صالح لبريني في «كورال العابرين»: كتابة الغياب والعزلة

عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وضمن «سلسة الإبداع العربي»، صدر للشّاعر المغربي صلاح لبريني ديوان «كورال العابرين»، وهو الإصدار الخامس له. وهذا إصرارٌ كبير وكرم فائض من الشّاعر في زمنٍ لا شعري بالمرّة. بل ويستحق صالحُ وأمثاله من الشّعراء رفع القبعة احترامًا وتقديرًا لهم على هذا التعلق السيزيفي بالقصيدة التي تراجعت عن مواقعها الأساسية بعدما تعرّضت للخذلان والمؤامرة، سواءً من طرف القارئ الذي تسطّح ذوقه وأذعن للثقافة السريعة لدرجةٍ لم يعد الشّعر واجهة القراءة الأولى، أو دور النشر الذي أغوتها الرواية وروّجت لها على حساب الشّعر الذي صار يُنظر إليه باستعلاءٍ، وعلى أنه بضاعة غير مربحة. ومن جهتهم انساق النقّاد مع هذا الوضع الجديد فكيّفوا عدّتهم المنهجية وأدواتهم الإجرائية ضمن هذا المعطى الجديد. أمّا إذا حدثت المعجزة وطلع علينا خبر جائزةٍ في الشعر في مكان ما، حسبناه القمر في استدارته.
يتفوّق صالح لبريني على كثيرين في هذا الإخلاص العذري للشِّعر ولم يحد عنه إلا إلى الضفة الأخرى من القصيدة ونقصد «نقد الشعر»، وإن كنّا نعتبر صالحَ لبريني شاعرًا بالدرجة الأولى دون أن تستطيع اهتماماته النقدية والأكاديميّة، على أهميتها ورصانتها، أن تُغطي على صفة الشّاعر فيه والتي تتوفر فيها العلامة الكاملة، إذ يعتبر من الأسماء الشعرية اللافتة في جيل التسعينيات بالمغرب والتي تكتب قصيدة النثر بوعيِ نقدي. وقد كتب عن تجربته الشّعرية نقادٌ ومهتمون بالشعرية العربية، منهم العراقي علاء حمد وعبد اللطيف الوراري ورشيد الخديري وعبد الله بن ناجي وعزالدين بوركة.
وعودةً إلى «كورال العابرين» الذي يحتضن 54 قصيدة موزّعة على 224 صفحة متوسطة الحجم، وبغلافٍ أصفر مستفز يشي بالموت والخريف والمراحل الحرجة من العمر، غير أننا سرعان ما نستعيد الهدوء والاطمئنان مع عنوان الديوان وعناوين القصائد التي تتماهى مع هذا الأصفر الفاقع، وهذا العبور الجارح والغيّاب المؤلم، بل ويليق الأصفر والرماديُّ بالديوان. وتحتاج عناوين القصائد وحدها إلى ناقد السيميائيات كي يقتحم رموزها ودلالاتها: «لم تكن الأرض»،»الموتى يكسّرون قيثارتهم»، «خطى مذبوحة»، «لا أحدَ على الشرفات»، «لا أرى أحدًا»، «لم يصل أحدٌ»، «الغرباء»، «فراغ»، «أبدًا»، «لا حظ لي»، «لا غد في يدك»، «موتى طيبون يحبّون الموسيقى»، «وحدي أغيّر طريق الأبدية»، «جسدٌ ضالع في حيرته»، «لا أحدَ في الطريق»، «رفقًا بالغابة أيها الحطّابون»، «دمعة الاثنين»…
تؤسّس قصائد الديوان لغتها على حرف العطف «لا» المبني على السكون والذي لا محلّ له من الإعراب، وعلى حرف النفي والجزم «لم» المبني على السكون هو أيضًا. إنّها لغة الرفض للسائد والمألوف، واستبصار حزينٌ للذين عبروا في صمتٍ مطبق، وجلسة تأمّل مع الذات في أعالي العزلة حيث الأشياء والعناصر تفصح على حقيقتها في ظل تبدّل أحوال البشر والفضاءات والقيّم في عالم جديد لا يسع للغة الشعر دائمًا. وقد توزّعت قصائد الديوان بين تيمة الموت وتيمة العزلة، وتعتبر التيمة الأولى رافدًا للثانية لتوّفر هذه الوحدة التيماتية، والتي يصحّ معها أن نرتّب القصائد في «باب الغياب»، و«باب العزلة».

باب الغيّاب

تُغطي قصائد الموت مساحةً مهمة من الديوان، حيث يستعيد الشّاعر ظلال الغائبين: الأم والأب وأصدقاء الطفولة والأصدقاء الشّعراء. يقول في قصيدة مهداة إلى الأم: «تلك اليدُ أخذت حقيبتها الفارغة من الحياة/ وتركتني لعزلة تنهب نحيب الجدران/ لخطاطيفَ تُبايع النعيب وتوزع عطشَ السماء على أرضٍ تُغيِّبُ عبورك/ وترثي غيابكِ/مات صوتكِ في البراري الوحشية..(210). ويتكرّر حضور «الأم» و»الأب» في صفحات الديوان بصيّغ شتى، حيث الذات الشاعرة ترصد الخسارات بلغة متوترة تُبطن الرقة والانكسار الداخلي، وذلك من خلال وسائط متعددة تعبق بالذكرى والحنين: البيت القديم يسرد الغياب، الجبال وهي تسهر على رعاية المعنى، والنوافذ التي تتهجى السماء، خجل الشرفات، والأبواب تعتذر لصدأ المفاتيح،…
وفي قصيدة مهداةٍ إلى الشّاعر حكيم عنكر، الذي مات متأثرًا بفروس كورونا، نقرأ: هذا الصباح حسيرُ الطلعة/ طعنةٌ على القلب/ وثانيةٌ تحفر قبرًا لخلّاني/ وثالثة تربّي الوشلَ على الخدود/ والأخرى القادمة تنسج كفني/ فأيّها الموتُ، على رسلك، انتظر قليلًا/ لأرعى الجنازات على منحدرات الحياة/ (…) فيا حكيمُ، لغتي تخون دمعَ السؤال/ والطريق إليك عسيرُ الممشى/ والأناشيد التي نفخناها في النايات/ توقظ في المدى ألم الكنايات..(ص 6-7). والملاحظ أنّ الموت بترادفاته ودلالاته يحضر في كل سطرٍ تقريبًا: حسير الطلعة، قبر الخلان، دمع على الخدود، كفن، الموت، الجنازات، منحدرات الحياة، دمع السؤال، ألم الكنايات..
وتحافظ المخيّلة الشّعرية على هذا الإحساس بالفراغ والحرمان الثخين في قصيدة أخرى مهداة إلى الشّاعر المصري رفعت سلّام، فضلًا عن أصدقاء ونساء وخلانٍ غابت أسماؤهم وحضرت ظلالهم قويّة في تجاويف الديوان أو على حوافه، لا يهم، فالشّاعر لم يترّدد في رثاء نفسه:
«أبدًا لم أخطئ في موتي/ها أنا جثة حامية البرودة /أصرخ دودًا قادمًا /ونسيانًا جديدًا../ وأراني أمشي إلى قبري فارغًا من انتصاراتي /محشوًا بخيباتٍ في حروبي.. (101)
وقد تعدّدت صوّر الموت في الديوان لتشمل المكان بتنوّع فضاءاته، حيث موت المدينة بعدما انتفخ ورمُ الغياب على الشرفات والجدران والأبواب والعتبات، وحيث الفراغ يكنسُ بيتَ الطفولة القديم والأرض مجرّد هاوية. فيما صار الليل غابةً من فراغ والنهار طابورَ أكفان، ومرّ التاريخ قاحلَ الرأس وعبرت الفصول في حالة حدادٍ، وقد أوجز الشّاعر حين قال:
«لم تكن الأرضُ سوى مقبرة
ونحن جثامينَ نطرّزُ الوقت بالفراغ..(27)
والملاحظ أن حضور الموت في الديوان لم يكن مفتعلًا ولا من باب المحاكاة أو الرغبة في التباكي كما هو الأمر في كثيرٍ من قصائد الرومانسية العربيّة، وإنما يتأسّس هذا الحضور من خلال انفعال الذات الشّاعرة وتفاعلها مع الموت. وقد سبق للشاعرة نازك الملائكة أن تناولت علاقة الكتابة الشّعرية بالموت في كتابها النقدي«قضايا الشعر المعاصر» حيث درست قصائد أبي القاسم الشابي وكيتس وربيرت بروك وآخرين، وتحدّثت عن الانفعال والشّعر والموت، «فالشاعر يحب الانفعال لأنه يؤدي إلى الشعر، على أنه يلاحظ أنّ الانفعال هو الموت لأن الأول طريق محتم إلى الثاني… ومن ثمّ تبدأ مرحلة من الغرام بالموت نفسه تقابل الغرام بالشعر، حتى تصبح الألفاظ الثلاثة في معنى واحد»(280).

باب العزلة

يتقوّى خطاب الذات في قصائد العزلة من خلال ضمير المتكلم الصريح الذي يفصح عن التوتر الشعوري والروحي عبر لغةٍ شعريّة تتنوّع بين الرقة والقسوة، وبين التماهي والجفاء، يقول: «أنا سليل العزلات/ أقضّ الطرقَ بهالة الحفيف/ الغابات بخبطة جناح/ وهذا الكرسي بكآبة الفناجين/وحيرة العابرين/ ولي في الظهيرة مقامُ الغريب/ وخلوة الخلان في عزلة المنفى.. (ص23).
وتصير العزلة ملاذًا خصبًا لتأمّل الأشياء والعناصر وتفكيكها وإعادة تركيبها، وبمثابة الشرفة التي تسمح بالإطلالة على العالم الخارجي، وإدانة الواقع المخيف والحظ الهارب، وصرخة قوية في وجه البشاعة. إنّها الإقامة في أبراج الذات وتشابك مع الفراغ والعدم في متخيّلٍ شعري تتعدّد مكوناته وينابيعه:
«من عزلتي/ أطلّ على صمت الأبدية/ على طريقٍ محفوف بكآبة الأقدام/ على نوافذَ تتهجى سأمَ السماء/ على ظلال تعبر/ وأخرى تلوذ بالنسيان/ من عزلتي/ أراني أغزل الهباءَ/ أهرب منّي/ وأقيم في طفولة الحياة.. (ص 81- 82).
بنظرةٍ تأملية حائرة يحرس صالح لبريني عزلته ويستأمنها على التفاصيل الصغيرة التي تتدفق في قالبٍ شعري عبر متواليات من الاستعارات والصوّر الشعرية: «أذهب كلَّ صباح إلى المقهى مصحوبًا بعزلتي/ تحرسني بلا أسلحة حشود الأحلام/استعارات الندى/ أنا مجرّد قشة في مهب البياض /أحمل قبري/خساراتي بلا تأنيبٍ /انتصاراتي بلا نياشين /فهناك لا شيء.. (71)
يسافر الشاعر في تخوم العزلة، ويروّضها بالحنين إلى الطفولة والرائحة الأولى، وبالإرتكان للذات والإقامة تحت عريشة الخيال، وذلك من منظور وجودي ومنطلقات الشّاعر القلق الذي لا يهادن في تأملاته. وتعتبر قصيدة «لا أحد على الشرفات» نموذجًا قويا لما أردنا توضيحه بخصوص تيمة العزلة في الديوان، يقول في مقطعٍ منها:
« تنزل أدغال حيرتكَ
تحفّكَ عزلة الآتي
فراغٌ/ فراغٌ/ فراغْ
ولاشي هناك
هباءٌ/ هباءٌ/ هباءْ
وهنا عدمٌ داله دمعٌ
وميمهُ ماءٌ عليل
وعينه عمىً يُجلّل هذا الكون..(44)

على سبيل الختام

ديوان «كورال العابرين» هو احتفاء بالموت والغياب والعزلة وأخيلة من مرّوا حاثين السير نحو المجهول. واحتفاء أيضًا بالذات في صفائها وتجلياتها، وباللغة في استعاراتها وانزياحها. وقد حاولنا في هذه القراءة تتبع عوالم الديوان سريعًا، من دون أن ندّعي الإحاطة بها جميعًا، ففي الكورال عوالمٌ كثيرة ووجوه متعدّدة ومسارب قرائية تغري باقتفائها لاستيضاحها، سواءً على مستوى تعدّد مرجعيات القصائد أو على مستوى اللغة التي حافظت على طراوتها وانزياحها من دون تذعن للإسفاف الموجود في بعض نماذج قصيدة النثر. هذا في الوقت الذي تنتظر تجربة لبريني الشّعرية دراسة علمية متأنيّة خصوصًا مع التراكم النصي الحاصل بالدواوين الآتية:»حانة المحو»(2015)، «تغريبة الناي»(2017)، «جدير بعزلة الغريب»(2018)، «الزنجي»(2019).


الكاتب : حسن بولهويشات

  

بتاريخ : 13/01/2023