شخصية الفنانة التشكيلية المغربية سعيدة الصقلي من خلال أحد أعمالها الفنية

جاءت هذه القماشة بنون النسوة ، على شكل فسيفساء ، تتكرر فيها المفردات والشخوص ، وتتشابه ولا تختلف إلا من حيث لون اللباس ، و ذلك لإضفاء الشمولية ، وتفادي الإمعان في الخصوصيات ، وتحديد الهوية البصرية سيما و أن التشكيلية المغربية سعيدة الصقلي تتجنب من خلالها تقديم رسومات جوفاء يطبعها الجمود أو بورتريهات الواقعية المفرطة التي تخلق الدهشة اللحظوية ، و إنما تتناول المرأة كتيمة ، وذلك بأسلوب متفرد وعصري ، يتأرجح بين الواقعية والتجريد التعبيري ، و تحتفي بها بطريقتها الخاصة ،حيث تعتبرها مصدر إلهام للتفاعل و الإحساس ، و لذلك أرادتها أن تبدو أمامنا من خلال هذه القماشة في كل حالاتها الطبيعية ، متأملة و منفعلة و تائهة ، و كذلك ملتحفة بألوان متنوعة ، فيها كثير من الجمالية ، تأخذ صفاءها و نعومتها من أكريليك ، يصنع اللمعان ، ينبثق منه ضوء يقلص من قوة السواد ، يزيح الوحشة عن فضاء خشن وبارد ، تغيب فيه الشمس ، فيبعث فيه الدفئ و الأنوثة ، ويذكي الصراع الأبدي بين القبح والجمال ، و لذلك حضر الأصفر بإشعاعه ليزيد المشهد رونقا و يمنح اللمعان لأزرق أنثوي يحيل إلى الخصوبة ، ويذكر بالاستمرارية ، والسمة الكستنائية لبني فاتح يشير إلى ما يطبع هذا الإنسان الجميل من رزانة و غموض ، و كذلك ما يتسم به من تفاؤل ، يختزله هذا الإشراق الذي يبدو على الوجوه البشوشة وتعبر عنه تلك الابتسامة المتكررة على الشفاه التي تضفي على الأجواء سحرا يجعل الرائي يشعر بالارتياح والأنس منذ أول نظرة ، وبتلك العفوية التي تميز شخصية مبدعة لا تبحث فقط على الإمتاع بقدر ماتحرص على الإدلاء برأي ، أو عرض أسلوب يأخذ ميزته من ذوقها الرفيع في انتقاء الألوان ، و استغلال الفراغات خاصة من خلال مفردات تبدو متشابهة من حيث منظرها ، وحجمها ، و حتى هيأتها لتتقمص وتمثل شخصا واحدا لا يختلف في جنسه اثنان ، لا يمكن فصله عن عالمها الخاص ، المفعم بالأنوثة والأحلام ، وطبعها الذي ينبذ العزلة و الخلوة ، و يعكس ما تكنه للمرأة من حب وتقدير ، تبوح بذلك ملامح فنية تعكس أحاسيسها وميولاتها النفسية ، و تؤكد اعتزازها بكونها من الجنس اللطيف بدون تلك النرجيسية التي قد تمنحها الشعور بالترفع والاستعلاء ، و ذلك ليس من طبعها ، فهي تنظر إلى الأشياء ببساطة ، إذ تعتبرها مبعث الارتياح والسعادة ، فعملت على توضيح ذلك بلغة تشكيلية معاصرة ، وبأسلوب ساذج ، يتجنب التعقيد والغلو في الرمزية المتعبة ، ويبعث على الارتياح ، أساسه ألوان طبيعية و مشعة ، تمنح اللوحة خاصية ، يطبعها الوضوح ، تحضر فيها الكثير من الشاعرية ، ويختفي فيها القبح و البشاعة ، و تحضر فيها نوعا من السريالية الحالمة ، مما يغري بالغوص في عمقها للبحث عن جزئيات تصنع الكمال.فاللؤلؤ لايوجد إلا في الأعماق كما يقول الشاعر الإنجليزي جون درايدن. فالجزئيات هي تلك الضربات. ضربات الفرشاة العنيفة التي طبعا لايتم رأيتها إلا بالإمعان ، حيث تبدو على شكل خربشات ، تشكل خيطا رفيعا يربط الواقع بالخيال وتأخذ جماليتها من لوحة الجوكاندا ، تأخذ حيزا مهما لتبصم على الخلفية وتجعلها غير مسطحة ، تزيح عنها الصلابة والجمود والصمت السلبي وتختزل ردة الفعل ، و تجسد كذلك الانتفاض ضد واقع مظلم ، يرفض التخلي عن الانفراد والأنانية ، وهذه الأشياء هي التي تصنع التوازن بين المرئي واللامرئي إلى جانب الكتلة المشكلة عمدا بعشرين عنصرا ، عدد يحيل إلى سن الشباب و القوة و العنفوان ، يتقاسمه طبعا الذكر والأنثى بالتساوي بدون تمييز وهو قناعة راسخة عند فنانة تلقائية و عصامية ، منحدرة من مدينة فاس ، لازمها شغف الرسم منذ نعومة أظافرها ، لكنها تفرغت إلى هذا الفن الراقي بعد تقاعدها ، فأصبح بالنسبة لها سبيلا لتحقيق ذاتها والخروج من الروتين اليومي ،فقامت بعرض أعمالها بعدد من مدن المملكة ، وكذلك بالولايات المتحدة وتونس واليونان وفرنسا وبريطانيا والإمارات العربية المتحدة وتركيا والبرازيل ، وغيرها من البلدان الأجنبية ، مما مكنها من فرض شخصيتها وأسلوبها الفني ، ولذلك يتم التعرف على أعمالها بسهولة لما تتسم به من أسلوب خاص ، قائم بذاته ، لا يوظف الأشياء بعينها ، بل يوحي إليها ، يعتمد على ألوان طبيعية ، وأشكال ، تستمد خصوصيتها من عالمها الخاص ، يلاحظ ذلك في هذه اللوحة بالذات التي تم إنشاؤها على أساس تكرار نفس المفردة ، بشكل يضفي عليها إيقاعا لا يطاله أي تذبذب ، وصياغتها انطلاقا من دوائر تحيل إلى الاستمرارية والحركية ، و أقواس مستوحاة من بيئتها الأصلية و ما تزخر به من زخرفة ، وسحر اللون ، تعبر عن شخصية هذه المبدعة التي تتميَّز بعفويَّتها وتِلقائيتها ونظرتها المعمقة ، ولمَساتٍها الرقيقةٍ التي منحت جمالية لرسم يجسد الحلم ، وكل شيء جميل ، ويعبر عن تأملات وذوق فنانة رقيقة.


الكاتب : عبدالسلام صديقي

  

بتاريخ : 10/05/2023