العمل الإبداعي الجديد للشاعرة مينة الأزهر «تتمنع عني العبارة» يمكن اعتباره إضافة جديدة للمدونة الشعرية المغربية إلى جانب تجارب أخرى تساهمفي تطور النسيج الشعري المغربيو تأسيس تقاليد جديدة، وإبدالات معرفية وجمالية تنعطف بالنص الشعري من عمودية النسق وسلطاته الداخلية المهيمنة نحو أفق الذات الحاضرة أمام العوالم الخارجية.
جنست الشاعرة هذا العمل على أنه” ومضات شعرية”، مما يعبر عن وعي فني وجمالي وامتلاك القدرة على خوض مغامرة تجريبية من شأنها أن تؤشر على تطور الكتابة الشعرية المغربية الحديثة، وفي نفس الوقت يلزم هذا التجنيس القارئ أو الناقد بالتعامل معه ومساءلة منطلقاته ورؤاه الاستشرافية من خلال هذاالميثاق المعلن من طرف الشاعرة. يتضمن الكتاب مائة وثمانية وخمسين ومضة شعرية موزعة على جزئين، يحمل الجزء الأول عنوان: صفصافة البيت العتيق خدشتها الخيبات، ويحمل الجزء الثاني عنوان: غامت وستمطر. تتكون معظم الومضات من ثلاثة أسطر قصيرة على طريقة التشكيل الشعري للهايكو الياباني ، ويمكن اعتبار هذه الكتابة نموذجا للكتابة الشعرية الحداثية التي بدأت تتجذر عند الشعراء والمبدعين العرب منذ مطلع القرن العشرين. فقصيدة الومضة التي تتأطر ضمن ما أصبح يسمى بالأدب الوجيز، هي إحدى التجارب الشعرية المتقدمة في الكتابة الشعرية العربية المعاصرة وتعكس توجها فكريا سعى إلى مواكبة إيقاع الزمن الحاضروتحولاته الذي هو زمن الاختزال والاقتصاد في كل مناحي الحياة البشرية..تتميز الومضة الشعرية بمجموعة من السمات الفنية التي تشبه في أغلبها خصائص الكتابة الشعرية بصفة عامة، مع الاختلاف في الدلالات الجديدة والأبعاد التي يمكن أن تكتسبها هذه السمات في إطار التحولات التي عرفها القول الشعري الجديد.مثل الإيقاع، الإيجاز، المفارقة، الإيحاء، البنيةالتقابلية، التكثيف والدقة في التعبير، بالإضافة إلى عناصر أخرى مثل الصدق والعمق والمتعة والمفاجأة والإدهاش…
ظهرت قصيدة الومضة بصورة واضحة في سبعينات القرن العشرين من خلال تجارب بعض الشعراء أبرزهم الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة الذي يعتبره النقاد أول من دشن هذا الشكل في الكتابة الشعرية وسماه قصيدة التوقيعة، أو القصيدة القصيرة جدا..لكن لابد من الإشارة في هذا الباب ولو بإيجاز إلى النقاش الدائر حول طبيعة الأدب الوجيز هل هو مرتبط بإيقاع العصر كما يرى البعض، أم أن له جذورا في الشعرية العربية القديمة، فهناك من النقاد من ذهب إلى أن الومضة الشعرية متضمنة حتى في القصائد المطولة، خاصة في القصائد التي تتضمن حكما وأقوالا مأثورة .ألم يقل الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى في معلقته: لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدّمِ. واعتبروا أن الشطر الأول هو عبارة عن ومضة شعرية مستقلة بذاتها وتعبر عن معنى مكتمل .كما ذهب البعض إلى حد إرجاع هذه الإشكالية إلى ماسماه نقاد الشعر القديم بالتضمين، باعتباره أحد عيوب القافية والذي يتجلى في عدم إتمام البيت الشعري إلا بما بعده…أشير أيضا إلى حركة الأدب الوجيز التي ظهرت في السنوات الأخيرة في لبنان تحت إشراف الشاعر اللبناني الراحل أمين الذيب الذي عمل قبل وفاته على عقد مؤتمر تأسيسي حول الموضوع شارك فيه العديد من الشعراء والنقاد من مختلف البلدان العربية من بينها المغرب، وتم إصدار كتاب يتضمن دراسات نظرية وتطبيقية في الومضة الشعرية وفي القصة القصيرة جدا التي أطلق عليها المشاركون في الكتاب نعت القصة الوجيزة .(وقد اعتمدت شخصيا على هذا المرجع لقراءة الكثير من التجارب الإبداعية في موضوع الأدب الوجيز).
بالعودة إلى عمل مينة الأزهر أقول بأن عنوان الديوان “تتمنع عني العبارة” بماهو عتبة أساسية تسهل على المتلقي ولوج عالم النص، ينهض على مفارقة تكشف في الظاهر ضيق العبارة وتمنعها وتضمر في الباطن اتساع الرؤية وتوهجها وهو ما يحيلناعلى العبارة الشهيرة للصوفي عبد الجبار النفري صاحب كتابي :”المواقف والمخاطبات”، حيث جاء في (موقف ما تصنع بالمسألة) رقم ثمانية وعشرين : “أوقفني وقال لي إن عبدتني لأجل شيء أشركت بي. وقال لي كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. وقال لي العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه. وقال لي إذا لم أسو وصفك وقلبك إلا على رؤيتي فما تصنع بالمسألة، أتسألني أن أسفر وقد أسفرت أم تسألني أن أحتجب فإلى من .
اتساع الرؤية هو امتلاك القدرة على سبر العمق واستبصار المنغلق، وهذا أمر يحتاج إلى اقتصاد في التعبير وتكثيف في المعنى يكشف بقدر ما يخفي وينطق بقدر ما يحجم عن الكلام..التمنع دلالة ظاهرة على هذه المفارقة بين اتساع الرؤية وتمنع العبارة..تقول الشاعرة في الومضة الأولى:
كل الخيبات تترصدني،
وحدها ريح روحك
تحسن مزاجي.
إن هذا التضاد والتقابل بين الخيبات وتحسن المزاج هو المؤشر الأساس على آلية المفارقة التي هي إحدى سمات الأدب الوجيز خاصة الومضة الشعرية، لكن قارئ الديوان يكتشف بأن هذه المفارقة تسري ليس فقط على الومضات بل على الهيكل العام للديوان، بين الجزء الأول والجزء الثاني، حيث نعثر على توتر دلالي عبر التضاد بين حالتين تعكسان تعارضا واضحا في الأوضاع النفسية للذات الشاعرة.ففي الجزء الأول يتجلى ضيق العبارة في رصد كل الخيبات التي تواجهها الذات الشاعرة، معبرة عن هذا الوضع في قالب وجيز وبشعرية عالية على أنها فشلت في كبح يأسها وغرقت في الرتابة تناجي الصمت وتنتظر الغيت طويلا .تصف الشاعرة ذاتها وهي تعانق التيه وتدفن توترها عند عتبات الحزن ولم يبق لها سوى ترتيل هذا الشقاء، وماذا بيدها أن تفعل؟ فحتى الأحلام خانتها وأضحت تتراءى لها وهي مبللة برذاذ الخيبة. ترتدي الذات الشاعرة فستان الأناة أمام احتراق ورد العمر ونزيف ذاكرة تشاكس الهواء عند عتبة النبض.تنصت للكمان يحكي جرحا نديا… تحفل هذه الومضات بمعجم مليء بمفردات اليأس والأجواء المعتمة التي تغلف الروح والجسد. مثل مفردات الغياب..الصمت..الدجى..الاندثار..الألم..الشحوب..الدمع..التعب..الحزن..الضمور..الحصار..التشظي..الحرج..الاحتراق..الضياع..الخيانة..النزيف..الارتجاف. ينتهي الجزء بومضة تحمل رقم 61 تدل بصورة قوية على هذه الحالة النفسية الإنسانية تقول الشاعرة:
على أقدام الخيبة،
أنام ملء الجفن…
جل أفقي قاتم
لكن سرعان ما تتغير الموازين في الجزء الثاني الذي يتضمن أغلب ومضات الديوان وعددها 97 تحت عنوان: غامت وستمطر، بحيث طفت على التشكيل الشعري للديوان صور حالة نفسية جديدة تنتصر للأمل وجحافل الضوء التي تحرسها الذكريات البعيدة.تبدأ بالومضة رقم 62 التي تقو:ل
في رماد السنين
أشيعها بتمهل،
بسمة تطل على الذكريات.
انطلاقا من هذه الومضة تتحول الكتابة الشعرية إلى سجل حافل بانتصار الذات ومحاولة كسر العزلة والانفتاح على العالم، تتحول ذات الشاعرة إلى زهرة عباد الشمس تقتفي أثر الأشعة.في فضاء جديد تنتعش فيه الذاكرة ببذرة أمل وهي تجمع شتات العبارات. في هذه اللحظات المتوهجة تحتفل الذات الشاعرة بالجسد وهو ينضح بالحياة وبالدماء الجديدة. هكذا تتسلح الذات الشاعرة بطاقة إيقاعية مغايرة عكستها مفردات التحدي.
تقول الومضة 87:
في لجة الوجوم،
أرقص
والأكمام المتدلية
من غرفة الذكريات.
سمح هذا الوضع الجديد للذات الشاعرة بلملمة أشلاء الوجدان وردع الشقاء وعلى صهوة الأماني تغزل أفقا من خيوط نظرة، وتغالب الهواجس بين سماء العقل وسحاب العاطفة. وعندما يبسط طائر الفينيق راحة يد الحياة لايمكن للذات الشاعرة أن تتجاهله. في المشاهد الأخيرة للديوان بدأت الذات ترنو نحو الضياء تستبشر الحبور تلامس بشرة الروح وتسكنها الكلمات.. هنا انحلت عقدة الضيق وأعلنت الشاعرة في الومضة 146
على أعتاب الفرح
فتنتني الحروف،
سلوان الكلمات،
الورد وعبقه.
هيمن على هذا الجزء معجم مضاد من المفردات التي تشير إلى اتساع الرؤية والانطلاق نحو آفاق جديدة مثل الفردوس.الاشتياق.الأمل.الرجاء.الضياء.الحرية.الأماني.التوهج.الرقص.العز.التحدي.الفجر. الفرح.الصمود.النور.الصبح.النشيد.الحبور.البهاء.الأفق.
يمكن أن نسجل أنه بالرغم من هذا الانفراج الذي عكسه الجزء الثاني، فإن الكتابة الشعرية في الديوان لم تتحرر نهائيا من ضيق العبارة التي توارت خلف المزيد من المترادفات اللغوية التي ساهمت بشكل واضح في إغناء هذه التجربة الوجودية والنفسية، والتي سمحت للذات الشاعرة بتحمل هذه الخيبات عبر هذه الجدلية بين ضيق العبارة واتساع الرؤية.
من جهة أخرى نجد أن هذه الومضات تتقاطع مع كتابة شعر الهايكو في كثير من المحطات، خاصة تبنيها للجمل الثلاثية القصيرة، نادرا مانجد بعض الومضات التي تتعدى ثلاثة أسطر. ما يجعل هذه الومضات أقرب إلى كتابة الهايكو هو الحضور القوي للعناصر الطبيعية، فنحن أمام عالم طبيعي بامتياز، بالنظر إلى المعجم الطبيعي الذي يتسلل بين الأسطر عالم السماء والأرض والنباتات والغيوم المطر عالم النهر الحزين والبحر الهائج..تتحرك الطبيعة بشكل قوي وسريع وفقا للإيقاع الذي تقتضيه كتابة الومضة: …مع حضور قوي للإدراك الحسي للواقع..لكن ما يبعدها هذا النوع من الكتابة هو غوص الشاعرة في أعماق النفس ورصد الحالات الوجدانية المرتبطة بالذات وجراحاتها المتعددة التي تتعدد بدروها بتعدد المشاهد الشعرية ..من هنا يمكن القول بأن الشاعرة مينة الأزهر استطاعت في هذه الومضات أن تنجز توقيعا شعريا ذا طابع انفعالي يقوم على المفارقة على مستوى المبنى والإيجاز المكثف على مستوى المعنى..بالإضافة إلى الطابع البلاغي للمفارقة التي طبعت بوضوح هذا الديوان في جزئيه نستشف كذلك بعدا فلسفيا يعبر عن جوهر الكينونة التي تتراوح يتراوح بين الوجود والعدم، بين الحياة والموت، بين المرئي واللامرئي. المعنى واللامعنى وبقدر ما تؤشرهذه المفارقات على التناقض والتضاد، فهي في نفس الوقت تساهم في خلق التوازن وهذا ما يجعل منها جزءا من رؤية فلسفية تسعى إلى تأمل سر الوجود ومحاولة فهم الكثير من الظواهر التي يزخر الواقع اليومي.
في الختام أقول بأنه إذا كانت الشاعرة مينة الأزهر تشكو من تمنع العبارة وعدم طواعيتها من خلال هذه الومضات، فإن القارئ بدوره يجد نفسه أمام تمنع نصوص شعرية تقف حاجزا أمام الإحاطة بأسرارها بسبب تعالي اللغة الشعرية وكثافة صورها، الشيء الذي يحول القراءة إلى كتابة ثانية ودعوة إلى تفكيك النص وسبر عمقه لإنتاج دلالات جديدة. ليس هناك شكل محدد لهذا النوع من الكتابة الشعرية التي تكشف عن عالم ضيق في عباراته لكنه متسع في رؤاه.. كذلك يحتاج هذا الشكل الجديد من الكتابة الإبداعية إلى متابعة نقدية وتنقيب دائم قصد إلقاء الضوء على هذه التجربة. أشير في نهاية هذه الورقة الى أن الإيجاز وممارسة الكتابة الوجيزة، شعرا ونثرا، ليس بالأمر الهين بل يحتاج إلى دربة عالية شكلا ومضمونا يحكى أن نابليون بونابارت كتب رسالة مطولة جدا إلى أحد أصدقائه ختمها قائلا: “اعذرني صديقي العزيز ليس لدي وقت لكي أكتب إليك رسالة قصيرة. ما أصعب ماقل ودل”.
(*) قدمت هذه المداخلة بمناسبة تقديم ديوان “تتمنع عني العبارة” بالمركب الثقافي عبد الواحد القادري بالجديدة يوم السبت 2 نونبر الجاري.