يعد المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم من أبرز المثقفين العرب. فقبل أكثر من 50 عاماً، وتحديداً عام 1969، كتب العظم كتابه «نقد الفكر الديني»، وأثار زوبعة قي المنطقة العربية. كما حوكم العظم وبُرئ؛ ولولا الصدفة، لكان مصيره كما مصائر المفكرين الأحرار الذين ضربوا جذور الفكر الغيبي كحسين مروة، ومهدي عامل، وفرج فودة، ممن طالتهم يد الغيبيين
وفقهاء الظلام.
أود أن أوضح موقفي بأنني لا أدعو هنا إلى حرق أو قطع هذه الشجرة التي حجبت الغابة، ولكن إلى إعادة اعتبارها شجرة ضخمة ومثمرة في غابة الفلسفة لا تختزل في ذاتها كل الغابة وقد لا تكون أهم أشجارها. تعلّمنا في جامعة دمشق أن نقرأ تاريخ الفلسفة من مواقف ماركسية فكان هناك مركز نقرأ انطلاقاً منه تاريخ الفلسفة أي ما قبل وما بعد ماركس، حتى الفلسفة الإسلامية لم تنجُ من ذلك حتى أننا كنا نظن أن الفارابي وابن سينا وابن رشد أعضاء في الحزب الشيوعي ومؤسسين لكومونة باريس أو لثورة 1917 في روسيا. في كتابه “نقد النص” (إذا لم تخنّي الذاكرة)، انتقد علي حرب هذا التوجه في كتابك “دفاعاً عن المادية والتاريخ” في فصل حمل عنوان: “صادق العظم إرادة المعرفة أم إرادة الماركسية؟” أشار فيه إلى إعادة تقييمك لتاريخ الفلسفة السابقة على ماركس من وجهة نظر هذا الأخير ثم الحكم على الاتجاهات الماركسية اللاحقة عليه مثل ماركسية جورج لوكاتش وألتوسير وسارتر بوصفها انحراف عن ماركسية ماركس أو إنها أرادت من الماركسية الروح دون الجسد والمثالية دون المادية. هذا التوجه كان سائداً ومسيطراً لدى الأساتذة الكبار في قسم الفلسفة في جامعة دمشق مع الإشارة إلى أن يوسف سلامة كان يغرِّد خارج السرب.
أنا سعيد جداً انك أثرت الآن مسألة التعامل مع الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم بهذه الطريقة المبتذلة في قسم الفلسفة، وأثرتها بهذه الصراحة والوضوح ومن موقعك كطالب مرّ بالتجربة. أقول لك أنا سعيد لأنّ هذه المسألة كانت مصدر اختلاف دائم وخلاف حادّ أحياناً مع بعض زملائي في القسم الذي كانوا ينحون هذا المنحى في تدريس تاريخ الفلسفة العربية – الإسلامية. كنت أعارض دوماً هذا النوع من الإسقاط الارتدادي وانتقده – وأنت “حكّيت لي على جَرَب” الآن كما يقول المثل الدارج، كما يبدو أنك نفَّست أنت بدورك عن هم كان جاثماً على صدرك منذ تلك الأيام. كما قلت لك سابقاً، هم أرادوا تسخير الفارابي وابن سينا وابن رشد لخدمة «قضايانا الكبرى» بإقحامهم لهؤلاء الفلاسفة و على النحو الكاريكاتوري الثوري الذي وصفته في قضايا مثل الوحدة والاشتراكية والماركسية وغيرها وهذا وهم وأيديولوجيا وتزييف من النوع الأداتي المبتذل والتشويه الفج. طبعاً، لا اعتقد أن قضايانا الراهنة ستتأثر سلباً أو إيجابا إذا علمنا أن الفارابي كان فيلسوفاً إشراقياً مثالياً وفقاً لتقاليد عصره الفكرية. لم أنْسق أبدا مع هذا الوهم في عملي، بل عارضته بقوة وحزم ولربما كنت أقرب إلى يوسف سلامة من غيره في هذا، وأرجو أن يقبل مني يوسف هذا الظن.
بالنسبة لنقد الدكتور علي حرب الذي أشرت إليه لا اذكر التفاصيل الآن، لكنني أقول كما أني أعدت قراءة مجرى تاريخ الفلسفة الحديثة من منظور ماركسي (لكني لم أجعل أياً من ابن رشد أو توما الاكويني فيلسوفاً ماركسياً!) فقد حاولت أيضا أن أموضع ماركس نفسه في سياق تاريخ الفلسفة ذاته وتطوره وبخاصة بعد الثورة العلمية الكبرى في القرن السابع عشر وعصر الأنوار الذي تلاها في القرن الثامن عشر. أضف إلى ذلك أن إعادة قراءة الماضي على ضوء انجازات الحاضر واكتشافاته وعلومه ومناهجه مسألة مشروعة تماماً وإلا لما كان هناك أي تراكم أو تقدم في المعرفة الإنسانية عموماً. قراءة تاريخ فكرة السببية عند الأشاعرة، مثلاً، قبل ابن رشد شيء وقراءته بعد ابن رشد وعلى ضوئه شيء آخر جديد. قراءة عقلانية ابن رشد قبل ديكارت شيء وقراءتها بعد ديكارت وعلى ضوئه شيء آخر كذلك. تعرف أنه ليس غريباً أن يظهر في سياق ثقافة حيّة علمية متطورة مفكر كبير مثل فرويد، مثلاً، فتتم إعادة قراءة الماضي على ضوء البارادايم الذي أنشأه وبناه، وأنا اعتبر هذه مسألة مهمة و يكمن الخطأ والعجز في ألاّ تحصل. فقراءة مسرحية “هاملت” كانت قبل فرويد شيء وأصبحت بعده شيئاً جديداً ما فيه إثراء عظيم وتقدم هائل. كذلك، فإن عمليات فهم واستيعاب وتسفير أحداث مثل الثورة الفرنسية او تاريخ صراع الطبقات في المجتمعات البشرية أو ثورة الزنج في التاريخ العربي – الإسلامي تنتقل كلها إلى مستويات بحثية وتفسيرية أرقى بما لا يقاس بعد ماركس وغير ماركس من الباحثين المعاصرين مما كانت عليه قبلهم. فالثقافة الحيّة تعيد النظر دوماً بنفسها وبحاضرها وماضيها على ضوء انجازاتها واكتشافاتها الحالية المتراكمة.
في مثل هذا الإطار تأخذ إعادة القراءة بُعداً ابستومولوجيا ومعرفياً وتناصّاً مفيداً جداً، ولكن المشكلة أن تسيطر الايدولوجيا على الابستملوجيا وتبتلعها فيصبح الأمر مجرّد وجود حقائق مسبقة يُدافَع عنها بشكل دينيّ (حتى لو لم تكن دينية الطابع). نظرة إلى الماضي تجعلني أشعر بهيمنة الايدولوجيا على تعلُّم الفلسفة في جامعاتنا، ولكننا لم نكن نشعر بهذا الأمر عندما كنا على مقاعد الدراسة بل كنا متحمّسين للماركسية ولأساتذتنا الماركسيين. مع قدومي إلى فرنسا تغيرت رؤيتي للأمر بشكلٍ ما.
مع قدومك إلى فرنسا حصل معك ما يجب أن يحصل. بل لو لم يحصل معك ذلك لكان هناك عُطل ما أو عجز ما وأنا اعتبر هذا ميزةً راقية فيك. فأنا أعرف أشخاصاً جاؤوا مثلما جئت ورجعوا لما يمكن أن ترجع إليه أنت ولكنهم في المحصلة لا راحوا ولا جاؤوا. لو انك لم تتغير بعد مضي خمس سنوات في جامعة دمشق وخمس سنوات في السوربون لكانت المصيبة كبيرة حقاً.
دعني أعود قليلاً إلى علي حرب… إن مناقشتي لماركسية لوكاش والتوسير وسارتر لا تستند إلى إصدار أحكام بالانحراف وما شابه، خاصة وأن كلمة «انحراف» مثقلة بإيحاءات الاتهامات السياسية شبه الدينية المعروفة وبالعقوبات المترتبة عليها على طريقة العقوبات التي يفترض أن تلحق بالهرطقة والزندقة والخروج على الجماعة وما إليه. نقدي وتقييمي للفلاسفة المذكورين لا علاقة له بكل هذا. على عظمة كتاب لوكاش «التاريخ والوعي الطبقي»، فإنه صنع من الماركسية، في المحصلة، لاهوتاً بروليتارياً ملحمياً أفرغ الماركسية من محتواها العلمي ومن تاريخيتها ومن تاريخانيتها أيضا، كأي لاهوت آخر. أما بنيوية التوسير فقد أوصلت الماركسية إلى المأزق السكوني ذاته – والبنيوية سكونية غير تطورية وغير تاريخية بطبيعتها – بإصرارها على القطيعة المعرفية عند ماركس وعلى القفز الفجائي وشبه اللاعقلاني من بارادايم إلى بارادايم آخر مما سلب الماركسية مجدداً، وبالمحصلة، تاريخيتها وتاريخانيتها وتطوريتها. وأنا لا أنكر للحظة أن نقدي هذا قابل هو بدوره للنقد والمراجعة والنقاش كأي اجتهاد مفتوح على المزيد.
أود أن أوضح موقفي بأنني لا أدعو هنا إلى حرق أو قطع هذه الشجرة التي حجبت الغابة، ولكن إلى إعادة اعتبارها شجرة ضخمة ومثمرة في غابة الفلسفة لا تختزل في ذاتها كل الغابة وقد لا تكون أهم أشجارها. تعلّمنا في جامعة دمشق أن نقرأ تاريخ الفلسفة من مواقف ماركسية فكان هناك مركز نقرأ انطلاقاً منه تاريخ الفلسفة أي ما قبل وما بعد ماركس، حتى الفلسفة الإسلامية لم تنجُ من ذلك حتى أننا كنا نظن أن الفارابي وابن سينا وابن رشد أعضاء في الحزب الشيوعي ومؤسسين لكومونة باريس أو لثورة 1917 في روسيا. في كتابه “نقد النص” (إذا لم تخنّي الذاكرة)، انتقد علي حرب هذا التوجه في كتابك “دفاعاً عن المادية والتاريخ” في فصل حمل عنوان: “صادق العظم إرادة المعرفة أم إرادة الماركسية؟” أشار فيه إلى إعادة تقييمك لتاريخ الفلسفة السابقة على ماركس من وجهة نظر هذا الأخير ثم الحكم على الاتجاهات الماركسية اللاحقة عليه مثل ماركسية جورج لوكاتش وألتوسير وسارتر بوصفها انحراف عن ماركسية ماركس أو إنها أرادت من الماركسية الروح دون الجسد والمثالية دون المادية. هذا التوجه كان سائداً ومسيطراً لدى الأساتذة الكبار في قسم الفلسفة في جامعة دمشق مع الإشارة إلى أن يوسف سلامة كان يغرِّد خارج السرب.
أنا سعيد جداً انك أثرت الآن مسألة التعامل مع الفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم بهذه الطريقة المبتذلة في قسم الفلسفة، وأثرتها بهذه الصراحة والوضوح ومن موقعك كطالب مرّ بالتجربة. أقول لك أنا سعيد لأنّ هذه المسألة كانت مصدر اختلاف دائم وخلاف حادّ أحياناً مع بعض زملائي في القسم الذي كانوا ينحون هذا المنحى في تدريس تاريخ الفلسفة العربية – الإسلامية. كنت أعارض دوماً هذا النوع من الإسقاط الارتدادي وانتقده – وأنت “حكّيت لي على جَرَب” الآن كما يقول المثل الدارج، كما يبدو أنك نفَّست أنت بدورك عن هم كان جاثماً على صدرك منذ تلك الأيام. كما قلت لك سابقاً، هم أرادوا تسخير الفارابي وابن سينا وابن رشد لخدمة «قضايانا الكبرى» بإقحامهم لهؤلاء الفلاسفة و على النحو الكاريكاتوري الثوري الذي وصفته في قضايا مثل الوحدة والاشتراكية والماركسية وغيرها وهذا وهم وأيديولوجيا وتزييف من النوع الأداتي المبتذل والتشويه الفج. طبعاً، لا اعتقد أن قضايانا الراهنة ستتأثر سلباً أو إيجابا إذا علمنا أن الفارابي كان فيلسوفاً إشراقياً مثالياً وفقاً لتقاليد عصره الفكرية. لم أنْسق أبدا مع هذا الوهم في عملي، بل عارضته بقوة وحزم ولربما كنت أقرب إلى يوسف سلامة من غيره في هذا، وأرجو أن يقبل مني يوسف هذا الظن.
بالنسبة لنقد الدكتور علي حرب الذي أشرت إليه لا اذكر التفاصيل الآن، لكنني أقول كما أني أعدت قراءة مجرى تاريخ الفلسفة الحديثة من منظور ماركسي (لكني لم أجعل أياً من ابن رشد أو توما الاكويني فيلسوفاً ماركسياً!) فقد حاولت أيضا أن أموضع ماركس نفسه في سياق تاريخ الفلسفة ذاته وتطوره وبخاصة بعد الثورة العلمية الكبرى في القرن السابع عشر وعصر الأنوار الذي تلاها في القرن الثامن عشر. أضف إلى ذلك أن إعادة قراءة الماضي على ضوء انجازات الحاضر واكتشافاته وعلومه ومناهجه مسألة مشروعة تماماً وإلا لما كان هناك أي تراكم أو تقدم في المعرفة الإنسانية عموماً. قراءة تاريخ فكرة السببية عند الأشاعرة، مثلاً، قبل ابن رشد شيء وقراءته بعد ابن رشد وعلى ضوئه شيء آخر جديد. قراءة عقلانية ابن رشد قبل ديكارت شيء وقراءتها بعد ديكارت وعلى ضوئه شيء آخر كذلك. تعرف أنه ليس غريباً أن يظهر في سياق ثقافة حيّة علمية متطورة مفكر كبير مثل فرويد، مثلاً، فتتم إعادة قراءة الماضي على ضوء البارادايم الذي أنشأه وبناه، وأنا اعتبر هذه مسألة مهمة و يكمن الخطأ والعجز في ألاّ تحصل. فقراءة مسرحية “هاملت” كانت قبل فرويد شيء وأصبحت بعده شيئاً جديداً ما فيه إثراء عظيم وتقدم هائل. كذلك، فإن عمليات فهم واستيعاب وتسفير أحداث مثل الثورة الفرنسية او تاريخ صراع الطبقات في المجتمعات البشرية أو ثورة الزنج في التاريخ العربي – الإسلامي تنتقل كلها إلى مستويات بحثية وتفسيرية أرقى بما لا يقاس بعد ماركس وغير ماركس من الباحثين المعاصرين مما كانت عليه قبلهم. فالثقافة الحيّة تعيد النظر دوماً بنفسها وبحاضرها وماضيها على ضوء انجازاتها واكتشافاتها الحالية المتراكمة.
في مثل هذا الإطار تأخذ إعادة القراءة بُعداً ابستومولوجيا ومعرفياً وتناصّاً مفيداً جداً، ولكن المشكلة أن تسيطر الايدولوجيا على الابستملوجيا وتبتلعها فيصبح الأمر مجرّد وجود حقائق مسبقة يُدافَع عنها بشكل دينيّ (حتى لو لم تكن دينية الطابع). نظرة إلى الماضي تجعلني أشعر بهيمنة الايدولوجيا على تعلُّم الفلسفة في جامعاتنا، ولكننا لم نكن نشعر بهذا الأمر عندما كنا على مقاعد الدراسة بل كنا متحمّسين للماركسية ولأساتذتنا الماركسيين. مع قدومي إلى فرنسا تغيرت رؤيتي للأمر بشكلٍ ما.
مع قدومك إلى فرنسا حصل معك ما يجب أن يحصل. بل لو لم يحصل معك ذلك لكان هناك عُطل ما أو عجز ما وأنا اعتبر هذا ميزةً راقية فيك. فأنا أعرف أشخاصاً جاؤوا مثلما جئت ورجعوا لما يمكن أن ترجع إليه أنت ولكنهم في المحصلة لا راحوا ولا جاؤوا. لو انك لم تتغير بعد مضي خمس سنوات في جامعة دمشق وخمس سنوات في السوربون لكانت المصيبة كبيرة حقاً.
دعني أعود قليلاً إلى علي حرب… إن مناقشتي لماركسية لوكاش والتوسير وسارتر لا تستند إلى إصدار أحكام بالانحراف وما شابه، خاصة وأن كلمة «انحراف» مثقلة بإيحاءات الاتهامات السياسية شبه الدينية المعروفة وبالعقوبات المترتبة عليها على طريقة العقوبات التي يفترض أن تلحق بالهرطقة والزندقة والخروج على الجماعة وما إليه. نقدي وتقييمي للفلاسفة المذكورين لا علاقة له بكل هذا. على عظمة كتاب لوكاش «التاريخ والوعي الطبقي»، فإنه صنع من الماركسية، في المحصلة، لاهوتاً بروليتارياً ملحمياً أفرغ الماركسية من محتواها العلمي ومن تاريخيتها ومن تاريخانيتها أيضا، كأي لاهوت آخر. أما بنيوية التوسير فقد أوصلت الماركسية إلى المأزق السكوني ذاته – والبنيوية سكونية غير تطورية وغير تاريخية بطبيعتها – بإصرارها على القطيعة المعرفية عند ماركس وعلى القفز الفجائي وشبه اللاعقلاني من بارادايم إلى بارادايم آخر مما سلب الماركسية مجدداً، وبالمحصلة، تاريخيتها وتاريخانيتها وتطوريتها. وأنا لا أنكر للحظة أن نقدي هذا قابل هو بدوره للنقد والمراجعة والنقاش كأي اجتهاد مفتوح على المزيد.