شهادة في الشخص والنص : كأنما جاء لنقص في المودات

عبدالحميد رجل قد من محبة ومودة، لايمكن أن تنفلت من العدوى حين يصيبك بمودته في أول لقاء لك معه، إذ سرعان ما تسري العدوى ملء القلب والروح، وبتواطؤ جميل تقنع نفسك أنك عرفته وقد التقيته قبل أن تلتقيه. كيمياء الألفة تفعل فعلها السحري، ابتسامته الطفولية دعوة مفتوحة ومشرعة باستمرار لتدخل آمنا، مطمئنا إلى عالم الصفاء، بها يحييك قبل أن يمد كفه لنقل حرارة ودفء مشاعر لاتخطئها الحواس.
يقول في ديوانه الجديد «جاؤوا لنقص في السماء»:
( يطاردني الطفل الذي كنته
أود لو أني أكلمه
أحذره
من أن الطريق
الذي قد يسلكه
ليس الطريق الذي أعرفه) ص70.
ظل دوما برفقة ثلة من أصدقائي الأصلاء الذين شاركتهم الطريق والحلم والكثير من الخيبات، مساندا وداعما لي في كل انكساراتي وملماتي المتتاليات، لم يتأخر بالمؤازرة وقتما علم بالأمر، رغم ضغط وإكراهات مسؤولياته، ذاك معدن الخلص، من يمارسون الشعر ثم يكتبونه.
حريص على إشاعة المودة بين الأصدقاء، وإذا ما استشعر بعض الفتور فيها أو النقص، يجيء لإذكائها من جديد، هكذا أحسه وكأنما يجيء لنقص في المودات.
رجل مهنته الفرح، هو المثقل بأحزان وآلام بحجم احتمالات نصوصه، اكتوى بوجع حب وطن يحضن الجميع، لذلك منذ ريعان شبابه (وهو الشاب الأبدي)، انخرط في المشروع الذي تصادى مع قيمه وطموحاته الاجتماعية، وقد أدى ضريبة اختياراته مبكرا، ككل شرفاء هذا الوطن. كانت التجربة اختبارا ومحكا صقل صلابة عوده وقلمه الذي سخره كصحفي للجهر بالحقيقة، وكشف كل ما من شأنه أن يحول دون تحقيق المطالب ونصرة المستضعفين، زاوج في ذلك بين اللغتين الفرنسية والعربية واستطاع أن يوجد لنفسه أسلوبا صحفيا يميزه، في مختلف مستويات الكتابة الصحافية التي جربها عبر الدربة والممارسة، مما مكنه من ترويض اللغة وجعلها منقادة تستجيب لأنساق بلاغية مختلفة، موشاة بروح التفكه والسخرية السوداء وتلك خصيصة طبيعية لشاعر يمارس الصحافة، وتمكن من تخصيب الخطاب الصحفي بجينات اللغة الإبداعية، مما مكن من الاستمتاع بقراءة مادة صحافية بنكهة نص يمتح من المجاز ويتوسل بالاستعارة التي تغنيه دلاليا وجماليا ، حتى في أعقد القضايا وأكثرها عنادا في تحمل المضافات والمحسنات، لذلك لم تحنط الإيديولوجيا قصيدته، بل يمتلك إمكانية نحت تعابير وتوصيفات من إنتاجه، سواء في المادة التي يكتبها أو حين تحليله لحدث سياسي في وسيلة إعلامية، بطريقة سلسة وبتمكن بيداغوجي يعين الجميع على استيعاب أبعاد الحدث وظلاله، كمياه جوفية تنبثق وتتسرب جمله الشعرية إلى مادته الصحفية، من ذاكرته القرائية الخصيبة التي تجاورت فيها نصوص من جغرافيات متعددة، ويتبدى ذلك جليا في نصوصه الشعرية ولو بنصف معنى فقط (عنوان ديوانه) الذي أصدره بعد مرور عشرين سنة على إصداره للديوان الأول «مدن الوهم».. شاعر لايستعجل القصيدة، فهو يعيشها في كل لحظة، فقط يجمع بعضها كصائد فراشات، يترك يرقاتها تنفلت إلى حين اكتمال دورة حياتها، مانحا إياها حريتها بعد أن ينساها إلى أن تستوي على مهل وتلقح بالتجربة الحياتية. يقول :»أقصى حريتي النسيان» ص 49، وهو وسيلة تتذرع بها الذات للانعتاق من بوتقة الحصار النفسي الجاثم والكابح لكل إمكانية تسرب خيط نور يبدد ظلمة تقتات من عزلة ضاجة بالألم. يقول:
(سأخلق الألم أولا،
ثم أخلق الأيام من بعد
لكي أعده
يوما من الجرح) ص45. وهي عزلة باعثة على القلق في بعده الأنطولوجي، حيث اللامعنى واللايقين،وحده الفراغ الموحش يلغي الألوان لتسود القتامة في أقصى درجاتها، يومئ قائلا:
(لست أدري لماذا اختار الفراغ أن يكون هادئا
بالرغم من ارتطامي المتكرر مع نفسي) ص14.
فلا الأزمنة توقف هذا النزيف ولا الأمكنة تأوي وتحضن، فحتى المدن هي «مدن الوهم» وهو عنوان ديوانه الأول. لقد شكلت تيمة الوهم قيمة مهيمنة تحضر في نصوص تجربة بتجليات مختلفة وعبر إبدالات ومقابلات لغوية محايثة لها دلاليا، هناك دوما شيء منفلت تسعى قصائد الشاعر عبد الحميد اجماهري الى القبض عليه لكنه يتأبى على ذلك ممعنا في زئبقيته، وعندما جاؤوا لنقص في السماء (عنوان ديوانه الجديد)، ظل البحث متواصلا من أجل استعادة الجوهراني والخبيء في هذه الذات، عبر رحلة جوانية نحو مهاوي سحيقة، يقول:
(أبني علوا شاهقا
لكي أستحلي السقوط منه وسأكون مطواعا وأسير في هذا العكس إلى آخره
لو كنت بلا أعماق
لما كانت لي هاوية) ص83 .هذا الانحدار التراجيدي يكثف المأساة الوجودية عندما يستشعر الكائن أنه ملقى به في عراء هذا السديم،وقتها يحس بأن لا أحد ينجو من ورطة الحياة. يشير إلى كون الموت أنجع وسيلة للخلاص من قبضة الحياة:
(سارع إلى الموت
حتى لايحتل آخر مكانك
فتتورط أكثر في هذه الحياة،
تقع في الفخ مرة أخرى) ص 76.
منطق اللعبة يقتضي الاحتماء بوهم حياة منذورة للألم، تمعن في التنكيل بكل من راهن عليها لضمان سعادة مثل بريق خُلّب:
(هي ذي الحياة يا صديقي
لعبة عليك أن تتظاهر فيها بأنك غير حي.
حتى تسقط فجأة في شعاع ضاحك
مثل نافورة ماء) ص53.
وبانسيابية هذا الماء، يتفاقم الإحساس بانسلال الزمن الذي يجرف معه العمر، من دون أن يتحقق الإحساس بالدعة والطمأنينة لحياة أشبه بحفلة تنكرية، يورد:
(العمر يسرع
والطمأنينة تتباطأ،
هكذا تحتار في الوقت عندما تريد أن تعرف العكس
الطمأنينة تسرع
والعمر يتباطأ) ص33.
ضمن هذا الإيقاع الرتيب والموجع، تنضبط الذات لسطوة الذكرى التي تطوح بها في أتون عزلة شفيفة:
(وفي الصور العريضة
التي جاءت مع الذكريات
وأمواج …الريح
في الأغنية
ضحكات ناي
تترك مجالا للعزلة
بالقرب من الأعشاب الندية) ص14.
في هذا المناخ الكابي، تتلفع الذات بمسحة من الكآبة الجارحة كحد النصل، ويتمطط السأم ليحكم قبضته، ولوصف الحالة والبوح بحجم الألم، تهفو الذات إلى آلة رقن عتيقة، لكي تفلح في رسم عتاقة هذا الألم اللازمني:
(أحتاج آلة رقن عتيقة لوصف كآبتي ؟ عندما أجهش بوساوسي أضع كوب ماء بالقرب من الكرسي وأقف كفكرة طارئة وأنقر حروفا كبيرة بما يكفي لكي أصنع جلبة تلهيني
أكون كاليأس في طبيعة ميتة) ص 82 .
وحده الزمن الطفولي يقدر على ترميم شروخ الذات، بعد أن يستبد اليأس ويتم الإذعان لقوة الواقع العنيد، الذي لايسمح حتى بالحلم كبلسم يرتق جروح الروح، وبنغمة منكسرة يتم قبول المقايضة، يقول:
(أعد لي بعضا من طفولتي
وأعدك
يا أبي أنني لن أحلم من جديد
ومثلهم
مثل كل اليائسين
إذ يركنون حظهم على قارعة الحياة
وينزلون
سأرتب اليقين جيدا تحت ظل شجرة) ص66.
غير أنه يقين يقتات من كل ما هو ثاو في الأعماق، لنستشعر قوة الارتطام في المهاوي المومإ إليها سابقا، مما يجعل من البنية الدائرية،أفقا للمتلقي، بما هي بنية مؤطرة لنصوص هذه الأضمومة، فأول جملة مفتتح:»دليني على البطل وسأدلك على تراجيدياه» تتعالق مع آخر جملة في الديوان:»لو كنت بلا أعماق لما كانت لي هاوية»، وهو بناء يشي بكون الديوان سفر رمزي لبطل يقتفي أثر أسطورته، لتطوح به الرحلة إلى السقوط في المهاوي، في ارتطام تراجيدي.
وبذلك فإن هذا الإطارالدائري لم يمكن الذات من الخلاص، بل سيدفعها إلى الانكفاء حولها :
(أنت الذي تتجول فيَّ
قابلني هناك
في متحف التشبيه
خيالا لخيال
أو وجها لوجه) ص55 .
وبكل ما أوتيت من ضعف وانكسار، تصدح الذات المكلومة بنبرة مشوبة بالتحدي والمواجهة:
(اجلسي بالقرب مني أيتها القسوة
أحتاجك لأتحدث إلي
لأعطيك حزنا رقراقا
لايسألني من أين أتيت به). ص 44.
وبنفس الإيقاع وانتصارا للجمال والبهاء ضدا على كل القبح المسيج للكون، وبكل هشاشة هذا الكائن الأعزل إلا من نداء يمجد الجمل والبهاء:
(استيقظي يا أنت
هذا الصباح ينتظر عينيك
منذ الصباح
ليرى). ص75.
في تجربة «جاؤوا لنقص في السماء»، يؤكد الشاعرعبد الحميد جماهري، قدرته الفنية والإبداعية على الاشتغال الرصين والعميق على متخيل يسافر بالمتلقي إلى عوالم باذخة، وغزيرة الإيحاءات والدلالات.
قد تمكن أيضا ضمن هذه التجربة من جعلها في قالب ملحمي أحيانا تجاورت فيه الصور والأخيلة المتكئة على لغة صاخبة تصادت مع لغات ذات نفس رومانسي، بالغ الأناقة والرقة.

(ألقيت هذه الكلمة التقديمية في لقاء« الغرفة المضيئة» الذي نظمه بيت الشعر احتفاء بالشاعر عبد الحميد جماهري يوم الخميس 29 شتنبر الماضي)


الكاتب : عبدالنبي دشين

  

بتاريخ : 07/10/2022