يحق لفاس العالمة أن تحتفي بهذا الصرح الشعري الوازن، الرجل الذي نعرف كرم خلقه قبل علمه وفكره، يملك تواضع العلماء وبصيرة الأدباء وخبرة النقاد، إنه الشاعر نور الدين حيمر السفياني الذي أفصح عن رواء شعره، بعد سنوات طويلة، نظم فيها قصائده كلمة كلمة، وبيتا بيتا، إذ يجنح مجنح الخيال حين يتأمل، ويكتب عن الرؤيا عندما يرى، ويصور مشاعر الذات عند الفرح والأسى، الشعر عنده خال من التكلف والغموض، عميق الدلالة، يثيرك عندما تلفظه فيعلق بالذاكرة، ليصير نشيدا خالدا، ومرد ذلك إلى حب في التأمل، وروح مرحة غارقة في التروي والتعقل، متزنة واضحة الأفكار، دائمة الفكر والإحساس والشعور، يغمرها الأمل والتفاؤل، والتفكر في الموت والحياة، فطوبى لنا بشاعر ينسج على منوال الشعراء المتقدمين منهم والمتأخرين، رجل يقدر القصيدة فيعطيها حقها ويقدر القراء إنصافا فيحفظون من شعره، وينهلون من أخلاقه ومعارفه.
«قيثارة القمر» للشاعر نور الدين السفياني هو ديوان شعري أنتجته عوامل متعددة طبعت مسيرة الشاعر الثقافية والفكرية والوجدانية والقومية، إنها الزخم الشعري الثري لسنوات من البحث والمعرفة والإطلاع، فجاء فهرس كتابه مقسما إلى ثلاثة مقاطع الأول مقطوعات ثمانينية والثاني مقطوعات تسعينية والثالث مقطوعات حديثة… إن الشاعر نور الدين حيمر شاعر مثقف أصيل وناقد متميز واكب الحركة الشعرية بالمغرب خلال السبعينيات والثمانينيات، تلك المعركة الشعرية التي بدأت بداية متعثرة لتعانق المجد الإبداعي خلال الثمانينيات، بل هو انعكاس لجيل بكامله تغذى من عديد الحركات والروافد الفلسفية والشعرية السابقة…
في ديوان «قيثارة قمر» الصادر عن دار مقاربات للنشر طبعة 2019، والذي قدم له الشاعر والناقد والخبير التربوي الأستاذ أمجد رشيد أمجدوب بعبارة «شاعر يقبض على وعود القصيدة»، تثيرك لوحة غلافه وهي من اختيار الناقد العراقي كريم سعدون ، إذ يظهر القمر الناصع يضيء الليلة المظلمة والسماء الصافية الزرقاء، أما في أسفلها وعلى يمينها فتمتد الأوتار على نسق منظم في انسجام تام مع العنوان، اللوحة تعبير عن موسيقية القصائد المبثوثة في الديوان وعن هدوء الليل وسكونه، وهو وقت للسمر والإنصات لكلمات القيثارة وجمال القمر ومصابيح الليل…
الليل
وقناديل متعبة
كخريف العمر
و وهاد الصمت وليلى
تخطر في حلل الورد *
الشاعر يكتب عن معاناته الدائمة وفي خضم معاناته،تحيى معاناة جيل بكامله، بل أمة بكاملها، ينبوعه الذي ينهل منه هو الصدق الشعري، والفكر والثقافة التي تشبع منها طريقه الخصب نحو صقل الصنعة، صنعة الأدب والفكر، إنك عندما تقرأ قصائد الشاعر نور الدين حيمر، تلك القصائد المختلفة التي تبلورت بوادرها خلال الثمانينيات، ثم تطورت خلال التسعينيات ناضجة محلقة في خيال الشاعر الفسيح، والتي ظلت حبيسة مذكراته، ليعود هذا الشغف مع الطفرة الشعرية القوية التي اكتسحت المشهد الثقافي، معلنة كل التحرر مرفرفة تكسر كل القيود، فكان من الطبيعي أن يعود الشاعر إلى شعره ذاك، بل سيكون شعره الحالي امتدادا للسابق، بل تجدد للعشق الذي ظل يراوده للشعر، فيكتب لنا قصائد تختزن التجربة، وتسائل الخيال، وتعمق الصور على نحو بديع من النسج التشكيلي للقصيدة، تلك القصيدة المتأثرة بتشعب الأسطورة والرمزية خلال الثمانينيات، والمحملة بطموحات التغيير والرؤيا خلال التسعينيات، والمفعمة بعمق المعنى وأصالة اللغة في العصر الحالي…
تدل كلمة قيثارة على القيتار وهو في الأصل آلة طرب ذات ستة أوتار، أما القيثارة فهي أثر النغمة التي تتركها آلة الطرب و العزف في خلد الإنسان، الخاصية التي تميز الشعر، إذ بها يلتقي مع الموسيقي، فكلها تطرب السامع و تتيح له معانقة المعنى الذي يحلق في سموات الإبداع، أما القمر فيرمز للعلو والرفعة والضياء والتجلي، وكلها معان تصدق على الشاعر، بل إن القمر مكانه الارتفاع والعلو إنه الجرم السماوي الذي يدور في مساحة كبيرة في سماء الكون، بلون أبيض شديد وناصع الذي يضيء الليلة الظلماء الدامسة فيحيلها ضياء يستنير بضوئها كل عابر سبيل، أو منقطع الطريق…
ودلالات هذا المعنى في علاقته بالديوان قيثارة القمر، أن الشاعر حمل هم الكتابة أضاء بها ليل تجاربه المتعددة، بل إن الليل هو الملاذ الوحيد الذي يلوذ به الشاعر في أحلك الظروف يشتكي له معاناته، ويناجيه بكل ما يحفل به المعجم من كلمات ومعان، فيحول المعاني الغامضة البعيدة المرامي المكللة بالخيال، إلى قصائد ذات مغزى فكري وجداني يتدفق منها الإحساس كما عرفه الشاعر أول لحظة، إنها قيثارة للعزف على أوتار الحياة المتمخضة من كنه التجربة، وثقل العبارة، يعزفها فيدور بها على الأفلاك كالقمر لتنير شذى الوجدان عند قارئها، إنه ليحدو بك الإحساس وأنت تقرأ هذا الشعر الأصيل والحق، وأن كاتبه بأخلاقه يلمس شغاف القلوب قبل العيون، غالبا انسيابية المعنى وصدق الكلمة لا تتاح إلا للصادقين، إنهم الأولياء والصالحون، الذين تترعرعوا في خضم تلك المعانات مع الكلمة والقصيدة …
وتداهمني الذكرى
كالمارد تأتي
كالعاصفة الرعناء
كأنين الناي في غسق الليل *
قصائد الشاعر نور الدين حيمر في بدايتها مثقلة بأناشيد الذات، ورقة المعنى ونصاعة اللفظ، إذا أن هناك تناغم بين المعنى وجمالية اللفظ، فالقصيدة تشد انتباهك وتأسر قلبك حتى النهاية، إنه السحر الذي يكمن في جسد القصيدة، إليك مطلع قصيدةالثمانينية «لعينيك»:
لعينيـــــك أنســج وهـــــــــــج النشيـــــــــــد لعينيــــــــك أكتــــــب حلو القصيـد
في عينيك يا أخت طير تسامى مهيــــض الجناح صموتا شريد
في عينيـــــــــــــــك يا أكـــــــــرم أنجــــــــــــم تنيــــــــــر دروبا كســـاها المغيـب
في عينيــــــــــك يا أكـــــــرم كوكـــــــــــب ترامــــــــى سنــــــــــــاه بعيــــدا بعيــــــد *
تجربة غنية بالدلالة، يجد فيها الناقد والمتأمل والشاعر على حد سواء ضالته، فالشاعر استفاد من مكونات الرمز الطبيعي والديني والتاريخي، من أساطير ومدن عربية كرموز وتأملات في ماهية الموت كما يظهر في العصر الحالي، التشعب الثقافي هو الذي يحكم تجربة الشاعر…
مراجع:
ديوان «قيثارة قمر» للشاعر نور الدين السفياني حيمر، الصادر عن دار مقاربات، فاس، للنشر الطبعة الأولى 2019م.