يعد المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم من أبرز المثقفين العرب. فقبل أكثر من 50 عاماً، وتحديداً عام 1969، كتب العظم كتابه «نقد الفكر الديني»، وأثار زوبعة قي المنطقة العربية. كما حوكم العظم وبُرئ؛ ولولا الصدفة، لكان مصيره كما مصائر المفكرين الأحرار الذين ضربوا جذور الفكر الغيبي كحسين مروة، ومهدي عامل، وفرج فودة، ممن طالتهم يد الغيبيين وفقهاء الظلام.
n هل نستطيع أن نُضيف إلى تلك العوامل غياب الموضوعات المثيرة التي تحفِّز العظم ليكتب عنها مثل رواية «الآيات الشيطانية» مثلاً؟ هل تنتظر فرصاً كهذه لتكتب؟
pp الحقّ معك. أنا من النوع الذي يستجيب للمثيرات الحيوية والقضايا الكبيرة والفرص الجدية كما قلتَ. أنا أحتاج إلى محرِّض فأشعر بأنني في أحسن حالاتي ونشاطي الذهني وتركيزي نتيجة هذا النوع من الاستفزاز، وقد ظهر العديد من كتبي نتيجة لهذه الحالة. لذلك أُساجل زملائي في أحيان كثيرة، فالثقافة التي لا يوجد فيها سجال اعتبرها ثقافة شبه ميّتة، والمساجلة مع الآخرين هي ملح الأرض بالنسبة لي. في ذهني حالياً عدة مشاريع وبخاصة حول علاقة الأصوليّة الدينية عموماً والإسلامية تحديداً بما بعد الحداثة وفكرها، وأنا أجمع المواد رويداً رويداً، وأفكّر في الموضوع، ولا أعرف الآن إلى أية نتيجة سأصل، ولكن هذا هو الموضوع الذي يشغلني الآن وأعمل عليه بالعربية والانجليزية والفرنسية. مع ذلك ما زلت في الساحة ولكن بمستوى أقلّ فعالية بمقدار لا بأس به عمّا كنت عليه في السابق.
n ولكنك تتحدّث هنا مرّة أخرى عن دراسات وكتابات قديمة…..
pp ليست قديمة جداً.
n ولكنك أعدت مؤخّراً طباعة أوّل كتبك وهو «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الذي صدر عام 1986 و قد قلت لي منذ فترة بأنّ كتابك الثاني «نقد الفكر الديني» الذي صدر أخر عام 1969 يترجم حالياً إلى الانجليزية والفرنسية.
pp نعم، ولكني لم أسعَ إلى هذا فقد اتّصل الناشرون بي وطلبوا ذلك، وكما تعلم فإنّهم في الغرب يأخذون الموافقة قبل أن يترجموا، ولا أعرف الآن حقيقة مصير هذه الترجمات، علماً بأنني راجعت فصولاً من الترجمة بالانجليزية، ولم يتسنَّ لي بعد مراجعة الترجمة الفرنسية للمترجمة السورية القديرة رانية سمارة. هناك أيضاً من يعمل على ترجمة «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الآن في بوسطن بمبادرة ذاتية خالصة منه.
أما فكرة إعادة إحياء كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» فتعود في الحقيقة إلى السيّدة الهام عبد اللطيف عدوان صاحبة دار ممدوح عدوان للنشر في دمشق. وهي التي قامت بتنفيذ الفكرة بالتشاور معي وأنا أشكرها الشكر كله على مسعاها.
وعلى فكرة، هذا الكتاب ليس هو أوّل كتبي. صحيح كذلك أنني لم أكتب مؤخّراً كتاباً جديداً وخاصة باللغة العربية. يعود جزء من السبب إلى أنه بعد تقاعدي من جامعة دمشق عام 1999 كنت أكثر ميلاً للعمل والكتابة باللغة الانجليزية، نتيجة انهماكي في التدريس في عدد من الجامعات الأوروبية والأمريكية بصفة أستاذ زائر للفكر السياسي والاجتماعي العربي المعاصر. في هذه الفترة أنتجت عدة دراسات كانت كلها بالانجليزية، ونُشرت في مجلات علمية اختصاصية لكنها لم تُنشر باللغة العربية. وأعترف مرة ثانية أنّ مقدرتي على نقلها إلى العربية بالسرعة المعتادة قد تراجعت وأصبحتُ أبطأ بكثير بسبب العمر والإرهاق والتعب والسفر الكثير.
n أرجع إلى موضوع الأصوليّة وفكر ما بعد الحداثة، لأنك كنت قد ربطت بين هايدجر وأبي الأعلى المودودي في كتابك “دفاعاً عن المادية والتاريخ”، أليس كذلك؟
pp لم أعد أتذكّر ذلك تماماً، ولكن لا شك أنّ هناك رابطا من هذا القبيل. فمثلاً التصوّر الديني الأصوليّ لمجرى التاريخ هو مجرى انحداريّ وهذا الموضوع موجود عند هايدجر، فالتاريخ الحقيقي عنده هو تاريخ الفلسفة ما قبل سقراط، ثمّ انحلّ هذا التاريخ وانحدر إلى أن وصل إلى حالة البربريّة الحاليّة، التي يسميها الإسلاميّون بجاهلية القرن العشرين.
أمّا الشاعر الشهير ت.س. إليوت فقد سمّاها “الأرض اليباب” التي يسكنها “الرجال الجوف” ونساء ثرثارات يأتين ويذهبن وهنَّ يلهجنّ باسم مايكل أنجلو. ميول هذا الشاعر الكبير شبه الفاشية والاكليروسية معروفة جيداً.
أمّا أستاذه الشاعر الكبير الآخر عزرا باوند فقد كانت فاشيته صريحة ومعلنة، مثل نازية هايدجر وعنصريته. كان هايدجر يحتقر الديمقراطية، والأصوليّون يحتقرون الديمقراطية أيضاً، أشياء من هذا القبيل. باختصار، تأثّر منظّرو الأصوليّة الإسلامية بالنقد الألماني اليمينيّ الارتداديّ والهدّام للحداثة الأوروبية، وتبنّوه. وهايدجر علم من أعلام هذا النوع من النقد وأعلى مراحله.
n يُصرّ صادق العظم على أن يقدّم نفسه بوصفه مثقّفاً ماركسياً وفيلسوفاً عقلانياً مُتمسّكاً بعقلانيته ومادّيته مثلما تجلّى مثلاً في كتابه «دفاعاً عن المادّية والتاريخ»، ماذا عن صادق العظم الآخر؟ وبمعنى مختلف ماذا عن الوجه الآخر لصادق العظم الذي يُصرّ على حجبه وإخفائه؛ وأقصد به صادق العظم غير العقلانيّ وغير المادّيّ والحالم الذي نلمح أطيافه بين السطور وعلى الهوامش؟ لا تقل لي إنّ صادق العظم في “دفاعاً عن المادية والتاريخ”، الذي يُصرّ فيه على واقعية الأشياء وماديتها، هو نفسه صادق العظم في “ذهنية التحريم” حيث يؤكّد أنّ أصدق الشّعر أكذبه، ويأخذ على منتقدي سلمان رشدي أنّهم تعاملوا مع “الآيات الشيطانية” وكأنها نصّ تاريخيّ وقع فعلاً، ولم ينتبهوا للمخيّلة الخلاقة عند رشدي! ما الذي تغيّر عند صادق العظم؟
pp لماذا تجد هناك صادق عظم آخر أريد أن أحجبه أو أخفيه؟ ما الذي قادك إلى مثل هذا التصوّر؟
n لأن القراءة المتأنّية لأعمالك – وأنا أعتبر نفسي أحد قرائك الجادّين – تُظهر أنّ هناك تغيّرا حقيقيّا في إنتاجك الفكري. كما أنني لستُ الوحيد الذي يقول هذا فقد انتبه المفكّر علي حرب إلى ذلك وأشار له أكثر من مرّة وأظن أنّ هذا التطوّر إيجابيّ وليس سلبيّا؟
pp هو تطور بالفعل وليس تغيّراً بالمعنى الانقلابي أو الفجائي للعبارة. صار لي في الساحة الثقافية حوالي نصف قرن وقد تطوّرت مواقفي وأفكاري وتحليلاتي ووجهات نظري كثيراً، ولكنّ تطوّرها كان عضوياً من الداخل؛ يأخذ بالمستجدّات باستمرار، دون قفزات دراماتيكية أو شطحات حادّة أو أزمات ميلودرامية من النوع الذي يمرّ به بعض الأدباء والكتّاب والشعراء والفنّانين. كان مساري الفكريّ انسيابياً نسبياً، ومتابعاً دوماً لما يجري حولي على المستويين المحلّيّ والإقليميّ والعالمي فكرياً وفلسفياً واجتماعياً وفنياً وعلمياً بصورة خاصة. لذلك أشعر بوجود صادق عظم واحد بجوانب متعدّدة وأبعاد متنوّعة واهتمامات متجدّدة ومتطوّرة. لا شك أنّني أنقسم على نفسي في بعض الأحيان، ثمّ أُرمّم الانقسام وأخرج بنظرة متماسكة ثمّ أتخطّاها إلى ما هو أبعد وأكثر راهنية، وربما أكثر نضجاً أيضاً. منهجي منهج الاستيعاب والتخطّي والتجاوز، وليس منهج الانقطاع والقفزات الفجائية أو ما يسمى بالقطيعة المعرفية. هذا كله لا يعني أنّ هناك صادق عظم آخر. دعني أقل أيضا بأنني أجهد كثيراً حتى لا أقحم في كتاباتي الجانب الذاتي والشخصي والفردي في المعالجة الموضوعية للمسائل التي أتناولها بالتحليل والنقاش. لذلك أبتعد كل البعد في التوجه إلى القارئ والمتلقي عموماً عن أسلوب “الحقّ أقول لكم…” فهو أسلوب خطابي دوغمائي يريد أن يفرض على المتلقّي قناعات ذاتية مسبقة حول كلّ ما هو «حقّ» و«حقيقة» ومعروف أنه أسلوب ما زال متفشياً إلى حدّ كبير في الخطابات العربية وفي الثقافة العربية وتعاملاتها عموماً. كما ابتعد بالطريقة ذاتها عن أسلوب البوح وتعرية النفس والجرأة الشديدة على الذات على طريقة ما فعله ادوارد سعيد في كتابه “خارج المكان”. هذه خصوصيات لا أهمية لها في الشأن الثقافي الجامع والهم العامّ.
دعني أقل أخيراً إنّه بسبب من ميراث عصور الانحطاط في الثقافة العربية الراهنة أردت عن وعي و تصميم إبراز وتأكيد أهمية العقلانية الحديثة (وليس العقلانية القروسطية التي يستنجد بها البعض اليوم عبر ابن رشد وابن خلدون)، والمادية العلمية والواقعية والدنيوية التنويرية النهضوية- خاصة كما وجدتها مجموعة في الفلسفة الماركسية- أقصد إبراز أهميتها وتأكيد دورها كلها في ازدهار آية ثقافة عربية معاصرة وحيّة وفعّالة وخلاّقة في القرن العشرين وربما ما بعده. لهذا السبب قد يبدو أنّ صادق العظم الأخر الذي تسألني عنه كان غائباً ثمّ أخذ يظهر شيئاً فشيئاً، ولكنّ الحقيقة هي أنّ صادق الأخر كان موجوداً وإن بأشكال أولية. ألم يقنعك كتاب «في الحبّ والحبّ العذريّ» بوجوده؟ ألم تقنعك «مأساة إبليس» بوجوده؟