستنهض بمشروع الاستعمار ، إلى درجة أن الأوساط الجغرافية الفرنسية استقبلته بالحفاوة والإشادة نظير الجهد الضخم المبذول من طرف دوفوكو.
يصادف الباحث في ربائد الإستوغرافيا الفرنسية، وخاصة في الأعداد التي سهرت على إعدادها مؤسسة البعثة العلمية مفتتح القرن العشرين، تردد مقولة لويس ماسينيون عن كتاب شارل دوفوكو غير ما مرة «…إنه العمل، بل المرجع الأساسي الذي يجب الرجوع إليه دائما.. «.
ظلت هذه المقولة تستحكم مُدبري لحظة الحماية الفرنسية بالمغرب، بل ويمكن المجازفة بالقول إن كل ما كتب في فترة الحماية، لم يصل إلى مستوى هذا الكتاب .
تكمن فرادة كتاب «استكشاف المغرب» في كونه عبَّر عن طموح مغاير، قطع مع تقليد أدبي وفني ارتسم في أذهان الفرنسيين منذ سقوط الجزائر، ولفرط تكراره صار عقيدة في التأليف الغرائبي الفرنسي، قد تتبدل أسماء المغامرين ومواقيت الرحلات دون أن تتبدل الصورة الثابتة حول المغرب…صورة المغرب السائب، المرادف للثورة البربرية الناشئة عن التعارض بين البربري والعربي، بين السهل والجبل، المدينة والبادية …شطر يرغب في أن يظل محافظا على تمرده المزمن، وشطر يرغب في الانضمام إلى المخزن «…حوالي خمسة أشهر، قاد السلطان المولى الحسن حركته تجاه تادلا، وعندما اقترب من قصبة بني ملال، فرَّ كل من كان متمردا، وكث كل من كان خاضعا للمخزن…» فهل كانت سيبة القرن التاسع عشر التي رصدها شارل دوفوكو ذات منشأ سياسي أم اقتصادي ضريبي؟ هل كانت هذه السيبة كما تدعو إلى ذلك تيريز بنجلون تعبيرا عن تمرد سكان المدن والبوادي أم تعبيرا عن تسلط الزوايا؟ وهل كانت تنجم عن إيديولوجية بديلة لإيديولوجية المخزن تضعه بالتالي في حالة خطر وزوال؟
تمكَّن دوفوكو من صياغة رؤية جديدة؛ رؤية مغربية تستقي معطياتها من عمق الميدان، وتختلف عن صور الرحالة الذين سبقوه إلى المغرب، مدشنا لحظة البداية، بداية الاهتمام العلمي الميداني حول المغرب، بخلفية عسكرية واضحة ترسم مسار جيوش تنتظر شارة البدء .
عودة إلى مضامين الكتاب، كتاب «التعرف على المغرب» يحوي في مصفوفاته يوميات السفر، يوثق رحلة مغامر جسور دخل بيئة محفوفة بالمخاطر، في وسط يغلي بعدائه التاريخي للمسيحي…رحلة جغرافية تشوف من خلالها دوفوكو إلى استكشاف بلاد السيبة «…لا وجود هنا للسلطان ولا للمخزن، بل لا وجود سوى لله ولسيدي داوود…»، برؤية فنية وعلمية لا تخطئها العين، ولعلَّ هذه الملاحظة هي ما ستجتذب إليه حتى قراء لغة شكسبير . أراد صاحبه أن ينصب نفسه ضمن فيلق الفاتحين الأوائل للمغرب، يهدي لاحقيه لمعرفة أحوال المغرب المجهول .
يظهر كتاب «استكشاف المغرب» كما لو أنه عمل تمهيدي حول سيكولوجية المجتمع المغربي، يعمد من خلاله إلى جس نبض المغاربة حول احتمالية تقبل فكرة الاحتماء بالأجنبي في المناطق التي وصفها بالرافضة للحضور المخزني…
يجنح دوفوكو أحيانا إلى أسلوب الإضمار والتواري، مفضلا عدم التدخل المباشر في معلوماته وملاحظاته، مقتصرا على الإمعان في التقاط وأخذ وتسجيل معلوماته حتى يكتمل لديه الوصف الجغرافي بالاجتماعي للمناطق التي عبرها .
من حق البعض أن يحترس من شخصية دوفوكو المركبة، رجل المسارات الملتبسة، فيقرأ فيه الجندي والناسك والاستخباراتي والجغرافي…جعله البعض من الأصوات المدافعة عن أنسنة الاستعمار، المتلافية لتلك السيناريوهات الدرامية التي قلبت الاستعمار إلى مُدان في كثير من مناطق العالم. كما جعل منه بعض آخر داعيا إلى الاستعمار عن طريق التفتح الإنساني والحضاري …»إذا لم تنهج فرنسا سياسة إدارية جيدة تجاه سكان مستوطناتها، فإنها حتما ستفقدها… «، وفي موضع ثالث ألبسه البعض جلباب الحامل لمشروع بيداغوجي استعماري ذي آفاق واسعة، دوفوكو الناصح والمرشد والدليل «…يجب التقرب من السكان من أجل خلق علاقات معهم، حتى يغيروا نظرتهم تجاهنا، وذلك عن طريق الحوار…وإعادة تربيتهم تربية روحية بإعداد المدارس والاعداديات، كما يجب أن نمنحهم نفس التربية التي نتلقاها داخل المنزل الفرنسي… «، كما يرتسم عند البعض بلقب «زاهد الهكار»، صاحب مشروع تنظيم الواحات الصحراوية فكريا وروحيا .
يجب أن يستند كل مشروع لإعادة قراءة رحلة شارل دوفوكو إلى السياق العام الذي تنتمي إليه، سياق المعرفة التي سبقت الغزو، والقلم الذي أتى بعد السيف…أَوَ لم يكن هذا المشروع في أساسه مثار تصادم حاد مع رواد الأرثوذكسية الاستعمارية التي رفضت فكرة الأخوة المثالية التي كان يدعو إليها الأب دوفوكو ؟ أوَ لم تكن هذه الرحلة سر نجاح الحملة الفرنسية على المغرب مع ليوطي؟


الكاتب : ذ: مولاي عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 27/05/2022