شاعرية الحرف وامتداداته في تجربة نور الدين العسري

ارتبط الحرف العربي تاريخيا في بداياته بالمعمار في إطار ما هو جمالي، وبالتحديد في الأماكن المقدسة الخاصة بالعبادة، مجاورا للزخرفة الإسلامية على شكل جمل ونصوص قدسية ضمن وحدة فنية متكاملة في إطار فسيفساء مبنية على نسق هندسي، أبدع فيها الفنانون العرب بطريقة جماعية انصهرت فيها الذوات، فأصبح الحرف جزءا أيقونيا في علاقته بالعناصر المكونة لمحيطه من توريقات وزخرفة وأشكال هندسية مبنية على وحدات رياضية دقيقة، تعكس نظرة موحدة لثقافة عربية إسلامية في بعدها الشمولي، وبما أن سلطة الحرف والكلمة كانت هي السائدة آنذاك، انتبه إليها التشكيليون المعاصرون في العالم العربي، نتيجة اهتماماتهم بأسئلة تمتح من الهوية في بعدها الوجودي، مباشرة بعد خروج الاستعمار، للتخلص من هيمنة الاستلاب الغربي بثقافته وعولمته.
فإذا كان الفيلسوف (أفلاطون) قد قام في إمبراطوريته العاشرة بطرد الأدباء وخاصة الشعراء منهم، واحتفظ بالفلسفة لكونها تملك الحقيقة المطلقة دون غيرها، فإن التشكيليين طردوا المعاني التي تتضمنها الكلمات للاحتفاظ بالحرف مجردا بعيدا عن التأويل المتعلق بالمضمون، والاحتفاظ فقط بالمفهوم الدلالي والرمزي، وعكس هذا ما سنراه لاحقا مع التشكيليين العرب الذين سخروا الحرف في خدمة الصورة استنادا للمرجعية التاريخية في بداياتها مع (الواسطي)، عندما استشهدوا بنصوص شعرية في أعمالهم الإبداعية بحثا عن أفق مغاير منفتح على أجناس مغايرة أخرى، منتصرين لقول «جاك ديريدا» بأن «الفلسفة ليست إلا فصلا من فصول الأدب».
وبما أننا أردنا من خلال هذه الدراسة أن نركز على تجربة معينة تتعلق تحديدا بمغامرة الفنان نور الدين العسري، فلأننا وجدناها تستجيب لكل مواصفات الفعل الإبداعي الخاضع لكل التغيرات التي عرفها الخط العربي، لدرجة التماهي مع ما جاءت به هذه التحولات من أسئلة حقيقية تصب في معين الهوية التي كان يبحث عنها، طبعا مع الحفاظ على المقومات الإستيتيقية الضامنة لتلك الجمالية القدسية التي جمعت بين المادي واللامادي.
عرف الخط العربي اهتماما بالمعنى في بدايته واللامعنى في ما بعد ذلك، لكن تجربة نور الدين العسري احتفظت بالمعنيين، فالمعنى الأول كان رهينا بالدلالة الموضوعيىة لارتباطها بوجودية فحوى المقصدية المرتبطة بالانتماء، بينما المعنى الثاني له علاقة بفراغ المعنى اللغوي، وهذا ما وصلت إليه كقناعة، (جماعة البعد الواحد) العراقية، حي أفرغت المعنى اللغوي لتحتفظ بالمعنى الدلالي القائم على المكونات الفنية والتقنية، لينسلخ هذا النوع من التعبير عن كل ما له ارتباط بما هو أدبي، إلا في حالات معينة، أي عندما يصبح الخط في خدمة القصيدة الشعرية.
إن تجربة نور الدين العسري أرادت أن تكون لها عوالم ذاتية بعيدا عن كل هذه التصنيفات مع اعتناق لذة المتعة في معاناة التكرار حد التصوف، ومعانقتها لفضاءات روحية خارجة من رحم الهندسة المغربية الأصيلة، المنبثقة من معادلات هندسية جبرية وأخرى رياضية، التي تفاعلت فيها الذوات لتصبح ذاتا إبداعية واحدة، فكان حضور المربع والمستطيل والدائرة… رمزا لكل هذه التفاعلات الفضائية النابعة من رحم المساحات الداخلية والخارجية للهندسة المعمارية المغربية العربية والإسلامية.
فما يصبو إليه الفنان العسري من خلال هذه التجربة، هوإثبات بعض التوافقات بين الأشكال في إطار إبداعي يعتمد الحس والعقل، تلك الأشكال التي يفيض بها الخط والمعمار معا، في إطار وحدة متناسقة ومتجانسة تدل على كمالية الخالق في صنع ما يحيط بالعالم.
لم يكتف الفنان نور الدين العسري بالشكل والفضاء كموضوع، بل أراد أن يضيف عاملا فنيا أساسيا ليكمل الرؤية الجمالية لتجربته وهو اللون، لما لهذا الأخير من تأثير كروماتيكي وخدعة بصرية على التقلبات المرئية التي تحدثها التقابلات الضوئية عند التقاء النور والعتمة، لتفرز متناهيات لونية بدون حدود حسب طبيعة الموضوع المطروح وتجليات الألوان وتفاعلاتها في ما بينها. وبهذا استطاع الفنان العسري بأن يضمن لتجربته خصوصية لافتة من خلال ملون محدد وموحد، نظرا لهيمنة اللون الأحادي في بعض الأحيان واستغلاله لأجل شفافية مغرضة ساهمت في تأثيث السند مع خلق أبعاد مشهدية وتراتبية كامتداد في الزمان والمكان.
«الفن يقتضي منا البحث في منطق الصيرورات والتحولات والتصاديات» كما قال المؤرخ (يوهاشيم فاينكلمان)، ولهذا نجد حسب رأينا بأن صياغة هذه التجربة لا تخلو من هذه التحولات والتصاديات، بما أنها تحتوي على مسكن لها.
وبما أن «اللغة مسكن الوجود» على حد تعبير هايدغر، فإنه يمكن للحرف أن يكون مسكنا لرهان على تجربة تستحق معاناة البحث الدائم لفرض ذاتها كما هو الحال في أعمال نور الدين العسري.

*على هامش معرض الفنان التشكيلي نور الدين العسري بفضاء مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين بالرباط، ابتداء من يوم الخميس 03 يونيو 2025 في الساعة السادسة مساء إلى غاية 31 يوليوز 2025.


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 03/07/2025